لم يستسلم الأسير الفلسطيني لعتمة سجنه بل أضاء زنزانته بالكتب العلمية التي تحدّى سجّانه على إدخالها لحصد أعلى الدرجات وتنمية قدراته، فطوّعَ معتقله وجعله مدرسة وجامعة ينهلُ منهما العلم بمختلف أنواعه.
حاول الاحتلال الإسرائيلي بملاحقته للفتية واعتقالهم وهم على مقاعدهم الدراسية خلق جيل أُمّي وتفريغهم من هويتهم الفلسطينية، لكن ما حصل داخل المعتقلات الإسرائيلية العكس، فمن كان لا يجيد القراءة والكتابة باللغة العربية لظروف مرَّ بها، خرج بعد سنوات بدرجة بكالوريوس وعدة لغات، ولم يكن الأمر هيّنًا بل كانت الصعوبات والمعيقات التي مرّوا بها لتحقيق طموحهم العلمي كثيرة.
وبدأت العملية التعليمية داخل المعتقلات الإسرائيلية في ثمانينيات القرن الماضي، حين أضربَ الأسرى الفلسطينيون عن الطعام للحصول على عدة مطالب، وكان منها عقد امتحان التوجيهي داخل السجون المركزية، والالتحاق بالجامعة العبرية المفتوحة، وكان لهم ما أرادوا، ولكن العملية كانت بطيئة تصطدم بابتزاز إسرائيلي واضح، الأمر الذي كان في غالب الأحيان يجعل من إتمام العملية التعليمية، سواء الحصول على شهادة التوجيهي أو الدراسة الجامعية، أمرًا شبه مستحيل.
وحين جاءت السلطة الفلسطينية، تولّت وزارة التربية والتعليم عقد امتحان التوجيهي داخل السجون تحت إشرافها ورعايتها، مع احتفاظ إدارة السجون الإسرائيلية بالدراسة الجامعية الحصرية بالجامعة العبرية المفتوحة، إلى أن حصلت عملية أسْر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط؛ حيث منعت مصلحة السجون الإسرائيلية التعليم في كافة السجون، وبالتالي حرمَت كل الأسرى من إكمال تحصيلهم الثانوي أو الجامعي.
لم يَدُمْ حرمان الأسرى من التعليم طويلًا، فعُقدت اتفاقيات لإكمال الأسرى دراستهم في جامعة القدس (أبو ديس)، وفي الجامعة العبرية وبعض كليات جامعة الأقصى، وغالبية التخصُّصات كانت ما بين التاريخ والسياسة وأصول الدين والخدمة الاجتماعية واللغة العربية، أما بقية اللغات تعلّمها الأسرى اجتهادًا منهم على يد زملائهم.
التنغيص قبيل الامتحانات
لم يستسلم المحرَّر عوض السلايمة لعتمة سجنه، فتحمّس لخوض امتحانات الثانوية العامة سنة 1996 برفقة إخوانه الأسرى، وكثيرًا ما كان يلجأ للأسرى القدامى لمساعدته في تبسيط بعض الدروس، والتزمَ بالجلسات التعليمية ودورات اللغات.
يقول لـ”نون بوست”: “أكثر ما كنت أعانيه وزملائي هو أن الكتب شحيحة، ومصلحة السجون كانت تتعمّد فرض الشروط لإدخالها”، متابعًا: “رغم ذلك تفوّقنا في الثانوية العامة والتحقتُ بالجامعة العبرية للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، ما جعلني مختصًّا في الشؤون الإسرائيلية بعد الافراج عني في صفقة وفاء الاحرار”.
