خلال اليومين الأخيرين، برز في تونس اسم شركة “إنستالينغو” التي تعد من بين أهم شركات ترجمة المحتوى الرقمي في المنطقة العربية، بروز اسمها لم يكن مرده الحديث عن دورها المهم في صناعة المحتوى الرقمي بكل أنواعه ورؤيتها المستقبلية لجعل تونس مركز دولي لصناعة المحتوى الرقمي وريادة الأعمال، بل نتيجة اتهامها بالجوسسة والتآمر على أمن الدولة.
اتهامات ترفضها إدارة الشركة، مؤكدة وجود دول أجنبية – عُرفت بعدائها للتجربة الديمقراطية في تونس والمنطقة العربية ككل – تقف وراء هذه الادعاءات التي وصفتها بالباطلة، فما القصة؟
بداية التتبع
مطلع الشهر الحاليّ، تعرضت شركة “إنستالينغو” (Instalingo) الموجودة بمدينة القلعة الكبرى (محافظة سوسة) لمداهمة قوات أمن بزي مدني دون إظهار إذن قضائي، وتم احتجاز معدات الشركة، بعد ذلك توالت الاستدعاءات الموجهة للعاملين هناك للتحقيق معهم.
نهاية الأسبوع الماضي، أذنت النيابة العمومية، بالاحتفاظ بـ6 أشخاص من بينهم صحفيون يعملون بالشركة المختصة في صناعة المحتوى والاتصال الرقمي على ذمة التحقيق، وتقول المحكمة الابتدائية بسوسة إن فتح التحقيق تم بناء على ورود معلومات عن فرقة أمنية مختصة بـ”الاشتباه في تورط هذه الشركة في شبهة الاعتداء على أمن الدولة الداخلي وتبييض الأموال والإساءة للغير عبر شبكة الاتصال العمومي”.
يتهم هيثم الكحيلي جهات أجنبية بالوقوف وراء القضية المرفوعة ضد الشركة التي أسسها قبل سنوات
أوضح المتحدث باسم المحكمة علي عبد المولى، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، أن النيابة العمومية أذنت كذلك بإدراج 3 أشخاص بالتفتيش وهم صاحب الشركة وزوجته وطرف ثالث باعتبارهم خارج أرض الوطن، وذلك بعد اتخاذ إجراء بمنع السفر في حق المشتبه بهم الست.
كما لفت علي عبد المولى إلى أن “عناصر الفرقة الأمنية المختصة قاموا بعد إذن النيابة العمومية بحجز 23 وحدة مركزية كانت بحوزة العاملين بهذه الشركة ليتم عرضها على مخبر التحاليل الفنية، إلى جانب عرض الأشخاص والذوات المعنوية على الاختبارات الفنية والمالية”.
بعد عرضهم على قاضي التحقيق، تم تمديد توقيف الأشخاص الست الموضوعين على ذمة القضية، دون بيان مدة التمديد، للاشتباه في ارتكابهم مخالفات بينها الاعتداء على أمن الدولة الداخلي وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي.
نفي التهم
هذه التهم نفتها إدارة الشركة بصفة قطعية، وأكدت الإدارة “إرغام كل موظفي الشركة، مترجمين وصحفيين وإداريين، على الحضور قسرًا طيلة ثلاثة أيام لدى جهة أمنية ليتم التحقيق معهم دون حضور محامٍ”، وأوضحت أنه “بعد أسبوع كامل من التحقيقات لم يعثروا على أي شيء يدين الشركة أو موظفيها بما ورد في لائحة الاتهام”.
يقول مدير شركة إنستالينغو هيثم الكحيلي في حديثه لنون بوست: “تم التنصت على العاملين في الشركة لأكثر من 3 أشهر، كما تمت ملاحقتهم سريًا والقيام بمداهمة وتحقيقات خارج إطار القانون، مع ذلك لم تفض إلى أي شيء بتاتًا”.
وأوضح محدثنا أن اللاقط الذي تم حجزه هو “جهاز استقبال الإنترنت مملوك لشركة “Orange” للاتصالات ويعمل بتقنية الـ”faisceaux hertziens” فوق سطح البناية وهي تقنية مثل الـadsl والألياف الضوئية وخدمة تقدمها هذه الشركة للشركات الموجودة في مناطق لا تصلها خدمة الألياف الضوئية”.
أما بالنسبة لباقي الأجهزة التي تم حجزها “فهي أجهزة كمبيوتر متوسطة، ليست على أعلى طراز، وليست ضعيفة، هي أجهزة عادية اشترتها الشركة من السوق التونسية وبقرض من بنك تونس لم يتم سداد إلا ثلثه إلى الآن”.
وأكد الكحيلي “لا وجود بتاتًا لأي قرار بغلق أو تعليق أنشطة الشركة من جهة رسمية إلا بعض الأمنيين المجهولين الذين كانوا يصرخون بضرورة عدم العودة للشركة وهو ما لا أثر له قانونيًا”، مع ذلك قرر هيثم الكحيلي تصفية الشركة وتسريح كل موظفيها البالغ عددهم 91 موظفًا مراعاة وحفظًا لسلامتهم الجسدية، وفق قوله.
