التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمس الإثنين 13 من سبتمبر/أيلول 2021، بمنتجع شرم الشيخ المصري، في زيارة هي الأولى من نوعها منذ زيارة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، قبل 11 عامًا.
الزيارة جاءت بناءً على دعوة من الرئيس المصري قدمها رئيس المخابرات عباس كامل، في 18 من أغسطس/آب الماضي، فيما رافق موعد الزيارة تكتمًا شديدًا من الطرفين لاعتبارات أمنية في ظل المستجدات الإقليمية والدولية التي تشهدها الساحة خلال الفترة الماضية.
واستمر اللقاء الانفرادي بين السيسي وبينيت قرابة 3 ساعات قبل مشاركة أعضاء وفدي البلدين فيما بعد، إذ ناقشا العديد من الملفات السياسية والأمنية، فيما تم الاتفاق على تنظيم رحلات جوية مباشرة بين القاهرة ودولة الاحتلال، لأول مرة منذ عام 1967.
الزيارة تزامنت مع تصاعد التوتر على الجبهة الفلسطينية، حيث استمرار مطاردة الأسيرين الفارين من سجن جلبوع، بعد اعتقال الأربعة الآخرين، بجانب تنفيذ عمليتي طعن أمس في القدس، الأمر الذي أضفى أهمية نسبية على الزيارة الخاطفة التي تأتي استكمالًا لمسلسل الخنوع العربي نحو التقارب مع دولة الاحتلال.
عزيزي بينيت
في أكتوبر/تشرين الأول عام 2012 شن إعلام الثورة المضادة المصري حملة شعواء ضد الرئيس الراحل محمد مرسي إثر تسريب صورة من خطاب اعتماد السفير المصري الجديد في “إسرائيل” عاطف سالم الذى سلمه للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، فقد استهل مرسي الخطاب بعبارة “عزيزي بيريز” حسب البروتوكولات الدبلوماسية، واتهم حينها بالتعاون مع دولة الاحتلال وتسليم سيناء وما لغير ذلك من الاتهامات الممنهجة التي كانت تأتي في إطار خطة التشويه التي نجحت على كل حال في تحقيق أهدافها.
اليوم وبعد مرور 9 سنوات تقريبًا يلتقي السيسي رئيس وزراء الحكومة العبرية، اليميني المتطرف، بناءً على دعوة شخصية منه، حيث الابتسامات المتبادلة والسلام الحار والاستقبال الحافل، وهي المقابلة التي وصفها بينيت بأنها “تعكس العلاقات الدافئة بين النظامين”.
وخلافًا لما جرى العرف عليه خلال زيارات مسؤولي دولة الاحتلال السابقين لمصر، وبعيدًا عن أي التزامات بروتوكولية، اهتم الجانب المصري بوضع العلم الإسرائيلي خلف بينيت، بجوار العلم المصري، في إشارة تعكس حجم التقدير والاحتفاء المصري للحكومة الإسرائيلية.
ألوان الملابس التي ارتداها الرئيس المصري خلال اللقاء كانت هي الأخرى مثار جدل لدى كثير من المتابعين، فرابطة العنق ذات اللون الأزرق، والقميص الأبيض، وهي نفس ألوان العلم الإسرائيلي، اعتبرها البعض رسالة تقارب واحتفاء بالحليف العبري، حتى إن رآها البعض مصادفة لا ترتقي لمستوى الدليل القاطع، لكن في السياسة ليس هناك مجال للصدف، فلكل سكنة وحركة دلالة، تعكس مؤشرًا وتبعث برسالة.
وفي الوقت الذي تدفقت فيه دماء العروبة في شرايين الإعلام المصري إبان تسريب خطاب مرسي “المتعمد”، دفاعًا عن القضية الفلسطينية وتجريم التقارب مع دولة الاحتلال، يتسابق إعلام اليوم احتفاءً بلقاء السيسي – بينيت الذي وصفه بالتاريخي الذي يعكس قوة الدولة المصرية ودورها الريادي إقليميًا.
