أسرى محررون يروون تجاربهم داخل زنزانات العزل الانفرادي
وسط ظلام حالك ومساحة لا تتعدّى المترَين، يقطن الآن في غرف منفصلة الأسرى الأربعة زكريا زبيدي ومحمود العارضة ويعقوب قادري ومحمد العارضة، الذين أعادت سلطات الاحتلال اعتقالهم بعد تمكُّنهم من انتزاع حريتهم من سجن جلبوع في مكان يسمّى “زنزانات العزل الانفرادي”.
ويخوِّل القانون الإسرائيلي محاكم الاحتلال بإصدار قرار يقضي بحجز المعتقل في العزل لمدة 6 أشهر في غرفة لوحده، و12 شهرًا في غرفة مع معتقل آخر، كما أن المحكمة مخوَّلة حسب القانون بتمديد فترة عزل المعتقل لفترات إضافية ولمدة لا نهائية.
في تلك الزنزانات ذات الجدران الخشنة والرائحة النتنة، وعلى بُرش حديدي مثبّت بالأرض، يمارس الاحتلال شتى أنواع التعذيب على الأسرى بذرائع مختلفة يختلقها لزيادة حجم العقوبة. تجارب قاسية عاشها الأسرى جميعًا داخل تلك الزنزانات لأيام، وأحيانًا لأشهر وسنوات نقلتها “نون بوست” على لسان محرَّرين.
موت بطيء
أقلّ وصف للعزل بأنه ممارسة “موت بطيء”، يقول الباحث المختص في شؤون الأسرى رأفت حمدونة، الذي عاش تجربة اعتقال دامت 15 عامًا متواصلة، منها ما يقارب عامَين متتاليَين تحت الأرض وبأسوأ عزل انفرادي مرَّ في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة والاحتلال الإسرائيلي بشكل عام: “عزل سجن الرملة – نيسان”.
ويستذكر تفاصيل الزنزانة التي قضى جزءًا من عمره فيها، فيقول لـ”نون بوست” إن حجمها صغير جدًّا لا يتعدى مساحة فرشة النوم، وفي بعض الأحيان مع نصف متر زيادة، وتحتوي على مرحاض وحمام، وفي بعض الأحيان لا يوجد بين المرحاض والسرير فاصل.
ويشير إلى أن في زنزانة العزل التي تضمّ أسيرًا أو أسيرَين في غالب الأحيان، لا يوجد للأسير أي حقوق فيعيش دون صحف أو كتب لينقطعَ عن العالم الخارجي، فيما يُمنَع من الزيارات ومتابعة التعليم المسموح في السجون العادية، وبيّن حمدونة أن أسير العزل لا يخرج لـ”الفورة”، أي ساحة السجن، سوى ساعة واحدة مكبَّل اليدَين والقدمَين ودون وجود غيره من الأسرى.
وأصعب ما واجه حمدونة داخل العزل عدم معرفته بموعد انتهاء عقوبة العزل التي يخفيها الاحتلال للتأثير نفسيًّا على الأسرى، عدا عن إمكانية تواجد الأسرى المعزولين في أقسام مشتركة مع السجناء الجنائيين اليهود من أصحاب الأعمال الخطيرة، ما يعرّض حياتهم للخطر بسبب الاعتداء عليهم.
وتلجأ مصلحة السجون والشاباك إلى نقل الأسير للعزل دون مبررات غالبًا، وفق الباحث في شؤون الأسرى، فأحيانًا يكون السبب أنك قيادي فاعل ويجب الحد من تأثيرك، وفي أحيان أخرى بادّعاء أنك أسير خطير، وكذلك الحد من الإبداع للأسير في حال تفوّقَ في جامعته فيعاقَب بالعزل لينقطعَ عن التعليم، موضّحًا أن الهدف الأبرز هو تدمير بنية وشخصية الأسير من خلال عقوبة العزل.
كاميرات على مدار الساعة
شملت عقوبة العزل جميع الأسرى، كما أنها لم تستثنِ الإناث.. أيام صعبة قضتها المحرَّرة أنسام شواهنة (24 عامًا) داخل غرف العزل المخصَّصة للأسرى في انتظار موعد المحكمة، والمتعارَف عليها بـ”المعبار”.
داخل تلك الغرفة الضيقة التي تطبق على الأنفاس، لا مجال لمعرفة الوقت سوى بطريقة التقدير أو بربط الوقت بأوقات تقديم الطعام، فلا نوافذ في المكان لتعرفَ الصباح من المساء.
