أعلنت الولايات المتحدة، الثلاثاء 14 سبتمبر/ أيلول، ربطها جزء صغير من المساعدات العسكرية السنوية المقدَّمة لمصر بتحسُّن الوضع الحقوقي داخليًّا، واتخاذ القاهرة خطوات إيجابية من شأنها تصحيح الصورة المشوَّهة عن الوضع الإنساني والحقوقي للمعارضين والنشطاء.
أثار القرار انتقادات حادة لدى العديد من المنظمات غير الحكومية، التي طالبت إدارة الرئيس جو بايدن بالالتزام بالقانون الأمريكي الذي يمنع صرف المساعدة المقدمة للدولة المصرية، والبالغ قدرها 300 مليون دولار سنويًّا، إلا باستيفائها لعدد من معايير حقوق الإنسان.
ورغم النصّ الصريح بإمكانية منع المعونة بصورة كاملة، إلا أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة دومًا ما كانت تلتفّ على هذا الشرط، بزعم أن المساعدات المقدَّمة إنما تصبُّ في نهاية الأمر في خدمة الأمن القومي الأمريكي والحفاظ على مصالح البلاد في منطقة الشرق الأوسط تحديدًا.
صعّدت الخطوة من مخاوف البعض -لا سيما داخل الحزب الديمقراطي- من احتمالية أن يكون هذا التباطؤ والتراخي في الضغط على نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بطاقةً خضراء لمزيد من الانتهاكات السلطوية الممارَسة بحقّ المعارضين والنشطاء المصريين، ما دفع كثير من المهتمين بالملف الحقوقي اتّهام بايدن بالسير على خطى الرئيس السابق دونالد ترامب ذاتها.
130 مليون دولار مشروطة
المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، قال في تصريحات له، الثلاثاء، إنّ وزير الخارجية أنتوني بلينكن “لن يصدّق” أمام الكونغرس هذا العام على أن “الحكومة المصرية تتّخذ إجراءات مستديمة وفعّالة” لتعزيز حقوق الإنسان، “لأننا نواصل مناقشة مخاوفنا الجادة” بشأن هذا الأمر.
أضاف برايس أنه رغم ذلك فإن بلينكن سيأمر بإتاحة هذه المساعدة (300 مليون دولار) لدعم “مكافحة الإرهاب وأمن الحدود ومنع الانتشار”، لافتًا إلى أن الجانب المصري سيحصل على 170 مليون دولار من إجمالي المبلغ دون شرط، أما الجزء المتبقّي (130 مليون دولار) فمشروط بمدى اتخاذ القاهرة إجراءات محددة تتعلق بحقوق الإنسان.
ولم يحدِّد المتحدث باسم الخارجية ماهية الإجراءات المطلوب من القاهرة اتخاذها، لكنه أشار إلى أن “مسؤولين أمريكيين أبلغوا القادة المصريين بإجراءات محدّدة نحضّهم على اتخاذها”، مشددًا على أن “مصر شريكة قيّمة للولايات المتّحدة، وبخاصة في مجال الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب والتجارة”، مستشهدًا بأهمية الزيارة واصفًا إياها بـ”التاريخية” التي أجراها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت لمنتجع شرم الشيخ، الاثنين الماضي، والتقى خلالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
انتقادات حقوقية
جاء القرار الأمريكي صادمًا للكثير من المهتمين بالشأن الحقوقي داخل الوسط الأمريكي، فبعد ساعات قليلة من الإعلان عن اقتطاع هذا الجزء البسيط من المعونة العسكرية، أصدرت حوالي 20 منظمة أمريكية -غير حكومية- بيانًا مشتركًا اتّهمت فيه إدارة بايدن بـ”خيانة تامّة لالتزاماتها” المتكرّرة “بوضع حقوق الإنسان في صميم سياستها الخارجية، ولا سيما في علاقتها مع مصر”.