يضيف الكحيلي “الفرق الأمنية بدأت البحث بناءً على وشاية مفادها وجود شركة جوسسة ووحدة استخباراتية وأجهزة متطورة وأعمال إرهابية تستهدف حياة رئيس الجمهورية، لكنها قامت بسؤال الصحفيين عن سبب كتابتهم لتقرير اقتبسوا فيه كلامًا لكبير أساتذة القانون الدستوري، عياض بن عاشور، الذي قال فيه إن ما قام به قيس سعيد في ليلة 25 من يوليو/تموز الماضي هو انحراف يمكن وصفه بالانقلاب على الدستور.
كما تم سؤالهم عن تقرير آخر ورد فيه أن التونسيين يدعمون جهود قيس سعيد لمحاربة الفساد في كل مكان، بما في ذلك داخل البرلمان، لكن يجب أن لا تتحول محاربة الفساد إلى شماعة لتبرير الجمع بين كل السلطات”.
من جملة الأسئلة التي طُرحت على الصحفيين في أثناء التحقيق معهم: لماذا تكتبون هذا ولا تكتبون ذلك؟ ومن المسؤول عن الخط التحريري للمؤسسة؟ ومن تدعمون؟ ومن تعارضون؟ أي أنها أسئلة تتعلق بالشأن التحريري.
وشهدت تونس، ليلة 25 من يوليو/تموز الماضي، تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي والعديد من الوزراء والمسؤولين، بحجّة منع الدولة من الانهيار ومكافحة الفساد، وهو ما اعتبرته أغلب الأحزاب السياسية “انقلابًا دستوريًّا”.
عقب ذلك التاريخ، عرفت تونس انتكاسة حقوقية كبرى، إذ خضعت الكثير من الشخصيات – بينهم قضاة وموظفون كبار في الدولة وموظفون في الخدمة المدنية ورجال أعمال وأحد البرلمانيين – لقرار منع السفر والإقامة الجبرية دون أي إذن قضائي، كما تم التضييق على الصحفيين والاعتداء على المتظاهرين.
جهات أجنبية وراء القضية
يتهم هيثم الكحيلي جهات أجنبية بالوقوف وراء القضية المرفوعة ضد الشركة التي أسسها قبل سنوات، في هذا الشأن يقول الكحيلي “قد يخيل للوهلة الأولى أن الموضوع مرتبط بغيرة رجال الدولة التونسية على هيبة الرئيس والرئاسة، لكن الصدمة الحقيقية تكون عندما نجد أسئلة تطرح على موظفي الشركة، صحفيين وآخرين، عن رجل الإمارات في المنطقة محمد دحلان”.
تعلق موضوع الأسئلة الموجهة للعاملين في الشركة أيضًا بوجود محتوى تنتجه إنستالينغو لمؤسسات إعلامية عربية يتضمن تهجمًا على شخص المستشار الإماراتي محمد دحلان المعروف بأنه عراب مشروع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وفق قول الكحيلي.
ويعرف عن محمد دحلان أنه “أخطبوط المؤامرات” و”عراب الانقلابات”، وهو مبعوث أبناء زايد في المنطقة العربية لتنفيذ أجندتهم الإقليمية، فتاريخ الرجل وباعه الطويل في التجسس والتآمر والخيانة، سواء على بني شعبه أم بني أمته، هو جواز سفره المعتمد لتحويله إلى قبلة يقصدها العابثون في مقدرات الشعوب.
يذكر أن دحلان، الذي يحظى في كل تحركاته بدعم سخي ورعاية كريمة من صديقه الحميم ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، نسج علاقات مع قيادات من النظام السابق في تونس ومن اليسار الأيديولوجي ومن القوميين وبعض معارضي الثورة التونسية.
يقول هيثم الكحيلي في حديثه لنون بوست: “لا يعرفون صفة أو اسم الأشخاص الذين طرحوا هذه الأسئلة على الموظفين، ورغم أن كل التحقيقات حدثت داخل مؤسسات الدولة لكن كانت خارج إطار القانون”.
عرفت تونس منذ بدء العمل بالإجراءات الاستثنائية التي أقرها قيس سعيد، تضييقات كبيرة ضد الصحفيين
يتابع “طيلة أكثر من أسبوع تم استدعاء واستنطاق أكثر من 60 من موظفي الشركة الحاليّين والسابقين، دون تقديم أي استدعاء رسمي ودون السماح بحضور أي محامٍ رغم توفير الشركة لمحامين أكفاء، وطبعًا لم يدون في المحاضر التي قدمت لاحقًا إلا ما أريد له أن يدون”.
