تتهم إدارة الوقف السني في العراق، جهات محسوبة على إيران بالسيطرة على ممتلكات الوقف وتحويلها للوقف الشيعي، ما أثار موجة غضب وجدل وصلت إلى البرلمان والحكومة.
عام 2010، أصدرت محكمة في بغداد قرارًا يقضي بتحويل ملكية كل المساجد التي تحمل أسماء رموز سِمتها “طائفية”، وتحويل ملكيتها إلى الوقف الشيعي، ومن أبرزها في نينوى مسجد علي بن أبي طالب وجامع آل البيت وجامع الزهراء وجامع بنات الحسن وجامع الرضا، لكن قرار المحكمة لم يحقق ما أراد بسبب رفض مجلس محافظة نينوى حينها والمحافظ أثيل النجيفي تنفيذ القرار.
في 28 من فبراير/شباط أرسل مدير الوقف السني في نينوى، أبو بكر كنعان، كتابًا رسميًا إلى رئيس ديوان الوقف السني ببغداد يخص المراقد والمقامات، جاء فيه: “منع الوقف السني في نينوى من إدارة المراقد والمقامات والصرف عليها وصيانتها بذريعة عائديتها للوقف الشيعي، علمًا بأنها تعود للوقف السني”، وتم إرفاق عدد من الحجج الوقفية بصور مرفقة مع الكتاب الرسمي.
بعد هذا التاريخ، وتحديدًا في 21 من مايو/أيار، أرسل مدير فرع هيئة الاستثمار في نينوى، ثائر القطان، كتابًا إلى خلية الأزمة في نينوى التي كانت تدير المحافظة حينها، أعلمهم فيه أن مجلس ديوان الوقف الشيعي أصدر قرارًا يتضمن تأجير جميع أملاك الوقف التي تدار من الهيئة، وطالب في ختام الكتاب الرسمي بالموافقة على مفاتحة مجلس رئاسة الوزراء لإيقاف إجراءات تنفيذ القرار.
لم يقف الموضوع عند حد المراقد والمقامات، بل وصل إلى العمارات التجارية، إذ شكا بعض المستأجرين من إجراءات وصفوها بالتهديدية، فقد جاءت سيارات رباعية الدفع يستقلها مسلحون يرتدون الزي العسكري ووجهوا إنذارًا قانونيًا من كاتب العدل في الموصل يقضي إما بدفع الإيجار لصالح الوقف الشيعي وإما الإخلاء القسري، علمًا بأن المستأجر دفع الإيجار لصالح الوقف السني.
الخلافات بين الوقفين السني والشيعي لم تتوقف يومًا من الأيام، وفي السنوات الأخيرة زادت حدتها عقب إجراءات الوقف الشيعي المتواصلة للاستحواذ على محلات تجارية ومساجد تابعة للسنة في نينوى.
وخلال البحث والمتابعة تبين وجود ما يقارب 17 عقارًا في مناطق حيوية من الموصل (مركز المدينة) تم تسجيلها بصفة استثمارية لجهة الوقف الشيعي دون وثائق تؤكد عائديتها له، إضافة إلى أكثر من 10 مقامات وضعت “الفصائل” أو الحشد الشعبي يدها عليها.
مرجعية بعض هذه الجهات الحشدية مجهولة، لكن بالتدقيق والمتابعة يترجح هواها الولائي الإيراني، وعدد هذه الجماعات العاملة الآن كثير، منها: اللواء 30 من الحشد الشعبي الذي تنضوي تحته كتائب حزب الله المعروفة بمرجعيتها الإيرانية وعصائب أهل الحق إضافة إلى فصائل تابعة لسرايا السلام، إلى جانب جماعات بدر التي تندرج تحتها ألوية أبرزها لواء الإمام الحسين، وأخيرًا وليس آخرًا جماعة ربع الله.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه في تبعية بعض هذه الجهات لإيران ومحاولة الأخيرة إيجاد موطئ قدم لها في نينوى، هو ما جرى في قرية خزنة تبه التابعة لناحية برطلة في نينوى، حيث افتتحت مدرسة “حكومية” للمرحلة الابتدائية حملت اسم الإمام الخميني، وبنيت على نفقة مؤسسة إيرانية خيرية.
تمَ التواصل مع الوقف الشيعي في نينوى للإجابة عن مجموعة أسئلة تتعلق بالاتهامات الموجهة إليهم، لكنهم اعتذروا عن الحديث بحجة أنهم لا يملكون تخويلًا بالتصريح لوسائل الإعلام في هذا الخصوص، وحتى الحشد الشعبي ينفي في بيانات الاتهامات الموجهة إليه، بمحاولته إحداث تغييرات ديموغرافية في نينوى، بل العجيب أن بعض المتحدثين بأسماء الحشود ينفون أي تمثيل لهم عسكريًا كان أو مدنيًا في نينوى.