ويوضِّح السلايمة أن دراستهم باللغة العبرية مكّنتهم من التعرُّف إلى تركيبة المجتمع الإسرائيلي وما يدور في رحا أروقة السياسة، مشيرًا إلى أن حصوله على درجة البكالوريوس لم يكن سهلًا، فبدلًا من أن ينهيها في 4 سنوات بقيَ 10 سنوات وذلك بسبب تنغيصات الاحتلال ليلة الامتحان أو أثناء التقديم، وكذلك استخدام أساليب القمع من خلال سحب الكتب قبل موعد الامتحانات، لا سيما بعدما كان واضحًا تفوق الأسرى ونيلهم درجات عليا.
وعن طريقة تقديم الامتحان وتهيئة الجو المناسب، ذكرَ أن قاعة الامتحانات هي مكان الزيارة، معلِّقًا: “لك أن تتخيل كيف يكون التشويش من قبل السجّانين، عدا عن أن مصلحة السجون كانت تمارس ضغوطًا على المراقبين حيث التفتيشات القاسية كونهم يأتون من قبل الجامعة”.
أما المحرَّر رجائي الكركي يصفُ تجربة دراسته في الأسر بأنها تحدٍّ ومغامرة، فهو حصلَ على معدل 64.5% من القسم العلمي بمساعدة كبار الأسرى لا سيما في المواد العلمية، مشيرًا إلى أن الدراسة كانت دون أوراق وأقلام كافية حتى أن وسائل البحث كانت معدومة.
لم تتوقف الدرجات العلمية التي يحصدها الأسرى داخل المعتقلات على البكالوريوس فقط، بل الماجستير والدكتوراه عدا عن الدراسات والأوراق العلمية التي يعدّونها ويتم الاستفادة منها في الخارج.
ويستذكر الكركي مكتبه الدراسي في السجن بأنه عبارة عن “صفطة” من كرتون الخبز يضع عليه الكتب، وكان يستغلُّ خروج زملائه إلى “الفورة” ليركّز أكثر، خاصة وقت الامتحانات.
وبحسب قوله إن التعليم داخل المعتقلات الإسرائيلية ليس هيّنًا بل تحديًا للأسير الذي يطوِّع كل المعيقات لتسهيل دراسته داخل الزنازين، مشيرًا إلى أنه تمكّن من تدريس اللغة العبرية لزملائه بعد مدة وجيزة من تعلُّمها.
وأكثر ما كان ينغّص على الكركي في الامتحانات، يقول: “في كثير من الأحيان يكون أستاذ المادة صهيونيًّا متشددًا فيضع درجات قليلة للطَّلَبة الأسرى انتقامًا من فلسطينيتهم وتفوّقهم، وكذلك كانت مصلحة السجون تأخِّر البريد الذي نرسلُ فيه حل الواجبات للأساتذة في الجامعة ودومًا ترسله بعد انتهاء المدة ما يسبِّب مشكلة مع مدرِّس المادة”.
لم تتوقف الدرجات العلمية التي يحصدها الأسرى داخل المعتقلات على البكالوريوس فقط، بل الماجستير والدكتوراه عدا عن الدراسات والأوراق العلمية التي يعدّونها ويتمّ الاستفادة منها في الخارج، بالإضافة إلى أن غالبية الأكاديميين في الجامعات الفلسطينية هم أسرى محرَّرين تلقّوا تعليمهم داخل السجون الإسرائيلية.
ولا يقتصر التعليم داخل السجون على الأسرى الذكور فقط، بل الأسيرات تفوّقن وأكملن دراستهنّ، وتمّ اعتماد بعضهن أستاذة مادة من قبل الجامعات في الخارج كحال الأسيرة أماني حشام -36 عامًا-، والتي أنهت دراستها الجامعية في جامعة القدس وحصلت على بكالوريوس علوم سياسية ودراسات دبلوماسية، بالإضافة إلى حصولها على دبلوم في اللغة الإيطالية.
الأسيرة حشام محكومة بالسجن 10 سنوات أمضت منها نصف المدة، تحاول والدتها أم هيثم إدخال الكتب إليها، لكن دومًا تواجه صعوبات كما تقول لـ”نون بوست”.
