بعد وصول الخميني إلى سدة الحكم بعد نجاح ثورته على النظام الشاهنشاهي في إيران، بدأ بتصدير ثورته ومذهبه إلى كل دولة وإقيلم يمكن أن يصل إليه، وكانت سوريا من بين تلك البلدان التي تحاك لها الخطط، لكن الملالي لم يتوقعوا أن تسليم سوريا لن يكون سهلًا لهذه الدرجة، على الرغم من أن حافظ الأسد ووريثه فتحوا الأبواب مشرعةً لمشروع الولي الفقيه.
مع ازدياد الوجود الشيعي في سوريا بعد ثمانينيات القرن الماضي والبدء بتأهيل مرافق شيعية حول المقامات والمراقد التي اتخذها الشيعة مزارات لهم، عمدوا إلى التوسع في البنيان والأماكن المحيطة بالمراقد، فكانوا وبالاتفاق مع النظام السوري يعملون على استملاك البيوت والعقارات المحيطة، كما حصل في حي العمارة حيث اقتلعوا ما يجاور مقام السيدة رقية من أبنية، فقد بدأت إزالة ممنهجة لبيوت دمشقية عتيقة في حارة السادة الأشراف وهم “سادة آل البيت السنة” وكل ذلك من أجل إقامة مبنى ضخم لمقام السيدة رقية، كذا حصل حول قبر حجر بن عدي في منطقة عدرا.
ومع بداية الثورة السورية عام 2011 وفتح أبواب سوريا للتدخل الإيراني على الأصعدة كافة، زالت بعض التعقيدات التي كانت تقف في وجه طهران، فأصبح استملاك الأراضي وشراء العقارات سهلًا دون رادع خاصة مع وجود قوات عسكرية تقدر بالآلاف تابعة للخامنئي باختلاف مسمياتها الميليشياوية، ومع انحسار الرقعة الجغرافية لقوات المعارضة السورية وسيطرة قوات النظام وإيران على المناطق باتت تنتشر الأخبار عن البيوع التي تحصل في تلك المناطق لصالح إيران.
اشترت الميليشيات الإيرانية ما يقرب من 370 قطعة أرض حول منطقة الزبداني، وما لا يقل عن 505 قطع أخرى في منطقة الطفيل الحدودية اللبنانية، كما استولت على أماكن سكنية فاخرة في بلودان
شراء العقارات
كشف تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية أن الميليشيات الإيرانية تعمل على شراء العقارات والاستيلاء على الأراضي لزيادة رقعة توسعها ونفوذها، وأشارت الصحيفة إلى أن الحدود اللبنانية السورية تعد إحدى أكثر المناطق التي تجري فيها عمليات الشراء والاستيلاء، ووفقًا للصحيفة فإن حزب الله اللبناني يتصدر الجهات الشيعية والإيرانية من خلال المشتريات العقارية في تلك المنطقة، وأشارت الإندبندنت إلى أن الحزب اشترى أراضٍ في أطراف العاصمة دمشق، وأن نحو 875 قطعة أرض تم بيعها للحزب، فيما أكدت بيع 315 شقةً سكنيةً في مناطق مختلفة من دمشق وضواحيها.
ليس بعيدًا عن حزب الله اشترت الميليشيات الإيرانية ما يقرب من 370 قطعة أرض حول منطقة الزبداني، وما لا يقل عن 505 قطع أخرى في منطقة الطفيل الحدودية اللبنانية، كما استولت على أماكن سكنية فاخرة في بلودان المنطقة السياحية البارزة، ومنذ شهور صدرت تقارير تفيد بأن حملة لشراء العقارات نشطت في الغوطة الشرقية ومدنها من مجموعات إيرانية، كما ينصب الاهتمام الإيراني حاليًّا على مثلث دمشق – حمص – دير الزور في محاولة لحماية طرق إيران الآتية من العراق.
بدوره أصدر المرصد السوري لحقوق الإنسان تقريرًا يشير إلى أن تجارًا من مدينة الميادين في دير الزور يرتبطون بشكل مباشر بلواء العباس (أحد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في المنطقة) يواصلون شراء العقارات من الأهالي في عموم مناطق الغوطة الشرقية، عبر شخص اسمه أبو ياسر البكاري، وكان البكاري قد اشترى وأشرف على كثير من عمليات الشراء في مناطق ومدن الغوطة الشرقية وفقًا لما جاء في تقرير المرصد.
تجري مفاوضات الشراء عبر الوسطاء وأصحاب المكاتب العقارية، وتضع الميليشيات منازل السوريين خارج البلاد نصب أعينها أكثر من غيرها
تذكر التقارير أن إيران تتوغل أكثر وأكثر في مدينة دمشق وأحيائها القديمة، أبرزها في أحياء “الأمين – الجورة – العمارة – القيمرية – الشاغور – باب توما – البحصة – الحريقة – الشعلان” وفي باقي أحياء دمشق القديمة، وتملكت فنادق “كالدة – الإيوان – آسيا – دمشق الدولي – فينيسيا – البتراء – ومجموعة أسهم في فندق سميراميس” في العاصمة دمشق.