حتى مع نفي التهم فثمة إشارات تتمثل في مصادرة بعض الأراضي الزراعية في مناطق سهل نينوى، ومنع أهلها من البناء رغم امتلاكهم السندات التي تثبت عائدية الأراضي إليهم.
القانون ماذا يقول
استطلعنا آراء المختصين في هذا المجال، واعتذروا لنا عن الظهور بأسمائهم الصريحة بسبب التخوف من استهداف مستقبلي محتمل.
الخبير القانوني الذي سأرمز له بـ”أ. ن” قال: “إشكالية تصفية المواقع السنية من الشيعية من المفترض أن تكون قد انتهت منذ فترة، بناءً على مخرجات اللجان المشكلة وأبرزها الفك والعزل”، ويمضي في حديثه مشيرًا إلى موضوع الحجة الوقفية التي يحتفظ بها أصحابها ومن بعدهم ذريتهم، إضافة إلى وجود نسخ مصورة لدى هيئة استثمار الوقف التي تشير صراحة إلى مذهب الواقف: “حاولنا جاهدين الحصول على صور الحجج من الجهة المعنية فاعتذروا”.
يكمل “أ. ن” كلامه معرجًا على قانون رقم 19 الذي ينص في مادة على أن “المزارات الشيعية: هي العمارات التي تضم مراقد مسلم بن عقيل وميثم التمار وكميل بن زياد والسيد محمد بن الإمام الهادي والحمزة الشرقي والحمزة الغربي والقاسم الحر وأولاد مسلم وغيرهم من أولاد الأئمة وأصحابهم والأولياء الكرام من المنتسبين إلى مدرسة أهل البيت في مختلف أنحاء العراق”.
ويتصور “أ. ن” أن النص المذكور آنفًا هو ما يستند إليه ديوان الوقف الشيعي في محاولاته المستمرة للسيطرة على مراقد ما يسميها هو الأئمة، بالإضافة إلى العقارات التي تتبع لها في عموم الموصل.
وفي ختام إفادته أشار “أ. ن” إلى أن الوقف الشيعي يحاول استخدام القضاء وفق هواه، حين يرفع أي دعوى للاستحواذ على الأوقاف السنية أينما وجدت.
محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي وقضية الوقف
خلال تسلمه دفة الحكم في نينوى على دورتين، أثيرت بشأنه العديد من القضايا، وحيكت ضده مجموعة من المؤامرات لوقوفه أمام مشاريع الاستيلاء على الأوقاف السنية داخل المحافظة، وقتها طالب ديوان الوقف الشيعي بضم مجموعة من المساجد كان يحمل بعضها أسماء شخصيات دينية تاريخية، يصنفها الشيعة بأنها تابعة لهم، لكن النجيفي وقف بالضد من هذه المحاولات، بل أجهضها.
يذهب النجيفي إلى أن بعض الجهات والأحزاب الدينية كانت ولا تزال تعتقد بضرورة “تشييع” مدينة الموصل، لإحكام سيطرة الأحزاب الدينية عليها
حملنا أوراقنا ومسوداتنا في المقال، وتوجهنا صوب أثيل النجيفي في أربيل عاصمة إقليم كردستان، وتحدث لنا عن أبعاد القضية قائلًا: “عام 2010 كانت المحاولات الأولى للاستيلاء على الأوقاف السنية، حين حاول الوقف الشيعي إرسال خطاب رسمي لدائرة التسجيل العقاري المعنية بالأملاك في نينوى، الغرض الأساسي من الخطاب كان تسجيل ما يقارب 20 مرقدًا وجامعًا باسم الوقف الشيعي ومحاولة انتزاع مرجعيتها السنية وفق قرار تم الاعتماد عليه (أشرنا إليه فيما سبق) يتعلق بالفك والعزل بين ممتلكات المذهبين”.
ويذهب النجيفي إلى أن بعض الجهات والأحزاب الدينية كانت ولا تزال تعتقد بضرورة “تشييع” مدينة الموصل، لإحكام سيطرة الأحزاب الدينية عليها، كما أضاف أن القرار آنف الذكر كانت فيه عبارة بين قوسين: (كل وقف باسم آل البيت أو أوقفه أحد من آل البيت، فإن ملكيته تتحول إلى الوقف الشيعي)، معربًا عن إجحاف القرار بحق أهل السنة الذين كانوا يتسمون بأسماء آل البيت، وبعضهم في الأصل من أهل البيت.
وعرج النجيفي على بعض الأسماء المسجدية قديمًا وحديثًا، الحاملة لأسماء مشتركة بين المذهبين كالزهراء وعلي بن أبي طالب وغيرها.
