أدى عدد من أفراد الأقلية اليهودية في البحرين، صلاتهم بصورة علنية، داخل كنيس قديم يسمى “بيت الوصايا العشر” يقع وسط العاصمة المنامة، للمرة الأولى بعد مرور أكثر من 70 عامًا على ممارسة تلك الطقوس الدينية في الخفاء، بعيدًا عن عدسات الكاميرات.
ورغم الاندماج الواضح ليهود البحرين في المجتمع والتمتع بكل حقوق المواطنة، أسوة بغالبية سكان المملكة من المسلمين، فإن طقوسهم وشعائرهم التعبدية ظلت طيلة السنوات الماضية في إطار السرية، خشية رد فعل المسلمين لا سيما أوقات توتر الأجواء على الساحة الفلسطينية.
ويعد الانتقال من السرية للعلن أحد مخرجات اتفاقية التطبيع التي وقعت عليها البحرين والإمارات – اللتان لم تخوضا حروبًا مع “إسرائيل” -، في 15 من سبتمبر/أيلول 2020، قبل أن يسير على خطاهما السودان والمغرب بعد ذلك، فيما تشير الأجواء إلى منح الأقلية اليهودية حرية أكبر في ممارسة الطقوس والعادات الخاصة بهم في الداخل البحريني خلال الفترة المقبلة.
دومًا ما ينظر للبحرين – كما الإمارات – على أنها علامة مميزة في احتضان اليهود وتوفير المناخ الملائم لهم للحياة بأريحية كاملة، ومنحهم كل الامتيازات التي ربما لا تمنح لغيرهم من الأقليات الأخرى، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال تأثيرهم في المشهد السياسي رغم عدم تجاوز أعدادهم العشرات، إذ كانت أول سفيرة يهودية لدولة عربية هي هدى نونو، التي عينت سفيرة للمنامة في واشنطن بين 2008 و2013.
وتقديرًا لهذا التوجه منحت “الجالية اليهودية الأمريكية” وسامًا تقديريًا للعاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عام 2009، نظير “الدور الذي تلعبه الجالية اليهودية في البحرين، فهو ذو أهمية كبيرة وعلامة مميزة بالنسبة لبقية دول المنطقة”، وفقًا لبيان اللجنة.
الانتقال من السرية للعلن
“لم يعد لدينا الآن أي خوف بخصوص تنمية الحياة اليهودية. منذ عام 1947، كنا نتوارى عن الأنظار، أما الآن فلا حاجة للتواري. نحن سعداء جدًا بأن نكون في العلن”، هكذا علق رئيس الطائفة اليهودية في البحرين، إبراهيم نونو (61 عامًا) على التطورات التي شهدتها الساحة البحرينية فيما يتعلق بالتعامل مع اليهود.
خلال حديث لنونو مع وكالة “فرانس برس” واضعًا الكيباه السوداء (غطاء رأس يهودي) على رأسه، قال: “الاتفاقات أطلقت كل شيء”، بالنسبة لطائفته التي تعد نحو 50 شخصًا معظمهم تخطوا الخمسين عامًا، معربًا عن سعادته لوجود “كنيس يعمل بشكل كامل ولقدرة اليهود على المجيء إلى الكنيس بشكل منتظم”، لافتًا إلى إمكانية سيره بأريحية كاملة في الشارع بغطاء الرأس اليهودي دون أي يشعر بأي خوف إزاء رد فعل الناس.
الصلاة التي أقيمت في “بيت الوصايا العشر” حضرها أفراد من الطائفة المحلية ويهود مغتربون ودبلوماسيون، كما تخللها طقس “بار متسفا”، وهو حفل ديني يقام عند بلوغ الطفل اليهودي 13 عامًا، وهو السن الذي يفرض فيه على الطفل في اليهودية الالتزام بالعبادات وأداء الشعائر الدينية.
أما رئيس رابطة المجتمعات اليهودية الخليجية، الحاخام إيلي عبادي، الذي أشرف على الصلاة، فاعتبر أن عودة الصلوات داخل الكنيس بعد انقطاع طويل، وفي العلن، بمثابة “تجديد لتاريخ اليهود في المنطقة”، مضيفًا “الصلوات اليهودية كانت تصدح علنًا في هذه المنطقة منذ أكثر من 2000 عام ولسوء الحظ توقفت عام 1947”.
ويقع هذا الكنيس اليهودي في السوق الشعبي وسط المنامة، وهو عبارة عن مبنى صغير ذي نوافذ خشبية، توجد بداخله مقاعد مبطنة باللون الأزرق الداكن حول منبر الكنيس (البيما)، يوضع عليها كتب دينية بالعبرية والعربية والإنجليزية، فيما علق سند ملكية الكنيس الموقع في العام 1930 في برواز كبير بجوار شاشة عرض كبيرة تنقل بثًا حيًا من صلاة السبت في القدس القديمة.
