اضطر محمد، أحد السوريين المقيمين في تركيا، إلى استئجار منزل عبارة عن “بودروم” (قبو) لا تتجاوز مساحته الـ 60 مترًا مربّعًا في أحد الأبنية القديمة في منطقة الفاتح في محافظة إسطنبول، بعد رحلة طويلة من البحث عن منزل للسكن استمرت عدة شهور، رغم دفع محمد مبلغ مضاعف من المال مقابل الحصول على هذا المنزل.
وصف محمد هذه الرحلة بـ”اليائسة”، بعدما صُدم بالارتفاع الكبير في أسعار إيجار المنازل التي لا تتناسب مع الدخل الشهري للفرد المقيم في تركيا، إضافة إلى رفض العديد من أصحاب المنازل التركية تأجيره كونه أجنبيًّا ولا يحمل الجنسية التركية، حيث يعاني محمد العديد من المشاكل في هذا البيت الصغير، ولعلّ أهمها حسب وصفه مشكلة الرطوبة الشديدة التي تسبّبت في مشاكل صحّية لأطفاله.
رغم النمو الكبير والمتسارع في بناء المشاريع العمرانية الذي تشهده مدينة إسطنبول، إلا أنه لا يسدّ حاجة الكثير من المقيمين في المدينة من المواطنين الأتراك والوافدين الأجانب للمنازل السكنية، بسبب الهوّة الكبيرة التي تشكلت في الفترة الأخيرة بين حجم العرض والطلب في المنازل السكنية، ما أدّى إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار إيجار هذه الوحدات.
نستعرضُ معكم في هذا التقرير مشكلة الارتفاع الكبير في نسبة إيجار العقارات في إسطنبول، وأهم أسباب هذه الزيادة الفاحشة وما شكّلته من عائق وهاجس أمام الراغبين في الحصول على مسكن مناسب.
زيادة متصاعدة
ارتفعت نسبة الزيادة السنوية في معدل الإيجار السنوي في إسطنبول لتبلغ 33.7% لعام 2021 لترتفع بمعدل 9.7% مقارنة بالعام الماضي حيث بلغت آنذاك 24%، أدّت هذه الزيادة إلى ارتفاع متوسط إيجار المتر المربع الواحد في إسطنبول من 20 ليرة في عام 2020 إلى 27.1 في عام 2021.
بحسب قانون الديون التركي، فإن الزيادة السنوية للإيجار تُحسَب بمعدل الزيادة في مؤشر أسعار المنتجين، لكن بعد التعديل الأخير الذي أُجري على القانون والذي دخلَ حيّز التنفيذ بداية عام 2019، أصبحت الزيادة السنوية في معدل الإيجار تُحسَب وفقًا لمتوسّط مؤشِّر أسعار المستهلك لمدة 12 شهرًا.
جاءت كل من منطقتَي سانجاك تبه وأرناؤوط كوي في قائمة أرخص المناطق في قيمة إيجار المنازل بنمط 2+1 (غرفتان وصالة) في بناء متوسط عمره 10 سنوات بقيمة 1000 ليرة تركية.
بلغ معدل التضخُّم السنوي بدءًا من يوليو/ تموز 2020 حتى أغسطس/ آب 2021 في مؤشر أسعار المستهلك 18.95%، بينما بلغ معدل التضخُّم في مؤشر أسعار المنتجين 44.92%، وبالتالي استنادًا على نسبة الارتفاع في مؤشر أسعار المستهلك حدّدت هيئة الإحصاء التركية (TÜİK) معدل الزيادة في الإيجار لشهر أغسطس/ آب عام 2021 بنسبة أقصاها 15.15% من قيمة الإيجار الأخير المتّفق عليه، استنادًا على ما سبق يحقّ لصاحب الشقة البالغ إيجارها 2000 ليرة تركية رفع قيمة الإيجار حتى 2303 ليرة تركية.
تصدرت منطقتا كركوي وبشكتاش قائمة أغلى المناطق بالنسبة إلى قيمة الإيجار الشهري للمنازل السكنية، حيث بلغت قيمة إيجار الشقة بنمط 2+1 (غرفتان وصالة) في بناء متوسط عمره 10 سنوات 4000 ليرة تركية، وجاءت في المرتبة الثانية منطقة كاديكوي في القسم الآسيوي من إسطنبول بقيمة 3750 ليرة تركية، تلتها منطقتا شيلا وساريير بقيمة 3000 ليرة تركية.
فيما جاءت كل من منطقتَي سانجاك تبه وأرناؤوط كوي في قائمة أرخص المناطق في قيمة إيجار المنازل، بالنمط السابق نفسه بقيمة 1000 ليرة تركية، تلتها في المرتبة الثانية منطقة توزلا بقيمة 1100 ليرة تركية، واحتلت كل من منطقة بيكوز وتشاطالجا واسنيورت المرتبة الثالثة بقيمة 1250 ليرة تركية.