على موقف المحافظ الأسبق هذا، تم رفع دعوى جزائية ضده باعتبار أنه كان متسببًا في إيقاف كتاب الوقف الشيعي، حيث تم تحويل قضيته إلى النزاهة مع اتهامه بإهدار أموال الوقف، ويستطرد النجيفي القول إن هذه الدعوى رفعت ضده لأنه منع الوقف الشيعي من الاستحواذ على ممتلكات نظيره السني، بل استمرت القضية حتى عام 2017 وصدر حكم يدينه.
قال النجيفي في ختام حديثه معنا: “لا توجد حجة قانونية معتبرة لدى الوقف الشيعي لممارسة مثل هكذا أعمال، فلكل وقف سني حجة وقفية واضحة التفاصيل تحدد شروط الواقف إضافة إلى مذهبه”.
الوقف السني في نينوى ورأيه
مدير الوقف السني في نينوى أبو بكر كنعان، يؤكد أن ما حدث من تجاوزات سابقة وربما حتى لاحقة على الوقف السني، بعد تحرير الموصل من سيطرة داعش، يعد إشارة غير جيدة، إذ إن المدينة خارجة من حرب طاحنة.
وبيّن كنعان أنه تلقى كتابًا رسميًا يضم في جنباته ما يقارب 17 مرقدًا ومقامًا في الموصل يطالب بها الوقف الشيعي، على أساس أن هذه الأضرحة تابعة له، في حين أن الواقع يتحدث عن عدم وجود سكان شيعة بالأصل في هذه المنطقة.
بدأت التجاوزات من جامع النبي يونس عليه السلام، مرورًا بالمقبرة في جانب الموصل الأيسر، انتهاءً بمراقد في مناطق نائية لا دليل على تبعيتها إلا قضية الأسماء المشتركة.
كنعان في حديثه تكلم أيضًا عن محاولات أخرى للاستيلاء على عمارات تجارية ومحال في مناطق أخرى، مثل باب الطوب والدواسة وباب السراي وسوق الصياغ، إضافة إلى المراقد والأضرحة في عموم الموصل القديمة.
وأبدى أبو بكر كنعان تخوفه من الاستحواذ على عقارات أخرى تتبع للسنة، بعد ورود معلومات عن نوايا قديمة جديدة للاستيلاء على مزيد من العقارات والمساجد كسوق السجن، إضافة إلى المساجد التي تحمل أسماء لآل البيت الأطهار.
وفي ختام حديثه، أشار كنعان إلى أن المشكلة بأساسها الاعتماد على قانون قديم من الوقف الشيعي غير المكترث بقانون عام 2008، الذي نظم وفصل في مواده جميع الإجراءات القاضية للفصل بين أملاك الوقفين.
مواقف سنية حكومية
ردود فعل سياسيين سنة تم تسجيلها على القضية، منها تحذير النائب عن نينوى خالد العبيدي من فتنة تهدد السلم المجتمعي في نينوى، مطالبًا بتدخل فوري لمنع الانتهاكات الحاصلة ضد الأوقاف السنية في المحافظة.
النائب الكردي عن نينوى شيروان دوبرداني دخل على الخط أيضًا، وطالب في بيان رئيس الوزراء بالتدخل الفوري لوقف ممارسات الميليشيات المسلحة، كما طالبه بوضع حدٍ لمنع مصادرة العقارات والاستيلاء على أراضي نينوى من جهات لم يسمها.
وأضاف دوبرداني أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها التجاوز على أرض نينوى وأهلها، فقد سبق أن تم الاستيلاء على أراضي نينوى من أكثر من جهة.
ما جرى مؤخرًا من استعراض للعضلات للسيطرة على بعض المراقد والمساجد والعقارات، يندرج ربما في تمويل الجهات التي تبحث لها عن مصدر رزق وجدته في نينوى التي تعيش ضعفًا في سياسييها الذين يؤثرون الراحة والدعة على مقاومة مشروع دولة شرقية جارة
النائب عبد الرحيم الشمري، في تصريح له، يرى أن عملية سيطرة تحدث على الأوقاف السنية في الموصل، وبغض النظر عن الهدف منها، كما اتهم رئيس ديوان الوقف الشيعي بما أسماه الهيمنة والسيطرة على الأوقاف التابعة لأهل السنة.
أخيرًا، يرى باحثون موصليون أن جميع المزارات والمراقد والمساجد والعقارات الأخرى التي يدعي الوقف الشيعي تبعيتها له، لا أصل لها في الحقيقة، كما لا توجد أي شواهد تاريخية تؤيد صحة الدعوى.
وما جرى مؤخرًا من استعراض للعضلات للسيطرة على بعض المراقد والمساجد والعقارات، يندرج ربما في تمويل الجهات التي تبحث لها عن مصدر رزق وجدته في نينوى التي تعيش ضعفًا في سياسييها الذين يؤثرون الراحة والدعة على مقاومة مشروع دولة شرقية جارة.