بلغت كلفة تجديده وترميمه الأخير 60 ألف دينار بحريني (159 ألف دولار)، سبق ذلك ترميم خلال أعوام 1989 و2006 و2014، فيما أولت المملكة اهتمامًا كبيرًا بهذا البنيان رغم صغر حجمه.
يذكر أن صلاة الكنيس ليست الطقس الديني اليهودي الوحيد الذي جرى في العلن خلال الآونة الأخيرة، وإن كانت الأبرز فيما يتعلق بالرمزية الدينية كعبادة أساسية في الديانة اليهودية، ففي الـ9 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أحيا أبناء الطائفة “ليلة الكريستال” أو ما تعرف بـ”ليلة البلور” (إحياء ذكرى المحرقة النازية وتعود التسمية بـ”البلور” لكثرة الزجاج الذي تحطم في الحادثة وتناثر، وقتل فيها 91 يهوديًا في حين تم اعتقال الآلاف الذين رحلوا إلى المعسكرات للإبادة) من خلال إضاءة شموع الشمعدان.
الطائفة الأكثر حظًا
يعود الوجود اليهودي في البحرين إلى القرن الثامن عشر، وكان أغلبهم مهاجرًا قادمًا من العراق، وكان عددهم وقتها يتجاوز 800 شخص، لكن مع تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي في منتصف القرن التاسع عشر، استشعر اليهود القلق الذي دفعهم لمغادرة المملكة صوب الدول الأوروبية و”إسرائيل”، ليتبقى منهم اليوم قرابة 70 يهوديًا فقط بالبلد الخليجي.
رغم قلة عددهم، فإن الجالية اليهودية في المملكة هي الأوفر حظًا بالرعاية والاهتمام والدعم السياسي والاقتصادي، وإن كان هذا لا يقلل من الحرية الممنوحة للأقليات الأخرى في ممارسة شعائرها الدينية، غير أن استهداف اليهود خصيصًا بالدعم الرسمي من أعلى رأس في الدولة – رغم الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني -، كان يحمل وقتها الكثير من علامات الاستفهام والدلائل.
اللافت للنظر أن هذا العدد القليل لم يمنع اليهود من شغل المناصب الرفيعة في المملكة، فقد تم تعيين رئيس الجالية الحاليّ، إبراهيم نونو، في مجلس الشورى (البرلمان) عام 2001، فيما عُينت ابنة عمه، هدى نونو من عاهل المملكة، سفيرة للبلاد لدى الولايات المتحدة، وبعدها في عام 2008، عينت سفيرة غير مقيمة لدى الأرجنتين والبرازيل وكندا والمكسيك، وكانت علامة فارقة في مسيرة العلاقات بين البحرين واليهود، حيث أصبحت أول دولة عربية تعين سفيرًا يهوديًا لها بالخارج.
وقد أثار هذا الدعم الملكي غير المتعارف عليه مع أقليات أخرى، حالة من الجدل داخل الشارع البحريني الذي ذهب قطاع كبير منه إلى أن ما يقوم به الملك مع الجالية اليهودية ليس إلا مغازلة صريحة للغرب ومحاولة تقديم أوراق الاعتماد كحاكم إصلاحي يؤمن بتعدد الحضارات والأديان وحرية الاعتقاد.
الكاتب البحريني علي الجلاوي في كتابه عن “يهود البحرين” يشير إلى أن “بعض العوائل تكاد لا تجد لها أثرًا، وبعضها لها اتصال بطبقة معينة من المجتمع”، وتابع “لا يمكنك التفريق بينهم وبين المحليين لسمة ما، وكبار السن منهم يجيدون اللغة العربية أكثر من الجيل الثاني، وأكثر أبناء هذه العوائل لا يدرسون حاليًّا في المدارس العامة، لكن مع الجيل الثاني بدأ الاحتكاك والاختلاط في المحافل والمؤسسات الرسمية والأهلية، فنجد بعضهم دخل في مؤسسة لحقوق الإنسان والبعض الآخر في مؤسسات تختص بعضوية نيابية، وآخرون لهم نشاطاتهم التي لها اتصال بالمجتمع المسلم في البحرين”.
ولفت الجلاوي في مؤلفه إلى أنه رغم اندثار العديد من العائلات اليهودية في المملكة، فإن هناك عوائل أخرى استطاعت الصمود والبقاء رغم التوترات التي شهدتها المنطقة فيما يتعلق بالعلاقات العربية الإسرائيلية، ومن أبرز تلك العائلات الباقية حتى اليوم “عائلة نونو، وكوهين، ويادكار، وسويري، ومراد، وبروين، وروين، وخضوري، وهارون، وحسقيل، وحوقي، وغرجي، وزلوف، ومنشي، ويهوذا”.