ويؤكد محدثنا “قيام جهات أجنبية باستغلال أجهزة الدولة التونسية، خارج إطار القانون، للانتقام من مؤسسة إعلامية تونسية أنتجت محتوى مناهض لمشروع التطبيع ولصاحبه محمد دحلان، والأخطر من ذلك أنها فعلت ما فعلت تحت غطاء الدفاع عن رئيس الجمهورية التونسية، فالمكتوب على الورق الرسمي هو تحقيقات بشأن محتوى ناقد لرئيس الجمهورية”.
عُرفت شركة إنستالينغو التي تأسست سنة 2014، بإنتاج محتوى رقمي مهم في المنطقة العربية، يساند الثورات العربية ويناهض التطبيع مع الكيان الصهيوني، فضلًا عن دورها المهم في التعريف بإمكانيات الدول العربية السياحية والثقافية والترويج للوجهات العربية.
تحميل مسؤوليات
إزاء ما تتعرض له شركة إنستالينغو من انتهاكات، حمّلت إدارة الشركة رئاسة الجمهورية التونسية المسؤولية الكاملة عن السلامة الجسدية لكل موظفيها وكل المتعاونين معها وعائلاتهم.
وطالبت الشركة رئيس الجمهورية بالتدخل لوضع حد لحالة التحريض الهمجية التي انطلقت من أنصاره ضدها، وشهدت الأيام الماضية حملةً كبيرةً ضد الشركة والعاملين بها، بعد اتهامهم بالتجسس والتآمر على أمن الدولة.
إلى جانب ذلك، دعت إدارة الشركة “النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ومنظمة العفو الدولية ومراسلون بلا حدود- الشرق الأوسط” إلى التدخل العاجل للدفاع عن 22 صحفيًا يعملون في الشركة تم انتهاك كل حقوقهم المهنية من الاستحواذ على هواتفهم وحواسيبهم إلى إخضاعهم لتحقيقات دون حضور محاميهم أو محامي الشركة، وسؤالهم عن جزئيات في صميم عملهم الصحفي ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالتهم موضوع البحث”.
حرية التعبير.. انتكاسة جديدة
تمثل متابعة شركة إنستالينغو التي تختص في إنتاج المحتوى الرقمي وتشغل أكثر من 20 صحفيًا، بتهم تتعلق بالجوسسة والتآمر على أمن الدولة والرئيس قيس سعيد، انتكاسة جديدة في سجل حرية التعبير في تونس وفق العديد من الصحفيين.
وكانت “الشركة تسعى في إطار رؤيتها المستقبلية إلى جعل تونس مركز دولي لصناعة المحتوى الرقمي وريادة الأعمال، لتكون وجهة لكل المؤسسات الإعلامية العالمية الراغبة في الانتقال من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد”، وفق مؤسسها لكن يبدو أن العديد من الأطراف لا يسعدهم ذلك.
يؤكد الكحيلي أن “إنستالينغو تتعامل مع كبريات المؤسسات الإعلامية الرائدة في العالم، في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي، وفي أوروبا، وكل معاملاتها في إطار القانون ولا غبار عليها”، ويعتبر أن شركته “تعمل على مستوى عال من الشفافية والانضباط لقواعد الممارسات السليمة المتصلة بها”.
عرفت تونس منذ بدء العمل بالإجراءات الاستثنائية التي أقرها قيس سعيد، تضييقات كبيرة ضد الصحفيين، شملت غلق مقر قناة الجزيرة وطرد جميع الصحفيين منه، بالإضافة إلى منع العديد من الصحفيين من أداء عملهم وافتكاك الهواتف النقالة لبعض الصحفيين منهم العاملون في مؤسسات أجنبية ومنهم في مؤسسات تونسية، دون تقديم أي سبب لذلك إلا أن حجتهم كانت تتمثل في تطبيق قانون الطوارئ، إلى جانب التحكم في المشهد الإعلامي المحلي.
وأوضح تقرير للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) أن وسائل الإعلام أتاحت منذ 25 من يوليو/تموز حيّزًا زمنيًا بلغ نحو 24% لحركة الشعب وأكثر من 12% لتونس للأمام و7% لحزب العمال وأقلّ من 3% للنهضة من بين أحزاب أخرى.
وأضاف التقرير أن الحيّز الذي أتيح لداعمي الرئيس قيس سعيد بلغ أكثر من 78% مقابل نحو 22% فقط لمعارضيه، فيما أتاحت القناة الوطنية الأولى لداعمي سعيد حيزًا زمنيًا بلغ 93% مقابل 7% لمعارضيه، نفس القناة خصصت أكثر من 3 ساعات و20 دقيقة لرئيس الجمهورية ومستشاريه مقابل 12 دقيقة للحكومة و6 دقائق فقط لرئيس مجلس النواب ونائبيه.
كل هذا يؤكد أن تونس التي تحتل المرتبة الـ73 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة حسب تقرير منظمة مراسلون بلا حدود لعام 2021، تشهد انتكاسة كبرى في مجال حرية الصحافة والتعبير.