أسباب الزيادة
يُعتبَر انخفاض سعر الصرف لليرة التركية مقابل العملات الأجنبية من أكبر الصدمات التي تلقّاها الاقتصاد التركي خاصة في عام 2018، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الفائدة على القروض المصرفية، حيث ساهم هذا الارتفاع في إبطاء حركة البدء بإنشاء مشاريع سكنية جديدة من قبل شركات المقاولات التركية، التي تعتمد بشكل كبير على القروض المصرفية في بناء مشاريعها، إضافة إلى ارتفاع أسعار مواد البناء وتكاليف التشغيل والعمالة بعد جائحة كوفيد-19، ما أدّى إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار العقارات والشقق السكنية الجديدة.
وفي السياق ذاته أدّت هذه الزيادة إلى عدول الكثير من المواطنين الأتراك عن فكرة شراء العقارات واللجوء إلى فكرة استئجار منزل سكني كحلٍّ بديل، خوفًا من تراكم الديون عليهم للجهات المقرضة، حيث بلغت نسبة بيع العقارات للمواطنين الأتراك ما نسبته 98% من حركة تجارة العقارات، 85% منهم يعتمد بشكل رئيسي على القروض المصرفية في شراء العقار.
من جهة أخرى، يكمن الارتفاع في معدَّل إيجار الشقق السكنية في زيادة الطلب الكبير عليها، مقابل العرض القليل من قبل المالكين خاصة بعد رفع الحكومة التركية عام 2021 لمعظم القيود والتدابير المتعلقة بمواجهة جائحة كوفيد-19، ما أدّى إلى انتعاش حركة السياحة وتوافد العديد من الأجانب إلى تركيا بهدف السياحة أو هروبًا من القيود المفروضة في بلدانهم.
في السياق ذاته يذكر أبو زيد، أحد الوسطاء العقاريين العرب في إسطنبول، في حديثه لـ”نون بوست”، أن معظم المقيمين العرب في إسطنبول كانوا في السابق يرغبون في الانتقال من المناطق ذات الأبنية القديمة إلى المناطق الإنشائية الجديدة مثل باشاك شهير وبهشي شهير، طمعًا في الحصول على مسكن أفضل.
أشار نظام الدين آشا، رئيس غرفة الوسطاء العقاريين في إسطنبول، أن السمة المشتركة في ارتفاع أسعار إيجار المنازل السكنية في إسطنبول هي التحول الحضري المكثَّف في معظم المناطق، إضافة إلى عدم رغبة الناس الابتعاد كثيرًا عن المناطق التي يعيشون فيها أو القريبة من مناطق عملهم.
يضيف أبو زيد أنه منذ بدء جائحة كوفيد-19 أصبح من الصعب الانتقال إلى مثل هذه المناطق، بسبب ما شهدته من ارتفاع فاحش في أسعار إيجار المنازل بسبب إقبال الكثير من الوافدين على شراء العقارات واستئجارها في المناطق التي تشهد تطورًا عمرانيًّا سريعًا، حيث يُقدِمُ هؤلاء الوافدين على دفع مبالغ مضاعفة مقابل استئجار عقار سكني، ما أثّر سلبًا على مؤشر أسعار إيجار هذه الوحدات، حيث بلغَ إيجار شقة من طراز 3 غرف وصالة في باشاك شهير مثلًا بين 8 و10 آلاف ليرة تركية، وهي مبالغ كبيرة ولا تتناسق مع دخل المقيمين في مدينة إسطنبول من العرب والأتراك.
وأشار نظام الدين آشا، رئيس غرفة الوسطاء العقاريين في إسطنبول، في تصريح سابق له في صحيفة “حرييت” التركية، أن السمة المشتركة في ارتفاع أسعار إيجار المنازل السكنية في إسطنبول هي التحول الحضري المكثَّف في معظم المناطق، إضافة إلى عدم رغبة الناس الابتعاد كثيرًا عن المناطق التي يعيشون فيها أو القريبة من مناطق عملهم، وأكّد آشا أن هذا الأمر سيزداد سوءًا بعد عودة طلاب الجامعات من مدنهم إلى إسطنبول لمتابعة دراستهم، بعد قرار الحكومة التركية بعودة التعليم حضورًا للعام الدراسي 2021-2022.
أنواع الإيجارات وطرق البحث
تتوزّع حركة إيجار الشقق في إسطنبول بين نوعَين أساسيَّين، وهما الإيجار السكني السنوي، ويستهدف هذا النوع من الإيجار المقيمين في إسطنبول سواء من المواطنين الأتراك أو الوافدين الأجانب ممّن ينوون الإقامة والاستقرار في تركيا لمدة طويلة، والنوع الثاني هو الإيجار السياحي قصير المدى، يستهدف الزوار الأجانب الذين يرغبون الإقامة في شقق سكنية مفروشة لمدة قصيرة هربًا من تكاليف الإقامة في الفنادق باهظة الثمن.