تقول الشواهنة التي حُكمت بـ 5 سنوات لـ”نون بوست”: “في العزل الكاميرات موجودة على مدار الساعة سواء كان المعتقل فتاة أو رجلًا، دورات المياه بأبواب شفّافة غير محكمة الإغلاق ومقابِلة للكاميرات”.
أنسام كانت تلجأ لوضع “البطانية” لتغطية باب دورة المياه الشفّاف لتتمكّن من استخدامه، وفي كل مرة كانت تتلقّى توبيخًا من السجّانين بسبب ذلك. تضيف: “كفتاة كنت أضطر للبقاء محجّبة على مدار الساعة، خاصة أن الموجودين سجّانين يفتحون الأبواب فجأة للتفتيش أو العدّ، لا مجال للاستحمام والراحة، عليك أن تبقي متأهّبة على مدار الساعة”.
سجين العزل، وفق شواهنة، ممنوع من الزيارة وكذلك لقاء المحامين، كما أنه محروم من أي تواصُل مع العالم الخارجي حتى لو من خلال الراديو، واعتماده الوحيد في الأكل على ما يأتيه من السجن وغالبًا هو طعام غير صالح للبشر.
ومن المبكي المضحك، كما تقول الشابة شواهنة، أنها لجأت أكثر من مرة إلى تجربة صوتها بالصراخ داخل الزنزانة أو الحديث مع نفسها، بسبب البقاء لأيام دون مقابلة أحد.
ورغم أن المحرَّرة أنسام عُزِلت في سجن الدامون، إلا أن مواصفات العزل واحدة في كل السجون وفق تجارب الأسرى التي اطّلعَ عليها “نون بوست”. تلك التجربة القاسية تكررت مع الأسيرة شواهنة لأكثر من 29 محاكمة، في كل مرة تسبق ذهابها للمحكمة التي استمرت لعام و8 أشهر، ويستمر تواجدها لأيام حتى أن بقاءها امتدَّ في إحدى المرات لـ 15 يومًا بشكل متواصل.
ومن المبكي المضحك، كما تقول الشابة شواهنة، أنها لجأت أكثر من مرة إلى تجربة صوتها بالصراخ داخل الزنزانة أو الحديث مع نفسها، بسبب البقاء لأيام دون مقابلة أحد.
وختمت شواهنة حديثها: “لكم أن تتخيلوا كيف الحياة داخل زنزانة يضرب فيها البرد الشديد عظام روّادها شتاءً، والحر والقوارض تكتم أنفاس من يتواجد صيفًا”.
رمضان قاسٍ
في ظروف العزل وفي الغرفة يتيمة النوافذ كثيرة الرطوبة والعفن، قضت المحرَّرة شيرين العيساوي غالبية أيام رمضان خلال السنوات التي سُجنت فيها داخل العزل الانفرادي دون رفيق أو ونيس. تجربة لا يمكن نسيانها مهما مرّت عليها السنوات، وفق العيساوي البالغة 43 عامًا، التي قضت معظم أيام سجنها داخل غرف العزل بمجموع 500 يوم.
تضيف: “لم أكن أعرف موعدًا للإفطار أو السحور، لا يوجد مكان للصلاة ولا لقراءة القرآن، كنت أحاول الاستدلال على الوقت عن طريق العدّاد (جندي التمام)، فإذا كان العدّ عند الرابعة والنصف أعرفُ أنه جاء موعد السحور، وآخر عدّاد يأتي عند التاسعة والنصف، عندها كنت أنوي الإفطار”.
كثيرًا ما تعرّضَت العيساوي للنزيف بسبب الضرب المبرح في طريقها لغرف العزل، لذا اضطرت للبقاء 3 أشهر دون استحمام بملابسها الملطخة بالدم، بسبب وجود الكاميرات في الغرفة على مدار الساعة.
تقول: “بسبب وضع الزنزانة اجتهدت بنفسي وأصبحت أتيمّم بالجدار وأصلّي جالسة في إحدى الزوايا بسبب التعب من شدة الضرب”، وتذكر شيرين أنها كانت تُعزَل لأقل الأسباب، حتى لو كان تعبيرًا عن رأي سياسي، أو بذريعة الاعتداء على سجّانات.
أرقام قياسية
يمكن تلخيص المعاناة بأن زنزانات العزل لا تليق بحياة البشر، وقد تحولت إلى مقبرة للأحياء ومسلخ تمارَس فيه شتى أصناف التعذيب والقهر، كما وصفها الأسرى المحرَّرين، كما أن هناك نماذج لأسرى حطموا أرقامًا قياسية للبقاء داخل تلك الغرف، فيما خرج بعض الأسرى يعانون اضطرابات بسبب سنوات العزل.
