“ذكرى عطرة للأميرة فاطمة إسماعيل التى أسهمت في بناء هذه الكلية”.. على لوحة رخامية مثبّتة أعلى مدخل كلية الآداب بجامعة القاهرة، كُتبت تلك الكلمات التي تخلّد السيرة الزاخرة للبرنسيس فاطمة، الحاضرة وبقوة في ذاكرة المصريين رغم مرور أكثر من 100 عام على رحيلها (توفيت عام 1920).
وتعتبر فاطمة بنت الخديوي إسماعيل (خامس حكّام مصر من الأسرة العلوية الذي حكمَ البلاد من عام 1863 حتى عام 1879) أحد الرموز البارزة في مسيرة النهضة المصرية في العصر الحديث، ويرجع الفضل لها في وضع اسم مصر على خارطة التقدُّم خلال النصف الأول من القرن العشرين، وذلك حين تبرّعت من مالها الخاص لبناء أول جامعة مصرية عُرفت في البداية باسم “جامعة فؤاد الأول” وثم تغيّر اسمها إلى “الجامعة المصرية” إلى أن تمَّ تغيير اسمها مرة أخرى إلى “جامعة القاهرة” حتى وقتنا الحالي.
تلك الجامعة التي تحولت إلى منبع للعلماء والساسة وكبار رجالات الدولة لاحقًا، والتي تظل بشموخها الحالي خير شاهد على ما قدّمته الأميرة الشابة للشعب المصري، ليس على المستوى التعليمي فقط، إذ كانت مدادًا ثقافيًّا وتربويًّا واجتماعيًّا ودينيًّا لا ينضب معينه.
الأيادي البيضاء للبرنسيس الخديوية لم تتوقف عند الجامعة الأكبر في الشرق الأوسط فقط، بل كان لها إسهامات خيرية مشهودة في شتى المجالات، وبها تربّعت على عرش المصريين رغم الخلافات السياسية بين الشعب ووالدها إبّان فترة حكمه، فماذا نعرف عن صاحبة أكبر وأهم المبادرات التعليمية والخيرية في مصر؟
رائدة الأناقة في مصر المحروسة
كانت الأميرة فاطمة المولودة في 3 يونيو/ حزيران 1853، علامة فارقة في الأناقة والجمال، إذ كانت النموذج الأكثر حضورًا لمعظم الفتيات المصريات في ذلك الوقت، وقد ذاعَ صيتها لما تمتلكه من الحلي والمجوهرات والمعادن النفيسة، هذا بخلاف الملابس الرائعة المصمَّمة على أحدث الطرازات العالمية.
وقد اكتسبت فاطمة جمالها اللافت للنظر من والدتها شهرت فزا هانم، التي سخّرت لابنتها جل وقتها وجهدها، وبعيدًا عن أميرات ذلك الوقت، كانت الأميرة الصغيرة أكثر حرصًا على تلقّي الحد الأدنى من التعليم المنزلي، هذا بخلاف تشبُّعها بالثقافة العامة التي كانت شائعة في ذلك الوقت.
وقفت الأميرة مساحة قدرها 674 فدانًا من أراضيها بمديرية الدقهلية، إضافةً إلى 6 أفدنة ببولاق الدكرور تبرّعت بها لبناء دار الجامعة
وفي سن الـ 18 عامًا تزوجت الأميرة من والي مصر آنذاك، الأمير طوسون بن محمد سعيد باشا، عام 1871، وكان عرسها حديث الشارع المصري والعربي في ذلك الوقت لما شهده من طقوس وإمكانات لم يشهده أي عرس آخر، حتى وُصف زفافها بـ”الأسطوري”.
وتشير الروايات إلى أنها ارتدت في عرسها فستانًا من الحرير الأبيض، صُنع خصيصًا في فرنسا، ومرصّع بأغلى أنواع اللؤلؤ والماس، ويبلغ طوله 15 مترًا تقريبًا، هذا بخلاف ارتدائها تاج من الألماس ثمنه في ذلك الوقت 40 ألف جنيه (الجنيه يساوي حينها 8.5 غرامات من الذهب).
أنجبت الأميرة من طوسون ولدًا وبنتًا، الأمير جميل وشقيقته عصمت، وبعد وفاته عام 1876 تزوجت مرة أخرى من الأمير محمود سري باشا، الذي أنجبت منه 4 أبناء، 3 ذكور وبنت واحدة، وبعد سنوات من التألُّق والتفرُّد أرادت تحويل مسار حياتها، لتقترب أكثر من المصريين عبر مساعدتهم في نهضة بلادهم.. ومن هنا كانت البداية.