وتوضِّح الأم أن دور ابنتها في السجن مختلف، فقد اعتُمدت من قِبل جامعة القدس ضمن اللجنة التعليمية لبرنامج البكالوريوس، فهي أستاذة معتمدة لتعليم الأسيرات الملتحقات بالجامعة والإشراف على تعليمهن.
وتحكي الأم أن ابنتها الأسيرة تخبرها أن الوسائل التعليمية من قرطاسية وكتب تكون شبه معدومة وهناك تنغيصات على إدخالها، مبيّنة أن وضع الأسيرات في التعليم أسوأ كون عددهنّ قليل لذا تستهين مصلحة السجون بتلبية احتياجاتهن ودومًا ترفض ما يطلبنه، حتى أنهن يحرمن من إدخال الكتب بحجّة أنها ممنوعة أمنيًّا.
معيقات ونجاحات
وفي دراسة أعدّها الباحث أوس أبو العطا حول “تعليم الأسرى الفلسطينيين: مراحله، معوّقاته ونجاحاته”، ذكرَ أن من المعوقات التي مارستها مصلحة السجون الإسرائيلية للحدّ من العملية التعليمية، مشروع قانون حِرمان الأسرى من التعليم سنة 2017، قدّمه عضو الكنيست روبيرت إيلتوف من حزب “إسرائيل بيتنا”، وينصّ على أن الأسير الفلسطيني الأمني ليس من حقّه الدراسة في مؤسسة التعليم العالي، ويُطالب مشروع القانون بتعديل لوائح السجون بعدم منح الأسرى فرصة التعليم.
وذكر أن من ضمن المعيقات أيضًا التنقُّلات بين الأسرى من قسم إلى آخر داخل السجن الواحد، وإجراء بعض التنقُّلات بين الأسرى في مختلف السجون، بالإضافة إلى منع إدخال الكتب الدراسية والتعليمية بكلّ مراحلها، ورفض توفير القاعات والصفوف الدراسية ومنع الأدوات الدراسية والقرطاسية والألواح.
ووفق ما أورده أبو العطا في الدراسة، فإن مصلحة السجون تمنع إيجاد معلمين من الأسرى الفلسطينيين للأشبال القاصرين، بالإضافة إلى نقل أعضاء اللجان العلمية داخل أقسام السجن الواحد، أو نقلهم إلى سجون أخرى وباستمرار، ومعاقبة من يقوم بالدروس والمحاضرات.
نجحت الحركة الأسيرة في إيجاد نظام داخلي في السجون يضمن شفافية ومصداقية التعليم تحت إشراف عدد من الأسرى من حمَلة الشهادات العليا، وذلك بعد حرمان الأسرى من الجامعة المفتوحة.
وأكّد الباحث في دراسته على أن الأسرى تمكّنوا من القضاء على الأُمّية من خلال تركيز اللجان الثقافية في السجون على متابعة شريحة الأُمّيين رغم قلّتها، وقد تكلّفت الكوادر المُتعلّمة ذات القدرة والكفاءة بتدريسهم من خلال جلسات جانبية.
كما نجحت الحركة الأسيرة في إيجاد نظام داخلي في السجون يضمن شفافية ومصداقية التعليم تحت إشراف عدد من الأسرى من حمَلة الشهادات العليا، وذلك بعد حرمان الأسرى من الجامعة المفتوحة.
ورغم أساليب القهر التي يمارسها السجّان الإسرائيلي على الأسير الفلسطيني، إلا أن الأخير بإرادته الصلبة حوّل سجنه إلى منارة علم تضمن له مستقبلًا أفضل، بمساعدة الأسرى القدامى الذين يحثّون المعتقلين الجدد على اغتنام الوقت والسيطرة عليه بالتعليم والتثقيف، حتى غدا الأسير الأُمّي متعلِّمًا ومثقفًا، ويطوّر ذاته في حقل اللغات وشتى العلوم والمجالات.