أول زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي للقاهرة بعد ثورة يناير ، السيسي يستقبل “نفتالي بنيت” بكرافتة بلون علم الدولة العبرية ؟! pic.twitter.com/prsOqFpS8H
— جمال سلطان (@GamalSultan1) September 13, 2021
أمن “إسرائيل”.. الهدف الأكبر
العنوان الأبرز الذي ركز عليه الإعلام العبري خلال الاحتفاء بالاستقبال الهائل لرئيس الحكومة خلال زيارته للمنتجع المصري كان يتعلق بـ”أمن إسرائيل”، فرغم تعدد الملفات التي يحملها بينيت في حقيبته، فإن الأمن هو الملف الأهم والأخطر الذي احتل نصيب الأسد خلال المباحثات التي استمرت عدة ساعات.
بحسب تقرير لقناة “كان” الرسمية الإسرائيلية، كشفت أن اللقاء الذي جمع السيسي وبينيت تناول عددًا من القضايا المركزية والإقليمية ضمت إيران وتركيا وليبيا والقضية الفلسطينية، لكن أكثر الملفات استحواذًا على المباحثات هو تحجيم المقاومة الفلسطينية بما يضمن أمن واستقرار دولة الاحتلال.
القناة نقلت عن مصادر خاصة بها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي طلب من السيسي إيقاف تعاظم قوة فصائل المقاومة وعلى رأسها حركة حماس، وذلك من خلال رفع مستوى الرقابة في معبر رفح البري، المنفذ الوحيد للقطاع على مصر والخارج.
تلعب تل أبيب على وتر أوراق الضغط المصرية بحق المقاومة، وعلى رأسها معبر رفح، وأنفاق تهريب السلاح والمواد الغذائية، إذ قطع الجانب المصري أشواطًا كثيرةً في تجفيف تلك المنابع وتضييق الخناق على مليوني فلسطيني في القطاع
وردًا على هذا الطلب، فقد أوردت القناة الـ13 العبرية أن الرئيس المصري أبلغ بينيت أن بلاده ستعمل على منع إطلاق الصواريخ من غزة، ويتناغم هذا الرد مع ما أثير مؤخرًا بشأن الضغوط التي مارسها الجانب المصري على حماس عبر غلق معبر رفح بين الحين والآخر دون أسباب، لإثناء المقاومة عن استهداف دولة الاحتلال بالبالونات الحارقة، التي رغم تأثيرها المادي المتواضع، فإنها تحدث حالة من الهلع والخوف في صفوف المستوطنين.
يتعامل السيسي مع أمن دولة الاحتلال على أنها مسألة أمن قومي بالنسبة له، مسخرًا كل إمكانات الدولة وقدراتها التسليحية لضمان استقرار الدولة الحليفة، وسواء كان ذلك لاعتبارات سياسية تسويقية لنظامه أم لاعتبارات أمنية مستقبلية فإن النتيجة واحدة.. أمن “إسرائيل” مسألة مصرية خالصة، هكذا يمكن قراءة التوجهات والتحركات المصرية في هذا الإطار.
التعبير علانية عن هذا التوجه بدأ في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، خلال لقاء السيسي مع قناة “فرانس 24” الفرنسية، حين صرح بأنه لن يسمح بأن يتم تهديد أمن “إسرائيل” من خلال سيناء، قائلًا “نأخذ إجراءات أمنية لتأكيد سيادتنا عليها، ولنؤكد أننا لن نسمح بأن تتخذ سيناء قاعدةً لتهديد جيراننا أو منطقة خلفية لهجمات ضد “إسرائيل””.
ونتاجًا لتلك السياسة غير المعهودة حتى خلال فترة الرئيس أنور السادات، صاحب اتفاقية كامب ديفيد، بات الإعلام العبري يتعامل مع السيسي على أنه “فرصة تاريخية” لا بد من استغلالها قدر الإمكان، فليس من المضمون أن تتكرر مستقبلًا، وعليه كان الدعم المطلق لنظامه، سياسيًا وإعلاميًا، أمام الانتقادات الدولية عقب الانقلاب العسكري الذي قاده في 2013 ضد أول رئيس مدني منتخب.