ومجرد أن يُذكر مصطلح “عزل انفرادي”، يتذكّر الفلسطينيون صاحب أطول عزل انفرادي، الأسير حسن سلامة، الذي قضى 17 عامًا يتنقّل من زنزانة إلى أخرى معزولًا عن محيطه الداخلي في السجون، محرومًا من كل شيء، في مقابر يجمّلها الاحتلال تحت مسمى “زنزانات العزل”.
الحكم الذي صدرَ بحقّ الأسير سلامة هو 48 مؤبدًا و20 عامًا، وتلجأ إدارة السجون إلى عزله تحت ذرائع أمنية وحجج واهية، في مقدّمتها أنه يشكّل خطرًا على الإسرائيليين وأمنهم. فيما دخل الأسير محمود عيسى (53 عامًا) من بلدة عناتا عامه الـ 29 في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهو محكوم بالسجن 3 مؤبدات و46 عامًا.
الأسير عيسى من قيادات الحركة الأسيرة، ومن أبرز الأسرى الذين واجهوا سياسة العزل الانفرادي لسنوات، حيث استمرَّ عزله 13 عامًا، منها 11 عامًا بشكلٍ متواصل.
وكذلك أنهى الأسير القيادي في حركة حماس، جمال عبد السلام أبو الهيجا (61 عامًا) من سكان مخيم جنين، عامه الـ 19 في سجون الاحتلال، وذلك منذ اعتقاله بتاريخ 26 أغسطس/ آب 2002، وتمّ نقل أبو الهيجا إلى العزل الانفرادي بعد اعتقاله مباشرة، ومكثَ في العزل ما يقارب 10 سنوات. والـ 10 سنوات ذاتها قضاها الأسير عبد الله البرغوثي، صاحب أعلى حكم في السجون الإسرائيلية بـ 67 مؤبدًا.
في أقسى قصص العزل، خرج الأسير منصور الشحاتيت بعد انتهاء محكوميته البالغة 17 عامًا قضى معظمها في العزل الانفرادي، فاقدًا للذاكرة ولم يستطع التعرُّف إلى أفراد عائلته.
وفي السياق ذاته استمرَّ عزل القيادي إبراهيم حامد 6 سنوات، وتمَّ نقله إلى سجن هداريم، ويقضي حاليًّا حكمًا من أعظم الأحكام في العالم بالسجن المؤبد 54 مرة.
وانتهى إضراب الأسرى السابقين عام 2012 بعد إضراب طويل عن الطعام، إلى جانب مجموعة من قيادات الأسرى التي واجهت عذابًا طويلًا من العزل.
وفي أقسى قصص العزل، خرج الأسير منصور الشحاتيت بعد انتهاء محكوميته البالغة 17 عامًا قضى معظمها في العزل الانفرادي، فاقدًا للذاكرة ولم يستطع التعرُّف إلى أفراد عائلته.
لم يكن الشاب الفلسطيني منصور الشحاتيت، ابن قرية خُرسا جنوب الضفة الغربية المحتلة، قد تجاوز 18 عامًا من عمره، حين اعتقله الجيش الإسرائيلي عام 2003، وحُكم عليه بالسجن 17 عامًا، ليفرَج عنه بعد قضائه محكوميته وقد نالت قيود السجّان من صحته وذاكرته.
أفرجت “إسرائيل” عن الشحاتيت (35 عامًا) من سجن النقب جنوب فلسطين المحتلة، لكن الحال التي كان عليها فاجأت أهله وأقاربه. وخلال فترة اعتقاله تنقّل منصور بين مختلف السجون الإسرائيلية، لكن الأصعب والأكثر قساوة كانت زنزانات العزل الانفرادي التي أمضى فيها ما يزيد على 13 عامًا، منها 3 سنوات كانت متواصلة في بداية اعتقاله، حسب حديث والده الحاج يوسف الشحاتيت لوسائل الإعلام.
ويعدّ العزل الانفرادي من صور التعذيب النفسي المحظورة بموجب المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب المبرَمة عام 1984، وهو أيضًا من أساليب المعاملة اللاإنسانية والحاطّة بالكرامة، ما يجعله انتهاكًا للمادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 7 من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تمنع ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية والحاطّة بالكرامة بشكل قطعي.