ازدواجية فاضحة
في الوقت الذي تولي فيه سلطات البحرين رعاية كاملة للجالية اليهودية – وهذا حق الجاليات كافة – تمارس أبشع صور الانتهاكات ضد المعارضين لها والمدافعين عن حقوق الإنسان في المملكة، في تناقض يعكس ازدواجية فجة اعتادت الدولة الخليجية الصغيرة تبنيها طيلة السنوات الماضية.
انتقادات إقليمية ودولية تواجهها المنامة بسبب سجلها الحقوقي المشين، ففي مارس/آذار الماضي تبنى برلمان الاتحاد الأوروبي، مشروع قرار يدين انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، بأغلبية تصويتية كاسحة، فقد أيد المشروع الذي يدين زيادة استخدام عقوبة الإعدام واستمرار استخدام التعذيب ضد المعتقلين واضطهاد المدافعين عن حقوق الإنسان في البحرين 633 نائبًا من أصل 689 إجمالي عدد النواب.
البرلمان الأوروبي أشار إلى وجود 26 سجينًا محكوم عليهم بالإعدام يواجهون التنفيذ الوشيك، مطالبًا التعجيل بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام، داعيًا إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المدافعين عن حقوق الإنسان وسجناء الرأي، ومشددًا على ضرورة أن تتوقف البحرين عن مضايقة وسجن وتعذيب ومعاقبة الأفراد تعسفيًا لمجرد ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية وحرياتهم في تكوين الجمعيات والتجمع والتعبير، سواء كان ذلك عبر الإنترنت أم خارجه.
وقبل مشروع البرلمان الأوروبي بشهر واحد، كانت منظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين” قد أطلقت تقريرها عن وضعية الأطفال البحرينيين المحرومين من حقهم في الجنسية وجوازات السفر، الذي كشف أن “حكومة المنامة اختارت تبني سياسة الانتقام من المعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين البحرينيين من خلال حرمان أطفالهم من حقهم في نيل الجنسية وجواز السفر المنصوص عليه في الدستور البحريني”.
التقرير سلّط الضوء على معاناة 4 أطفال من عائلات بحرينية حرموا من الجنسية، وجرى توثيق حالاتهم بالتفصيل، مؤكدًا أن الحكومة البحرينية بانتهاجها سياسة الانتقام ونكران الحقوق المنصوص عليها دستوريًا، “تكون قد انتهكت حقًا شرعيًّا من حقوق الطفل البحريني، لا لسبب إلا أن أباه عبّر عن موقف معارض لسياسة الحكومة”.
وفي تقريرها لعام 2020 أدانت “منظمة العفو الدولية” الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها سلطات المملكة، لافتة إلى “استمرار المحاكمات الجائرة للمحتجين ومنتقدي الحكومة على الإنترنت، وأقرباء هؤلاء الأشخاص، شأنها شأن ضروب القمع الأخرى لحرية التعبير”.
المنظمة أدانت في تقريرها المحاكمات بالجملة التي يتعرض لها المعارضون، التي وصفتها في بعض الأحيان بأنها “محاكمات جماعية” كما فضحت معاملة المسجونين المسيئة وتعرضهم للتعذيب بين الحين والآخر، كاشفة أن وزارة الداخلية واللجان الحقوقية التابعة لها “عديمة الفعالية في حماية حقوق الإنسان والمعاقبة على الانتهاكات”، هذا بجانب التمييز المجحف الذي تتعرض له النساء في ظل القانون البحريني الحاليّ.
الرأي ذاته توصلت إليه منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها العالمي 2020، إذ أشارت إلى تدهور السجل الحقوقي للمملكة فقد “نفذت الحكومة إعدامات، وأدانت المنتقدين بسبب تعبيرهم السلمي، وهددت النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي”، فيما علق نائب مديرة قسم الشرق الأوسط، جو ستورك، على التقرير بقوله: “السلطات البحرينية أسكتت، أو نفت، أو سجنت كل من ينتقد الحكومة، ما يزيد الأمور سوءًا، يتجاهل حلفاء البحرين كل ذلك ويواصلون العمل مع البحرين كالمعتاد بدل الضغط عليها للإفراج عن المسجونين بسبب تعبيرهم عن رأيهم”.
وهكذا.. تمارس السلطات البحرينية قمة الازدواجية الفجة في التعامل مع الأقليات، سواء كانت سياسية أم دينية أم عرقية، في تناقض يشير إلى تسييس هذا الملف لخدمة أجندة النظام الساعي إلى البحث عن موضع قدم له على الخريطة الأقليمية عبر بوابة التطبيع مع دولة الاحتلال ولو كان ذلك على حساب أبناء الوطن من الحقوقيين والمعارضين.