القضية الفلسطينية.. تشابكات سياسية واقتصادية
الزيارة سبقتها تحركات دبلوماسية مكثفة خلال الأيام العشر الماضية، في إطار المسار التفاوضي للقضية الفلسطينية، البداية كانت في 2 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، حين استضافت القاهرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني عبد الله بن حسين، لبحث العديد من الملفات، بينها القضايا الفلسطينية.
وبعد 3 أيام على هذا اللقاء، وفي الـ5 من الشهر ذاته، أجرى السيسي اتصالًا هاتفيًا بنظيره الإسرائيلي يتسحاق هرتسوج، وفي الـ8 من الشهر الحاليّ، زار رئيس مجلس الأمن القومي العبري، إيال حولتا، القاهرة، للتحضير لزيارة رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية التي جرت بالأمس.
يرى الخبراء أن الزيارة “أمنية بامتياز” تتضمن العديد من الملفات التي تندرج تحت هذا العنوان الكبير، كملفات تبادل الأسرى والتهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بجانب الحديث عن إعادة إعمار غزة ومساعي تجفيف منابع سلاح المقاومة التي فرضت نفسها كلاعب رئيسي في المعادلة رغم محاولات التهميش وتضييق الخناق الممارس بحقها منذ سنوات.
تلعب تل أبيب على وتر أوراق الضغط المصرية بحق المقاومة، وعلى رأسها معبر رفح، وأنفاق تهريب السلاح والمواد الغذائية، إذ قطع الجانب المصري أشواطًا كثيرةً في تجفيف تلك المنابع وتضييق الخناق على مليوني فلسطيني في القطاع نكاية في حماس وتفرعاتها، ودعمًا للحليف الإسرائيلي.
أما فيما يتعلق بتسريع وتيرة مباحثات السلام مع الفلسطينيين، فليس هناك دافع لهرولة الجانب الإسرائيلي نحو دعم هذا الملف، فالأوضاع بصيغتها الحاليّة تصب في صالح أجندتهم التوسعية في ظل موجات الدعم العربي لتل أبيب عبر قطار التطبيع، وذلك على حساب حقوق الشعب الفلسطيني الذي يعاني من الأعداء والأشقاء على حد سواء.
السيسي يحاول الحفاظ على دفء العلاقات مع الحكومة العبرية الحاليّة، اليمينية المتشددة، بنفس درجة الحرارة مع حكومة نتنياهو السابقة، لأبعاد سياسية واقتصادية وأمنية متعدة
مغازلة المجتمع الدولي
اللقاء المصري مع رئيس الحكومة المتشدد لا شك أنه يحمل رسالة مبطنة للخارج، مفادها أن لمصر دورًا وتأثيرًا قويًا في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وأن حلحلة القضية الفلسطينية وتبريدها إن تطلب الأمر، لا يمكن أن يكون بمعزل عن القاهرة، وهو ما سيعزز وضعية النظام المصري.
نجحت مصر ومعها قطر خلال الأزمة الأخيرة في تأكيد ثقلهما الإقليمي وقدرتهما على تحريك المياه الراكدة في بعض ملفات المنطقة، إذ كان لهما حضور قوي وفعال في وقف الحرب بين دولة الاحتلال وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” والجلوس على مائدة المفاوضات وبحث سبل التهدئة والدفع بملف تبادل الأسرى للأمام.
تعزيز التقارب مع تل أبيب لا شك أنه يرفع أسهم نظام السيسي عند الأمريكان وبعض العواصم الأوروبية، كما أنه يقلل بالتبعية حجم الانتقادات الأمريكية ضد مصر إزاء الملف الحقوقي، ما يقلل من فرص اقتطاع واشنطن جزءًا من المعونة العسكرية السنوية المقدمة لمصر والمقدرة بـ1.3 مليار دولار.
صحيفة “هآرتس” العبرية في مقال لها، أمس الإثنين، 13 من سبتمبر/أيلول، أكدت أن تدخل مصر لوقف التصعيد العسكري بين حماس و”إسرائيل” كان بمثابة “فرملة” للإدارة الأمريكية التي كانت على بعد أمتار قليلة من تعامل شديد وقاسٍ مع مصر بسبب وضعها الحقوقي المذري.
