ما أن تتجول في شوارع مدينة الموصل، حتى تتراصف أمامك صور الدعاية الانتخابية لعشرات المرشحين الذين يعتزمون الاشتراك في الانتخابات المبكرة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، رغم عدم تمكّن أغلب المرشحين من تقديم برامج انتخابية طموحة وقادرة على انتشال المدينة من واقعها المدمَّر.
لكنهم بدلًا من ذلك عمدوا إلى تقديم برامج ترقيعية آنية لا تخدم المدينة وأهلها، حتى تحوّلَ المرشح إلى أشبه بمقاول يسعى للاستثمار في الانتخابات، عبر تركيزه على ترميم البنية التحتية المدمرة، سواء من خلال تبليط الشوارع الوعرة أو نصب أعمدة كهربائية في مناطق لم يصلها التيار الكهربائي ونحن في القرن الـ 21!
إن نظرة بسيطة لطبيعة الحراك الانتخابي في المدينة يشير بما لا يقبل الشك، إلى أن هناك حالة قطيعة بين المرشَّح وواقع المدينة، وما يزيد من إثارة الموضوع أن أغلب هؤلاء المرشحين هم نوّاب حاليون أو سابقون، فشلوا في تقديم واقع جيّد للمدينة طيلة الفترة الماضية، فكيف يمكن الاعتماد عليهم مرة أخرى في إنتاج واقع جديد للمدينة؟
لا تقتصر التحديات الاجتماعية والسياسية والأمنية في الموصل على العمليات العسكرية، وإنما بتعقُّد عملية حل العديد من القضايا ذات الطبيعة الهيكلية والمرتبطة بدور الحكومة العراقية وأدائها، كالتوزيع العادل للموارد، وتقديم الخدمات الأساسية
قد يكون المبرر الوحيد هو أن القرار السياسي للمدينة ليس بيد ممثليها، إلا أن ذلك ليس كافيًا لإهمالها طيلة 4 دورات تشريعية، لم تستطع المدينة أن تلحق بركب جوارها في إقليم كردستان العراق، خصوصًا أنها كانت مثالًا للتمدُّن والمدنية منذ تأسيس العراق الحديث.
تحديات أكبر من اللحظة الانتخابية
ممّا لا شكّ فيه أن التحديات التي تواجهها مدينة الموصل، أكبر من أن يتمَّ اختزالها بلحظة انتخابية يتنافس فيها المرشحون لتقديم حلول آنية، قد يتوقف العمل بها ما أن يضع الناخب صوته في صندوق الانتخاب، حيث تواجه المدينة إشكالات مهمة على مستوى هويتها ووجودها، كما أنها ما زالت تعاني من تداعيات الحرب على تنظيم “داعش”.
وفضلًا عن ذلك، لا تزال الحكومة العراقية غير قادرة على إعادة بناء ودعم اقتصاد هذه المدينة التي تضررت من الحرب، عبر خلق بيئة آمنة لرأس المال الأجنبي وحتى العربي، ما أثنى النازحين عن العودة إليها، وتظهِرُ حالة عدم معالجة هذه المشاكل احتمالية تجدُّد الصراع على السلطة والنفوذ والقوة فيها، خصوصًا في ظلِّ غياب نهج حقيقي للعدالة الانتقالية، وأن تكون نتيجة الانتخابات المقبلة في صالح القوائم الانتخابية الدخيلة عليها.
تصدُّر المشهد الانتخابي في المدينة من قبل زعامات سياسية من خارجها، قد يجعل تمثيل هذه المدينة في البرلمان المقبل هامشيًّا أيضًا
إذ لا بد أن تكون هناك رؤية سياسية واضحة يقدّمها المرشحون، لتقديم برامج واضحة لإعادة استيعاب المدينة ضمن الفضاء الطبيعي، إذ ما زالت جهود الحكومة العراقية هامشية في هذا المجال، كما لا تزال العديد من المناطق المرتبطة بهذه المدينة تشهدُ حالة عدم استقرار أمني وتحديدًا في سنجار، كما لا تزال جهود إعادة الإعمار وتمكين المرأة واستيعاب موروثات “داعش” دون مستوى الطموح، كما أن ملفات المغيّبين والمعتقلين لم تجد سياقات قانونية واضحة لمعالجتها حتى اللحظة.
كما لا تقتصر التحديات الاجتماعية والسياسية والأمنية في مدينة الموصل على العمليات العسكرية التي ما زالت عناصر تنظيم “داعش” تشنّها بين الوقت والآخر في تخوم المدينة، وإنما بتعقُّد عملية حل العديد من القضايا ذات الطبيعة الهيكلية والمرتبطة بدور الحكومة العراقية وأدائها، كالتوزيع العادل للموارد، وتقديم الخدمات الأساسية، وتحسين فرص العمل والظروف الاقتصادية، وتحسين القدرة على تخفيف حدة التوتر الاجتماعي، وتعزيز روح الوحدة الوطنية، إلى جانب تحديات أخرى متجذّرة في الثقافة العراقية مثل المعتقدات المتعلقة بالهوية والمحاصصة الطائفية، وهي تحديات لم تجد لها مكانًا في برامج المرشحين الذين يتنافسون للفوز بأصوات سكان المدينة لتمثيلها في البرلمان المقبل.
إن هامشية برامج المرشحين قد تعيد الانقسامات العديدة في المدينة، وتحديدًا الإقصاء السياسي الذي ساعد في ظهور تنظيم “داعش”، علاوة على ذلك إنَّ تصدُّر المشهد الانتخابي في المدينة من قبل زعامات سياسية من خارجها، قد يجعل تمثيل هذه المدينة في البرلمان المقبل هامشيًّا أيضًا.
ما يزيد من حساسية المشهد الانتخابي في المدينة، هو أن القانون الانتخابي ونظام تقسيم الدوائر الانتخابية لم يُراعيا احتياجات المدينة وتحدّياتها
ورغم أن الوزن الانتخابي للمدينة يأتي في المرتبة الثانية بعد العاصمة بغداد، إلا أنه نتيجة تسابُق أحزاب وزعامات سياسية لخلق حالة نفوذ داخل المدينة، جعلها بيئة جيدة للحصول على مزيد من المقاعد على حساب مصالح المدينة واحتياجاتها، وهي مشاكل تعيدُ نفسها من جديد في المشهد الانتخابي الحالي أيضًا، حيث إن أغلب القوائم والتحالفات النافذة تتبع عناوين سياسية من خارج المدينة، بعضها مستأثر بالسلاح وآخر بالمال السياسي.
إن ما يزيد من حساسية المشهد الانتخابي في المدينة، هو أن القانون الانتخابي ونظام تقسيم الدوائر الانتخابية لم يُراعيا احتياجات المدينة وتحدياتها، حيث تمَّ تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة خاضعة لتأثير المزاجية السياسية للأحزاب والشخصيات النافذة، وهو ما يضع بدوره العديد من علامات الاستفهام حول إمكانية نتائج الانتخابات أن تعكس آمال سكان المدينة وتطلُّعاتهم لمستقبل أفضل، حيث إن المواطن في مدينة الموصل لا يزال يبحث عن فرصة لإعادة الثقة بالعملية السياسية، التي لم تأتِ بجديد يذكر على واقع المدينة منذ عام 2003.