أفرزت المواجهات المتكررة مع الكيان الإسرائيلي حضورًا لافتًا لوسائل الإعلام العبرية في الإعلام الفلسطيني الخاص والعام، عبر النقل اليومي المتكرر للأخبار والتصريحات والتحليلات المتعلقة بالشأن السياسي والأمني والعسكري.
وأظهرت مجموعة من الأحداث خلال السنوات الأخيرة هذا الأمر بشكل واضح وجليّ، لا سيما في جولات الهجمات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، أو عبر العمليات والأحداث التي تشهدها الضفة الغربية والقدس المحتلتان والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
وهذا النشاط بطبيعة الحال، تتعمده وسائل الإعلام العبرية بضخّ مجموعة من الأخبار أو التحليلات خلال الأحداث التي تتّسم بـ”التوتر” أو تأخذ طابعًا تحريضيًّا، كما حصل مع شخصيات مقاومة مثل بهاء أبو العطا أحد قادة سرايا القدس، الذراع العسكرية للجهاد الإسلامي، قبل اغتياله عام 2019، أو كما يجري في الآونة الأخيرة مع مخيم جنين شمال الضفة الغربية الذي يشهد حضورًا لافتًا للمقاومة ممثّلةً بسرايا القدس وكتائب الأقصى المحسوبة على حركة فتح، عبر عمليات إطلاق نار شبه يومية ضد دوريات إسرائيلية.
أخيرًا، شهدت عملية نفق الحرية الأخيرة التي نفّذها 6 أسرى فلسطينيين للتحرُّر من سجن جلبوع، أشد السجون الإسرائيلية تحصينًا، نموذجًا آخر، من خلال تمرير رواية إسرائيلية تسللت للمواقع الفلسطينية عن إمكانية وصول الأسرى للضفة الغربية المحتلة أو قطاع غزة المحاصر، وأنهم مسلحون ويسعون لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أصبح بعض المراسلين العسكريين أو محرِّري المواقع ومراسلي القنوات الإسرائيلية، حاضرين بشكل لافت في الصحافة الفلسطينية، ويتناقل الفلسطينيون أسماءهم بصورة متكررة مثل أمير بحبوط وأوهيد بن حمو وروعي كاتس وغال برجر وغيرهم.
أسباب وعوامل
في الشق السياسي، كان الإعلام العبري هو الجهة المفصحة عن صفقة اللقاحات الفاسدة بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” وسط تكتُّم الإعلام الفلسطيني الرسمي، وهو المُعلِن الأول للقاء وزير حرب الاحتلال بيني غانتس مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قبل أسابيع قليلة.
التناقُل من الإعلام العبري والاستناد عليه، خاصة فيما يخصّ الأخبار لشخصيات ذات مستوى في السلطة الفلسطينية، يعود -كأحد الأسباب- إلى غياب المعلومات من المصادر الفلسطينية الرسمية وشحّها أو التعتيم عليها أحيانًا لحماية مصالح السلطة الفلسطينية، وما رافقها من غياب مساءلة المسؤولين الرسميين في السلطة الفلسطينية.
بالتوازي مع ذلك، تلعبُ وسائل الإعلام الحزبية دورًا في تعزيز الاعتماد على الإعلام العبري، من خلال الترجمات والأخبار المتعلقة بقوة الفصائل أو الأخبار، والتقارير المتعلِّقة بملفات مثل الأوضاع الأمنية مع قطاع غزة المحاصر أو السلطة الفلسطينية وحتى ملفات مثل صفقة الأسرى وغيرها من القضايا ذات الاهتمام الرسمي والشعبي في صفوف الفلسطينيين، وهو ما يعزِّز حضورها وتناقُلها، ولطالما كان الخبر الصادر من الجهة الإسرائيلية مادة لتراشق الاتهامات بين الفصائل، خاصة فيما يتعلق بنقد السلطة الفلسطينية وممارساتها.
في السياق، يعزي أستاذ الإعلام والعلاقات العامة د. حسين الأحمد اتِّساع حضور الإعلام العبري في الوسط الفلسطيني إلى عدة أسباب، أبرزها غياب الوعي الفلسطيني الكافي، واستهداف الإعلام الإسرائيلي لطبقات معيّنة في المجتمع الفلسطيني.
وحول ذلك، يوضِّح الأحمد لـ”نون بوست” أنه بالإضافة إلى الحضور الإعلامي الإسرائيلي في وسائل الإعلام الفلسطينية، فإن هناك صفحات إسرائيلية موجَّهة لمخاطبة الفلسطينيين مثل صفحة “المنسق” الخاصة بمنسق أعمال حكومة الاحتلال وغيره من المسؤولين في كيان الاحتلال.
خلال معركة “سيف القدس” الأخيرة، عمد الاحتلال لاستغلال الوسائل الإعلامية الأجنبية لتمرير خدعة مناورة عسكرية، حينما سرّب خبرًا عن بدء عملية برّية ضد القطاع، من أجل تنفيذ عمليات قصف واسعة تطال شبكة أنفاق المقاومة، ليتضح لاحقًا أن ذلك كان جزءًا من عملية تستهدف التضليل واصطياد قادة المقاومة.
وبحسب الأكاديمي الفلسطيني، فإن هناك تقصيرًا واضحًا من قبل الوسائل الإعلامية الفلسطينية على المستوى الرسمي، أو حتى الوسائل الخاصة، في التعامل مع ما يردُ من أنباء من وسائل إعلام الاحتلال التي تتبع سياسة البروباغندا.