المنظمات المشاركة في البيان، وعلى رأسها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، قالت إن “الحكومة تتجاهل مقاصد الكونغرس الذي أصدر قانونًا ينص بوضوح على أنّ تقديم الـ 300 مليون دولار من المساعدات العسكرية يجب أن يكون مشروطًا بإجراءات تقوم بها مصر من أجل “تعزيز سيادة القانون، وتنفيذ إصلاحات تحمي الحريات الأساسية وتضمن محاسبة قوات الأمن المصرية””.
الحكومة المصرية، بذريعة مكافحة الإرهاب، قد منحت قوات الأمن حرية إطلاق العنان لقمع كل المعارضة، بما في ذلك المعارضة السلمية، مع إفلات شبه مطلق من العقاب على الانتهاكات الجسيمة – “واشنطن بوست”.
كما حذّرت المنظمات في ختام بيانها من الانعكاسات السلبية لهذا التراخي على منسوب الحقوق في مصر خلال الفترة المقبلة، لافتة إلى أن الإدارة الأمريكية بـ”تمهيدها الطريق أمام سداد كامل مبلغ الـ 300 مليون دولار، تعطي الحكومة المصرية الضوء الأخضر للاستمرار في ارتكاب انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان دون أن تخشى تحمّل العواقب”.
صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية رأت أن القرار جاء مخيّبًا لآمال بعض المشرّعين والنشطاء القلقين من الانتهاكات في مصر، لكنها أشارت في الوقت ذاته إلى أن هذا الموقف ربما يكون “أكثر احترامًا لحقوق الإنسان ممّا اتخذته معظم الإدارات السابقة عندما يتعلق الأمر بالمساعدات العسكرية الأميركية إلى القاهرة”، معتبرة أن حجب جزء من المساعدات بمثابة “حل وسط” وإن لم يرقَ لمستوى الطموحات.
بايدن على خطى ترامب
البيان الموقّع من المنظمات الأمريكية غير الحكومية اتّهم إدارة بايدن بالافتقار إلى “الصدق”، لأنّها “غالبًا ما أرادت أن تنأى بنفسها” عن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ووعدت بمزيد من الحزم في هذه المسألة، لكنها في النهاية وقعت فيما وقع فيه الرئيس السابق.
هذا الرأي بدأ يفرض نفسه على الشارع الأمريكي في ظل تراجُع إدارة بايدن عن الكثير من الشعارات والوعود التي رفعتها خلال الحملة الانتخابية، والتي كانت في معظمها تصبّ في صالح الانتصار للمنظومة القِيَمية والأخلاقية الأمريكية في محاولة لتحسين الصورة التي شوِّهت خلال ولاية ترامب.
وبينما كان الرئيس الحالي كثيرًا ما يلوم نظيره السابق فيما يتعلق بالاستراتيجية “المكيافيلية” وتعزيز المسار البراغماتي في التعامل مع العديد من الملفات، ها هو يسير على الدرب ذاته، ففي تبريره لعدم حجب المعونة بأكملها عن القاهرة رغم التحفظات على سجلّها الحقوقي، كان التذرع بالحفاظ على الأمن القومي لبلاده والدور الذي يقوم به النظام المصري للحفاظ على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط هو السلاح الذي يشهره الرئيس في وجه منتقديه.
صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، في افتتاحية الثلاثاء السابع من سبتمبر/ أيلول الجاري، وتحت عنوان “لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تغضَّ النظر عن سجلّ مصر القاتم في مجال حقوق الإنسان”، استعرضت سجلّ الانتهاكات الذي مارسته السلطات المصرية خلال الآونة الأخيرة، كمبرِّر لاتخاذ الإدارة الأمريكية موقفًا أكثر حزمًا.