أما ظروف العزل فشكّلت انتهاكًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، إذ إنها تتعارض مع أدنى المعايير الصحية للسجون ومراكز الاعتقال التي تفرضها المادتان 91 و92 من اتفاقية جنيف الرابعة.
ويُعتبَر انقطاع السجين عن الاتصال بالعالم الخارجي مخالفة للمعايير الدولية التي تتفق على حقّ السجين بالاتصال بالعالم الخارجي، لا سيما الاتصال بأسرته.
وتشكل ظروف العزل بحدّ ذاتها انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، فالظروف التي يتمّ عزل الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين بها لا تتناسب والمعايير الصحية التي تمَّ النص عليها في المادتَين 91 و92 من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة المدنيين في النزاعات المسلحة وحالات الاحتلال.
ظروف الأسرى فى العزل الانفرادي
إذا أراد أحد أن يتصوّرَ حجم المعاناة بتفصيل أكثر، فما عليه إلا أن يتخيل أن الأسير في هذه الزنزانة الضيقة يطبخُ ويستحمُ ويقضي حاجته، ما يجعل الزنزانة ممتلئة بأبخرة الطعام عند الطبخ وبخار الماء عند الاستحمام وروائح قضاء الحاجة.
والمدة القصيرة لـ”الفورة” لا تسمح بلعب الرياضة والركض والمشي، كما أن توقيت الخروج إليها غير ثابت ويعود لمزاج إدارة السجن، وأما نوعية الطعام في غرف العزل متردّية إلى حد بعيد، لذلك يعتمد الأسير في معظم الأحيان على بقالة السجن، ما يُسمّى بالكانتين، لشراء وطبخ الطعام، ما يثقل كاهل الأسير وعائلته ماليًّا، وتزداد المعاناة في غرف العزل بقلة التهوية والرطوبة العالية.
شهادة مشفوعة بالقسم لأحد الأسرى المحرَّرين الذين خاضوا تجربة العزل
أكّد الأسير المحرَّر هشام حميدان الشرباتي (45 عامًا)، والذى مكثَ في سجون الاحتلال 10 سنوات منها 5 في العزل الانفرادي، أن أقلَّ وصف للعزل بأنه ممارسة “موت بطيء مع عذاب للأسير” .
ويضيف: “في عزل “أيلون” لا يوجد شبّاك في الزنزانة، والشمس لا تدخلها والرطوبة عالية والإضاءة ضعيفة، وعلى باب الزنزانة شبّاك صغير مغلَق في معظم الأوقات إلا في حالة العدّ أو في لحظة تحدُّث السجّان إلى الأسير أو عند مراقبته”.
ويلفت إلى أنه لا يتمّ الخروج إلى “الفورة” إلا بوجود ضابط من إدارة السجون مع وضع السلاسل في اليدَين إلى الخلف، وكذلك يتم ربط القدمَين، كما لا يُسمَح للأسير باصطحاب أي شيء من مقتنياته الشخصية.
وعن وسائل التضييق التي يمارسها السجّان في العزل، يؤكد أن تفتيش الزنزانة يتمّ يوميًّا، وخلاله يتمّ تكبيل الأسير بالسلاسل قبل الدخول إلى الزنزانة وبحضور ضابط، مشيرًا إلى أن التفتيش يقُصَد به تخريب المقتنيات الخاصة بالأسير وأحيانًا يحاولون ممارسة التفتيش العاري الذي يرفضه الأسرى.
ويشدِّد على أن إدارة السجن تتعامل مع المعزول بطريقة استفزازية مقصودة ومدروسة، بهدف جرّه إلى ردة الفعل التي تؤدي إلى إقرار عقوبات جديدة عليه، وهم يحاولون بكل الطرق استفزاز الأسير والتعرُّض لكرامته وإذلاله.
كما أن القسم يستخدَم بشكل مشترك بين الأسرى السياسيين والسجناء الجنائيين في قسم العزل في سجن بئر السبع، حيث يخشى الأسرى من حالات اعتداء يتعرضون لها على يد السجناء الجنائيين، كما حصل في قسم العزل بسجن الرملة، حيث تمّ الاعتداء بالسكين من قبل سجين يهودي جنائي على معتقل فلسطيني أمني.
وأضاف الشرباتي أن هناك فتحة صغيرة أسفل الباب يتمّ من خلالها إدخال الطعام الرديء الذي يعدّه معتقلون جنائيون إسرائيليون، ولا يأكله الأسرى الفلسطينيون غالبًا حيث يشترون طعامهم من الكانتين بواسطة أحد الموظفين لهذا الغرض.