والبروباغندا في المفهوم الصحفي الإسرائيلي هي سياسة استعمارية تستخدَم ضد الخصوم لتحقيق اختراقات في الوعي الأمني، والاحتلال الإسرائيلي من الكيانات التي نجحت في اختراق وسائل إعلام دولية مثل الإعلام الأمريكي والبريطاني ولم يتوقف الأمر عند الإعلام الفلسطيني، بحسب الأحمد.
ويرى الأحمد أن التناقُل من الإعلام الإسرائيلي في أوقات المواجهات والتصعيد والحروب هو أمر طبيعي، غير أن الأصل أن تكون هناك محددات وضوابط لحجم النقل وطبيعة النشر بحيث ألا يكون ضد المصالح الفلسطينية.
وعن الحلول المقترحة لتجاوز عمليات التسلُّل الإسرائيلية للإعلام الفلسطيني، يقترح الأكاديمي الفلسطيني أن يتمَّ وضع برنامج وطني شامل يرتكز على تعزيز الوعي في المدارس مرورًا بالجامعات، بما يرفع الوعي الفلسطيني في التعامل مع ما يرد من تقارير وأنباء، مرورًا بوضع سياسة إعلامية تبدأ بالوسائل الرسمية مرورًا بالوسائل الخاصة، تحدِّد معايير التعامل مع الإعلام العبري.
وخلال معركة “سيف القدس” الأخيرة، عمد الاحتلال لاستغلال الوسائل الإعلامية الأجنبية لتمرير خدعة مناورة عسكرية، حينما سرّب خبرًا عن بدء عملية برّية ضد القطاع، من أجل تنفيذ عمليات قصف واسعة تطال شبكة أنفاق المقاومة، ليتّضح لاحقًا أن ذلك كان جزءًا من عملية تستهدف التضليل واصطياد قادة المقاومة.
إعلام موجَّه
من جانبه، يقول الصحفي المختصّ في الشأن الإسرائيلي خلدون البرغوثي، إن الإعلام العبري مجنَّد لخدمة “المشروع الصهيوني” بشكل عام، وهو جزء من المنظومة الأمنية عندما يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني ضد الاحتلال، عدا عن كونه إعلامًا غير موضوعي.
وبحسب حديث البرغوثي لـ”نون بوست”، فإن الإعلام الإسرائيلي ليس حياديًّا، وهو جزء من الرواية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، عدا عن استخدامه من قبل السياسيين الإسرائيليين لتمرير روايات تستهدف الفلسطينيين إما أمنيًّا وإما سياسيًّا، أو المساس ببعض الشخصيات الفلسطينية في بعض الأحيان.
يعتقد البرغوثي أن المطلوب هو إجراء تغيير في النهج الفلسطيني عبر تعزيز الشفافية لدى الفلسطينيين وتعزيز جرأة الصحفيين، إلى جانب إصدار قرار مهني بحظر التعامل مع الإعلام الإسرائيلي باعتباره أداة أكثر من كونه إعلامًا حقيقيًّا.
ويُرجِع الصحافي المختص في الشأن الإسرائيلي أسباب الحضور الكبير للإعلام العبري في وسائل الإعلام الفلسطينية من خلال نقل التصريحات والأحاديث، إلى سهولة وصوله ونقله لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين، مقارنة بوسائل الإعلام الأخرى.
ويشير إلى أن هناك اتساقًا بين الصحفيين ونقابة الصحفيين الفلسطينيين بأن المسؤولين الفلسطينيين أقلّ تفاعلًا مع الإعلام الفلسطيني، وأكثر تفاعلًا مع الإعلام الأجنبي إلى جانب الإعلام الإسرائيلي في أحيانٍ أخرى، بالإضافة إلى عوامل أخرى متعلِّقة بقلق الصحفيين الفلسطينيين من مساءلة المسؤولين الفلسطينيين في الوقت الذي تنقلُ فيه وسائل الإعلام العبرية تسريبات لمسؤولين فلسطينيين، مع حجب هويتهم للحفاظ على استمرار تدفُّق المعلومات.
ويعتقد البرغوثي أن المطلوب هو إجراء تغيير في النهج الفلسطيني عبر تعزيز الشفافية لدى الفلسطينيين وتعزيز جرأة الصحفيين، وإقرار قانون حقّ الحصول على المعلومة وفهم كل من السياسي والمواطن والصحفي لدورهم، إلى جانب إصدار قرار مهني بحظر التعامل مع الإعلام الإسرائيلي باعتباره أداة أكثر من كونه إعلامًا حقيقيًّا.
انتقاء المعلومات
لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال المعلومات الواردة من الإعلام الإسرائيلي، إلا أن المطلوب هو حجب الرواية ذات الطابع الأمني التي تستهدفُ زعزعة الروح المعنوية وحجبها قدر المستطاع لمنع التأثير على القرارات الفلسطينية، أو إحداث اختراقات ميدانية على صعيد العمل المقاوم.
في موازاة ذلك ينبغي القيام بحملات توعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي تستهدفُ حجب الرواية الإسرائيلية وتحديدًا الموجَّهة، وإنشاء حملات تعرِّف الجمهور الفلسطيني والعربي بالأخبار الموجَّهة من تلك التي تحمل طابعًا تحليليًّا.
في الوقت ذاته، يجب أن يُصار إلى زيادة قوة الإعلام الفلسطيني الخاص، لا سيما مع تبعية غالبية الوسائل المحلية في فلسطين المحتلة للفصائل والأحزاب، وغياب شبه كلي للوسائل ذات الطابع المستقل.