تطرّقت الافتتاحية إلى تصفية 9 عناصر من جماعة الإخوان المسلمين في مخبأَين بالقاهرة، في سبتمبر/ أيلول 2019، ثم حظر الجماعة ونشاطها واستهداف أعضائها رغم أنها واحدة من أقدم الجماعات الإسلامية في مصر، هذا بخلاف حملات المداهمات والاعتقالات التي تشنّها قوات الأمن بحق المعارضين وترهيب أسرهم.
وذكرت الصحيفة أن “الحكومة المصرية، بذريعة مكافحة الإرهاب، قد منحت قوات الأمن حرية إطلاق العنان لقمع كل المعارضة، بما في ذلك المعارضة السلمية، مع إفلات شبه مطلق من العقاب على الانتهاكات الجسيمة. وكانت النتيجة واحدة من أسوأ أزمات حقوق الإنسان التي طال أمدها في تاريخ البلاد الحديث”.
واختتمت الافتتاحية بالحديث عن احتمالية حجب المعونة العسكرية لأسباب حقوقية، مشيرة إلى أنه في الماضي “كان المبلغ كاملًا على الرغم من سجل مصر البائس في مجال حقوق الإنسان، لكن الوقت قد حان للتغيير. لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تنظر بعيدًا عن الخسائر المصرية المروعة”.
سواء كان ذلك بقصد أو من دون قصد فإن بايدن يسير وبالمنطق البراغماتي البحت نفسه نحو غضّ الطرف نسبيًّا عن الانتهاكات الحقوقية المصرية، نظير الحفاظ على مصالح بلاده في الشرق الأوسط، ليسلك درب سلفه ترامب بشكل أو بآخر.
وفي الجهة الأخرى، يحاول الرئيس المصري مغازلة المجتمع الدولي والولايات المتحدة فيما يتعلق بملفه الحقوقي المشين، وذلك عبر عدد من الخطوات والإجراءات السياسية والمجتمعية التي يعتبرها جسرًا نحو تخفيف حدة الانتقادات الموجَّهة لنظامه، جرّاء الانتهاكات التي يمارسها بحق المعارضين والموثَّقة عبر عشرات التقارير الصادرة عن منظمات حقوقية إقليمية ودولية.
وقد شهدت الساعات الماضية حدثَين يدوران في هذا الإطار، الأول خلال استقباله رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، في منتجع شرم الشيخ، وهي الزيارة الأولى بهذا الحجم منذ عام 2010، والتي تأتي استكمالًا للدور المصري الملموس في الحرب الإسرائيلية الأخيرة مع حركة حماس، وهو الدور الذي وصفته صحيفة “هآرتس” العبرية في مقال لها، 13 سبتمبر/ أيلول الجاري، بأنه كان بمنزلة “فرملة” للإدارة الأمريكية التي كانت على بُعد أمتار قليلة من تعامل شديد وقاسٍ مع مصر بسبب وضعها الحقوقي المذري.
الحدث الآخر كان إعلان ما أسماه “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان“، تلك الوثيقة التي يسعى السيسي من خلالها تصدير صورة الرئيس الإصلاحي التقدمي، ناصر المرأة وداعم ذوي الاحتياجات الخاصة والمؤيد الأبرز للحريات الدينية وحامل لواء تجديد الخطاب الديني، في محاولة لتبريد الأجواء الساخنة ضده غربيًّا.
سواء كان ذلك بقصد أو من دون قصد فإن بايدن يسير وبالمنطق البراغماتي البحت نفسه نحو غضّ الطرف نسبيًّا عن الانتهاكات الحقوقية المصرية نظير الحفاظ على مصالح بلاده في الشرق الأوسط، ليسلك درب سلفه ترامب بشكل أو بآخر، مثبتًا أنه لا فرق بين ديمقراطي وجمهوري إزاء منظومة حقوق الإنسان بالعالم طالما أن مصلحة أمريكا أولًا قبل أي اعتبارات أخلاقية وقيمية، والتي ثبت أنها لا تعدو كونها شعارات انتخابية لحصد أصوات الحالمين.