تختلفُ العوامل المؤثِّرة على قيمة إيجار المنازل السكنية في إسطنبول بحسب الموقع الجغرافي والقرب من مركز المدينة و شبكة المواصلات العامة والمناطق الحيوية والخدمات الأساسية، يُضاف إلى ذلك نمط الشقة ومساحتها التي تختلف فيها رغبة المستأجر حسب عدد أفراد الأسرة، إضافة إلى عمر البناء الموجود فيه سواء كان خارج المجمعات السكنية أو داخلها.
يمكن البحث عن شقة سكنية مناسبة للإيجار في إسطنبول عن طريق الوسطاء العقاريين المتوزّعين في مختلف المناطق، وتُعتبَر هذه الطريقة الأكثر انتشارًا حيث تلعب المكاتب دور الوسيط بين مالك العقار والمستأجر وتأمين الحماية القانونية لطرفَي العقد.
يلجأ البعض إلى الطريقة الثانية وهي المواقع والتطبيقات الإلكترونية، مثل “Sahibinden” و”hurriyet Emlak”، التي تمثل منصة تربط بين أصحاب العقارات والراغبين باستئجارها.
تتميز هذه الطريقة بتوفير عناء البحث عن المسكن المناسب عن عاتق المستأجر، بحيث يكفي أن تشرح للمكتب المواصفات المطلوبة وهو بدوره يقوم بالبحث وتقديم الخيارات المناسبة لك، لكن هذا الطريقة غالبًا تكون أشد كلفة بحيث يضطر المستأجر دفع مبلغ (كمسيون) مقابل خدمة الوساطة بما يعادل أجرة شهر واحد، إضافة إلى مبلغ تأمين يُدفَع لصاحب العقار وهو غالبًا ما يتراوح بين آجار شهر أو شهرَين.
فيما يلجأ آخرون إلى الطريقة الثانية، وهي المواقع والتطبيقات الإلكترونية، مثل “Sahibinden” و”Hurriyet Emlak”، التي تمثل منصة تربط بين أصحاب العقارات والراغبين باستئجارها، حيث يكفي القيام بتحديد المنطقة المستهدَفة والمواصفات المطلوبة لتعرض لك هذه المواقع الخيارات المتوفرة مرفقةً بصور العقار ومعلومات التواصل مع الجهة المعلِنة، سواء كان صاحب العقار أو المكاتب العقارية، وغالبًا ما يرغب المستأجرون باتّباع هذه الطريقة هربًا من دفع مبلغ الوساطة للمكاتب العقارية والوسطاء العقاريين، التي تعتبر مبالغ كبيرة مقابل الخدمة المقدمة.
معاناة من نوع آخر
إضافة إلى الارتفاع الكبير التي شهدته مدينة إسطنبول في أسعار الإيجارات، يعاني معظم المقيمين في هذه المدينة الكبيرة من غير المواطنين الأتراك، وخاصة السوريين، من رفض معظم ملّاك العقارات إيجار منازلهم لهذه الفئة، ما شكّل هاجسًا وقلقًا كبيرًا من فكرة البحث والانتقال إلى منزل جديد.
يقول أبو زيد إن من أهم أسباب إحجام مالكي العقارات عن إيجار منازلهم للأجانب، هو عائق اللغة الذي يشكّل خوفًا لديهم من التواصل مع المستأجر في المستقبل في حال حدوث مشاكل أو شكاوى من الجيران، إضافة إلى تخوفهم من عدم قدرتهم على ملاحقتهم قانونيًّا في حال التأخر عن دفع المستحقات المالية أو إلحاق الضرر بالمنزل كونهم “أغراب” بالنهاية.
لا يلوح في الأفق حل قريب لانتهاء أزمة هذه الزيادة المتصاعدة في أسعار إيجار المنازل السكنية في تركيا، حيث يبقى هذا الارتفاع مرتبطًا بشكل مباشر بتحسُّن الأوضاع الاقتصادية في تركيا وانخفاض نسبة الفوائد على القروض المصرفية.
أما بالنسبة إلى السوريين المتواجدين على الأراضي التركية، يذكر أبو زيد أن عدد أفراد الأسرة الكبير أحد أهم أسباب رفض الأتراك منحهم منازلهم، تفاديًا لشكاوى الجيران من الأصوات العالية التي يسبّبها العدد الكبير وخاصة الأطفال، إضافة إلى لجوء بعض العوائل السورية في حال تفكيرهم بالانتقال إلى منزل جديد إلى تأجير المنازل التي يقطونها إلى أحد أقاربهم أو معارفهم دون الرجوع إلى صاحب العقار، خوفًا من خسارة التأمين الذي قاموا بدفعه لصاحب المنزل بداية استئجار العقار.
لا يلوح في الأفق حل قريب لانتهاء أزمة هذه الزيادة المتصاعدة في أسعار إيجار المنازل السكنية في تركيا، حيث يبقى هذا الأمر مرتبطًا بشكل مباشر بتحسُّن الأوضاع الاقتصادية في تركيا وانخفاض نسبة الفوائد على القروض المصرفية.