الجامعة المصرية
في بدايات القرن العشرين، دعا عدد من أعيان مصر إلى إنشاء جامعة مصرية للحاق بركب التقدُّم العالمي، وبالفعل في أكتوبر/ تشرين أول 1906 اقترحَ رجل الأعمال، مصطفى الغمراوي، القادم من صعيد مصر، بفتح اكتتاب بمبلغ 500 جنيه لتدشين الجامعة، تبعها بالتبرُّع بـ 6 أفدنة لصالح المشروع عام 1907.
في هذا العام اجتمعَ المتحمّسون للفكرة في منزل الزعيم سعد باشا زغلول، واكتتبوا وقتها مبلغ 4585 جنيهًا مصريًّا لتنفيذ حلمهم في بناء كيان تعليمي على أحدث الطرازات العالمية، وفي 20 مايو/ أيار 1908 كانت نقطة انطلاق الجامعة المصرية، حين اجتمع المكتتبون في ديوان عموم الأوقاف برئاسة الأمير أحمد فؤاد الذي أصبح ملكًا فيما بعد.
قدمت الحكومة المصرية وقتها إعانة سنوية قدرها 2000 جنيه، بجانب 5000 جنيه إعانة سنوية قررها ديوان عموم الأوقاف بتوجيه مباشر من الخديوي عباس، وبدأت التبرعات تنهال على الجامعة لكنها لم تكن كافية، بحسب الباحث إبراهيم غانم في كتابه “الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر“.
حين نما إلى مسامع الأميرة فاطمة حالة العجز المالي التي تواجه مشروع الجامعة، بادرت بتقديم وقفية هي الأكبر حجمًا والأبقى أثرًا، ففي 3 يوليو/ تموز 1913 وقفت الأميرة مساحة قدرها 674 فدانًا من أراضيها بمديرية الدقهلية، إضافةً إلى 6 أفدنة ببولاق الدكرور تبرّعت بها لبناء دار الجامعة، كما ذكر غانم في مؤلفه.
وذكرت العديد من الكتب التاريخية واقعة ما زالت تعانق ذاكرة المصريين حتى اليوم، ذلك حين توقفت عملية البناء في كلية الآداب بالجامعة بسبب التعثُّر المالي، فما كان من الأميرة فاطمة إلا أن تبرّعت بمجوهراتها التي تحتوي على “عقد من الزمرد، سوار من ألماس البرلنت، ريشة من ألماس البرلنت، خاتم مركّب عليه فص هرمي من الماس” وغيرها من المجوهرات الأخرى التي قدرت قيمتها وقتها بـ 18 ألف جنيه، الأمر الذي زاد من رصيدها لدى المصريين.
الحفاظ على الهوية الإسلامية لمصر
كان الوقف هو سلاح الأميرة الأبرز لمواجهة المخاطر الثقافية والاجتماعية والفكرية والدينية التي كانت تواجه المصريين، وقد فطنت لذلك بعد سنوات طوال قضتها في مصر، كانت كاشفة عن حجم المعاناة والألم اللذين كان يعايشهما الشعب المقهور.
كان من بين تلك الشروط أن تكون العلوم الدينية في مقدمة العلوم المدرَّسة في الجامعة وبقية الكيانات التعليمية المبنية على وقفها.
في 8 أغسطس/ آب 1896 كان تحرير أول حجّة وقفية للأميرة فاطمة أمام محكمة الفشن الشرعية ببني سويف (جنوب)، حينها كان عمرها 53 عامًا، وكان الوقف عبارة عن 196 فدانًا و21 قيراطًا من الأراضي الزراعية بتلك المديرية، وكانت هذه الوقفية أهلية وليست خيرية.
وفي 13 أغسطس/ آب 1910 أنشأت وقفية ثانية أمام محكمة مصر الشرعية، بلغت مساحتها 4427 فدانًا و12 قيراطًا من الأراضي الزراعية الواقعة في 5 نواحٍ بزمام مديرية الدقهلية، هي: منية سندوب، وسندوب، وأبو داوود العنب، وميت أبو الحسن، ودروه، حيث كان عمرها آنذاك 57 عامًا.
وضعت الأميرة شروطًا محددة للاستفادة من هذا الوقف بعد رحيلها، جاءت في معظمها تحت شعار “الحفاظ على الهوية الإسلامية للدولة المصرية”، لا سيما في ظل انتشار حملات التبشير والتنصير القادمة من أوروبا ومن وسط وجنوب إفريقيا.
فكان من بين تلك الشروط أن تكون العلوم الدينية في مقدمة العلوم المدرَّسة في الجامعة وبقية الكيانات التعليمية المبنية على وقفها، كذلك أن “تكون المدارس مستوفاة لأماكن التدريس والتوابع واللواحق أسوةً بأعظم وأكبر مدرسةٍ من المدارس الأميرية بمصر التابعة للحكومة المصرية، وبشرط أن يكون التعليم فيها مجّانًا بدون مصاريف مطلقًا، وأن يكون المتعلمون والمعلمون وجميع الموظفين بها من المسلمين”.