تتركز عمليات الشراء والاستملاك الإيرانية في مناطق زبدين – دير العصافير – حتيتة التركمان – المليحة في الغوطة الشرقية، حيث تم شراء أراضٍ زراعية كثيرة ومنازل ومنتزهات، ولا يهم إن كانت هذه الأماكن سليمة أم لا، فقد شهدت هذه المناطق معارك عنيفة بين قوات المعارضة السورية وقوات النظام والميليشيات الإيرانية من جهة أخرى، وتجري مفاوضات الشراء عبر الوسطاء وأصحاب المكاتب العقارية، وتضع الميليشيات منازل السوريين خارج البلاد نصب أعينها أكثر من غيرها.
أما في الغوطة الغربية لدمشق تشهد مدينة داريا نشاطًا عقاريًا إيرانيًا مريبًا، خاصة أن المدينة القريبة من دمشق يوجد فيها مرقد بدأ الشيعة ببنائه أواخر تسعينيات القرن الماضي، ويزعم الشيعة أن المقام لسكينة بنت علي بين أبي طالب، فيما تنفي كل المصادر التاريخية هذه الرواية، بالإضافة إلى أن أهل المدينة لا يعلمون أن في المكان الذي أقيم عليه المقام قبرًا أو ما شابه طول السنوات الماضية.
الشراء عبر الوسطاء
في داريا كما كل المدن تتم عمليات البيع والشراء عبر وسطاء، يقول أبو طارق وهو أحد سكان مدينة داريا في حديثه لـ”نون بوست”، إن العمليات الشرائية لعقارات المدينة تتم لأشخاص من داريا ومن ثم يتم بيعها لأشخاص آخرين حتى تصل إلى مريدها الأساسي، ويضيف أنه إلى الآن لم يتم توثيق أي عملية شراء مباشرة من الإيرانيين.
يشير أبو طارق إلى أن النشاط الإيراني لا يقتصر على شراء أماكن في محيط مقام سكينة، إنما يمتد لبعض الأماكن حتى المدمرة تدميرًا نهائيًا، كما يروي أنه يتم تداول اسم رئيس بلدية المدينة الحاليّ مروان عبيد على أنه رجل العقارات الأول الذي يسهل عمليات البيع، كما يضطر أحيانًا لأن يشتري بنفسه بعض الأراضي والأملاك قبل بيعها للإيرانيين.
تتغلغل إيران في “وزارة الأشغال العامة والإسكان” و”المؤسسة العامة للإسكان”، التي من مهامها تخطيط وتنظيم الأراضي وإعداد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لمشاريعها
تعمل السفارة الإيرانية في دمشق كمكتب عقارات في هذه الأوقات، إذ يسخر السفير الإيراني منصبه لتسهيل شراء العقارات في المناطق السورية، ووفقًا لقناة “أورينت” فإن كثيرًا من صفقات الشراء تتم في مكاتب السفارة ويأتي ذلك بالتعاون مع مستشاريتها الثقافية الواقعة في منطقة إستراتيجية في العاصمة دمشق، وبحسب أحد المعارضين الإيرانيين فإن الحكومة الإيرانية بعهد الرئيس حسن روحاني “خصصت كلًا من بنك أنصار الإيراني ومجموعة خاتم الأنبياء الاقتصادية، بالإضافة لمؤسسة مهر المالية من أجل دعم رجال الأعمال والمستثمرين الإيرانيين، وقادة الحرس الثوري وميليشياتهم الشيعية عبر السفارة الإيرانية، لشراء آلاف العقارات داخل وخارج دمشق بُغية استيطانها والسيطرة عليها مستقبلًا”.
إلى جانب السفارة الإيرانية، استثمرت طهران في بعض المؤسسات السورية الرسمية لتنفيذ مخططاتها، فعملت على خنق نفوذ لها في هيئات تابعة للنظام مثل “الهيئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري” التي لها يد طولى في المعاملات العقارية داخل البلاد من قبيل شراء وبيع العقارات وإحداث مناطق التطوير العقاري، يضاف إلى هيئة التطوير العقاري “وزارة الإدارة المحلية والبيئة” التي دخلتها طهران من أوسع أبوابها.
كما تذكر التقارير أن نفوذًا إيرانيًا كبيرًا يتغلغل في “وزارة الأشغال العامة والإسكان” و”المؤسسة العامة للإسكان”، التي من مهامها تخطيط وتنظيم الأراضي وإعداد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لمشاريعها وتنفيذها عبر مقاولين مؤهلين من القطاع العام أو الخاص.
إضافة إلى وجود مؤسسات مشتركة بين نظام الأسد وإيران مثل “اللجنة العليا السورية الإيرانية” و”غرفة التجارة السورية الإيرانية” و”مجموعة الصداقة السورية الإيرانية”، وكل هذه المؤسسات تعمل على الاستملاك والاستيلاء وشراء العقارات لصالح المصالح الإيرانية.
أخيرًا.. تلجأ إيران إلى أساليب ملتوية في حال لم تستطع السيطرة على عقار معين أو شرائه من أصحابه، كإشعال الحرائق كما حصل في الكثير من أسواق دمشق القديمة، إذ التهمت الحرائق عددًا من الدكاكين والحوانيت والبيوت الدمشقية في “الشام القديمة”، فيما يعزو الكثير من السوريين هذه الحرائق إلى الأيادي الإيرانية، أكبر تلك الحرائق قد اندلعت داخل سوق “البزورية”، أحد أعرق أسواق العاصمة دمشق، ملتهمًا عددًا من محال السوق والمخازن التجارية داخله، وتعتبر هذه المنطقة من أهم المناطق التي تضع إيران عيونها عليها لما لها من أهمية إستراتيجية تجاريًا ودينيًا ورمزيًا.