ويمكن قراءة المغازلة المصرية للمجتمع الدولي بصورة أكثر وضوحًا بعد إعلان الرئيس المصري، الساعات الماضية، ما أسماه “الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان“، تلك الوثيقة التي يسعى السيسي من خلالها تصدير صورة الرئيس الإصلاحي التقدمي، ناصر المرأة وداعم ذوي الاحتياجات الخاصة والمؤيد الأبرز للحريات الدينية وحامل لواء تجديد الخطاب الديني، والقامع لأي أفكار متطرفة من شأنها أن تعكر صفو المجتمع المتناغم.
مآرب أخرى
تضع القاهرة نصب أعينها خلال مساعيها نحو التقارب مع تل أبيب العديد من الملفات الأخرى التي تمثل أهميةً إستراتيجيةً للنظام والدولة المصرية معًا، على رأسها الملف الاقتصادي، حيث غاز شرق المتوسط ومستقبل الوجود المصري في الأسواق الأوروبية عبر مشروعات إسالة الغاز.
ورغم التغريد الإسرائيلي المنفرد في هذا المسار وسحب البساط من تحت أقدام مصر كمركز إقليمي لتصدير الغاز المسال لأوروبا، وهي الضربات التي أثارت حفيظة الشارع المصري قبل عدة أشهر، فإن نظام السيسي ما زال يعول على حلفائه في “إسرائيل” لفتح الباب أمام المصريين لغزو السوق العالمي.
ربما لا يحمل بينيت خلال زيارته الأخيرة لشرم الشيخ أي ملفات اقتصادية على جدول أعمال اللقاء، إلا أن الزيارة في حد ذاتها يمكن الاستناد إليها كقاعدة قوية لتعزيز التعاون بين البلدين في المجالات كافة، وهو ما يأمله السيسي الذي يواجه تحديات اقتصادية كبيرة.
ملف سد النهضة هو الآخر لم يغب عن الرؤية المصرية خلال اللقاء، لا سيما مع ما يثار بشأن الدعم الإسرائيلي غير المسبوق لحكومة آبي أحمد، ورغم النفي المتكرر من الجانب الإسرائيلي لدعم الموقف الإثيوبي في مواجهة نظيره المصري، إلا أن كل المؤشرات السابقة خلال السنوات القليلة الماضية تؤكد أن “إسرائيل” والإمارات هما الحاضنتان الكبريان – سياسيًا واقتصاديًا – للحكومة الإثيوبية الحاليّة في مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها على المستوى الداخلي.
من الواضح أن السيسي يحاول الحفاظ على دفء العلاقات مع الحكومة العبرية الحاليّة، اليمينية المتشددة، بنفس درجة الحرارة مع حكومة نتنياهو السابقة، لأبعاد سياسية واقتصادية وأمنية متعدة، ولا يمكن قراءة هذا التوجه بمعزل عن قطار التطبيع الذي انطلق من محطة أبو ظبي، في سبتمبر/أيلول الماضي، مرورًا بالمنامة ثم الرباط ومنها إلى الخرطوم.
لقاء السيسي – بينيت ربما لم يقدم الجديد، لكنه أعاد تأكيد عمق العلاقات بين البلدين، التي من المتوقع أن تستمر على نفس الوتيرة مع الحكومة الجديدة، رغم الخلافات الجوهرية في التوجهات، والعبث الإسرائيلي بمقدرات الأمن القومي المصري في أكثر من ملف، إذ بات من الواضح أن صورة السيسي الوردية الإصلاحية، الزعيم المرضي عنه لدى رجل الشارع الإسرائيلي ومن ثم الأوروبي والأمريكي، مقدمة على مرتكزات بلاده التاريخية وثقلها الإقليمي والدولي ومزاج شعبه السياسي، ليستمر الجنرال في سياسته التي لا تهدف إلا لترسيخ أركان نظامه دون أي اعتبارات أخرى.