كما تمسكت بأن يكون العاملون في تلك المؤسسات من المسلمين، وليس معنى ذلك خلو تلك الكيانات من غير المسلمين، إذ كان هناك أعداد كبيرة من المسيحيين، لكن حالة القلق التي سيطرت على الأميرة من التغلغل الأجنبي وخطره على مستقبل البلاد، دفعتها للتأكيد على هوية الدولة الإسلامية في كافة المناحي.
لم يكن الوقف حكرًا على التعليم المدني العام فقط، بل شملَ التعليم الديني كذلك، حيث خصَّصت حصة من ريع وقفها للإنفاق على الفقراء المسلمين من البنين والبنات الموجودين بالمدارس الإسلامية بمصر المحروسة، سواء في المأكل أو المشرب أو الملبس أو نفقات التعليم من مستلزمات وخلافه.
تعزيز القيم والأعراف الحميدة
رغم الحياة الراغدة التي كانت تحياها الأميرة فاطمة، فهي ابنة الخديوي وأحد أكبر أثرياء مصر، ولديها علاقات عائلية متشعّبة في دول الشرق والغرب على حد سواء، إلا أنها ومن خلال وقفها حرصت على تعزيز القيم والأعراف الحميدة في المجتمع المصري، وسعت إلى حماية المجتمع من حالة الانبهار بالنهضة الأوروبية والاستلاب التي كانت مسيطرة على كثير من أبناء المجتمع في تلك لحقبة.
ويمكن قراءة هذا التوجُّه من خلال الاطِّلاع على الشروط التي وضعتها للاستحقاق من ريع وقفياتها، وأصرّت على التمسُّك بها حتى بعد وفاتها، منها حرمان من يشربون الخمر ويلعبون الميسر ويتزوجون من غير المسلمات من أي استحقاقات، فيما يُمنَح نصيبهم للورثة من بعد وفاتهم.
أشاد الرئيس المصري بجهودها الحثيثة ودورها الرائد في دعم الحركة العلمية المصرية.
كذلك أن كلَّ من تداينَ من أولاد وذرية الواقفة الموقوف عليهم بديْنٍ يستوجب توقيع الحجز أو التنفيذ على نصيبه في ريع هذا الوقف، ومنع أولاد وذرية الواقفة الموقوف عليهم من بيع نصيبه في هذا الوقف، أو التنازل عنه لغيره، حفاظًا عليه من التبديد والضياع.
كما اشترطت على كل من أنجبَ من زوجة غير مسلمة حرمان أولاده من هذه الزوجة من الوقف، الأمر ينطبق كذلك على كل من اعتنق دينًا غير الإسلام، وذلك حفاظًا على المجتمع من حالة الاغتراب والتغريب التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وليس عنصرية كما ادّعى البعض.
وتذهب تلك الشروط التي وصفها البعض بالضوابط السلوكية والاجتماعية إلى تحويل الوقف إلى منهج حياة متكامل، يمكن توظيفه لحماية المجتمع من أي أزمات اقتصادية مستقبلية، هذا بخلاف الحفاظ على الموروث الثقافي والأخلاقي والديني للمجتمع.
ورغم ما كانت تتمتع به من ثراء فاحش، إلا أنها لم تترك أي أموال خاصة للانتفاع بها، بل تبرعت بكل ما تملك من حلي وملابس وأراضي لبناء المدارس والإنفاق على الفقراء والمساكين، حتى خدّامها من الرجال والنساء أغدقت عليهم بالكثير من المال ومنحتهم ما يعينهم على الحياة الكريمة.
وقبل أن ترى نتيجة إسهاماتها والدور العظيم الذي قدّمته للتعليم المصري، حتى أنها لُقّبت بـ”راعية العلم”، فارقت الأميرة فاطمة الحياة في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1920 عن عمر ناهز 66 عامًا، تاركة خلفها إرثًا علميًّا وإنسانيًّا خالدًا.
وتقديرًا لما قدّمته للنهضة المصرية، كرّمتها جامعة القاهرة في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1996 في ذكرى الاحتفال بمرور 90 عامًا على إنشائها، حيث أقامت الجامعة مهرجانًا خاصًّا لها تضمّن صورها وصور المجوهرات التي تبرّعت بها للجامعة قبل أكثر من 115 عامًا.
وعلى هامش المؤتمر السادس للشباب الذى عُقد بجامعة القاهرة في 30 يوليو/ تموز 2018 ، أشادَ الرئيس المصري بجهودها الحثيثة ودورها الرائد في دعم الحركة العلمية المصرية، قائلًا في كلمة وجّهها لروحها: “سيبقى اسمها قرين العلم والمعرفة، واستحقّت الخلود في قلوب المصريين”.