تدخل تونس والمغرب مرحلة سياسية جديدة تحمل تغييرات على مستوى أنظمة الحكم، فالأولى تعيش على وقع انقلاب دستوري قاده رئيس الجمهورية قيس سعيّد، فيما صعدت في الثانية أحزاب موالية للملك بعد خسارة العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ما يعني أن التحوّلات السياسية ستُلقي بظلالها على الاقتصاد المتأثِّر أصلًا بتداعيات جائحة كورونا وعلى مسار التنافس بين البلدَين.
تاريخ العلاقات الاقتصادية
ترتبط تونس والمغرب بعلاقات تاريخية سياسيًّا واقتصاديًّا، وهي جزء من الروابط الجامعة لكل دول المنطقة، وتعود زمنيًّا إلى عملية التبادل التجاري التي مارستها مدن بلاد المغرب خلال القرن الرابع الهجري/ القرن العاشر الميلادي، وهو القرن الذي اتّسمَ بالانتعاش الاقتصادي من جهة، وبالتنافس والصراع بهدف التحكم في منافذ تجارة الذهب والرقيق والملح من جهة أخرى.
العلاقة والتبادل بين البلدَين خلال تلك الفترة، تحكمت فيهما عوامل أساسية طبيعية وبشرية، حيث لعب موقع بلاد المغرب الجغرافي، الذي يمتدّ على سواحل بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وبحر المحيط (المحيط الأطلسي) من جهة، واتصاله بالصحراء الكبرى من جهة أخرى؛ دورًا في توفير اتصال تجاري بحري وبرّي واسع مع الكثير من الأقطار المجاورة والبعيدة منه.
مظاهر الآثار الإيجابية للعلاقات تمثلت في تأسيس مدن عديدة كمراكز سياسية واقتصادية، والتي كان لها أثر مهم في حركة النشاط التجاري المحلي والخارجي، ففي إفريقيا أُسِّست المهدية عام 300هـ/ 912م) وأُنشِئت في المغرب الأوسط المسيلة عام 313هـ/ 925م وأشير عام 334هـ/ 945م، وقد كان لكلتا المدينتَين دور مهم في النشاط التجاري، إضافة إلى المسالك البرية والبحرية.
أما في العصر الحديث، فارتبط البلدان باتفاقات مهمة منذ حصولهما على الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، شملت جُلَّ المجالات، وعلى وجه الخصوص ميادين النقل البحري والتكوين المهني والشباب والتعليم العالي، وقطاع التصدير، حيث يحتلّ المغرب المرتبة الثالثة مغاربيًّا وعربيًّا من حيث شراكته مع تونس، بحجم تبادل تجاري قُدِّر عام 2017 بـ 830 مليون دينار تونسي، أي ما يساوي 8.2 مليار درهم مغربي.
واقع اقتصاد البلدَين
يُعاني الاقتصاد التونسي من أزمات هيكلية معقّدة ورثها من الأنظمة السابقة، ومن تحديات ناجمة عن عسر الانتقال السياسي وارتفاع سقف المطالب الاجتماعية التي أعقبت ثورة 14 يناير/ كانون الثاني، بالإضافة إلى انتشار الفساد والرشوة.
لحظات عصيبة لكنها حاسمة..
ما هو الوضع الذي يعيشه #الاقتصاد_التونسي في خضم أزمة مالية طاحنة؟https://t.co/Yxg0A2O5zM pic.twitter.com/obyMoO5uTS
— CNBC Arabia (@CNBCArabia) May 20, 2021
عجز النظام الديمقراطي الناشئ في تونس عن معالجة القضايا الاقتصادية، وإيجاد السُّبل الممكنة للمضي قدمًا في عملية الإصلاح العميقة التي تحتاجها القطاعات الحيوية الرافعة للتنمية والنهوض، وذلك بسبب الصراع السياسي وتأثير الهجمات الإرهابية والاغتيالات التي استهدفت الرموز الوطنية.
أصيب الاقتصاد التونسي في المقتل متأثرًا بعدة صدمات سلبية، أهمها انهيار السياحة بفعل انعدام الاستقرار السياسي (تغيير الحكومات) والهجمات الإرهابية في عامَي 2015 و2016، وفقدان السوق الليبية، وتراجع إنتاج الفوسفات والنفط بسبب الخلافات التي أديرت بشكل سيّئ في الشركات المملوكة للدولة، والاضطرابات الاجتماعية المتكررة.
كما أدّى عجز القطاع الخاص على خلق ديناميكية حيوية في مجال التشغيل ومواصلة الدولة سياسة الرعاية الوظيفة، إلى تضخُّم فاتورة أجور القطاع العام التي أرهقت خزينة الدولة وقلّلت من الحيز المالي المخصَّص للاستثمار في باقي مجالات الاقتصاد.
تُدلِّل المؤشرات السياسية والتنموية على أنّ عملية تعافي الاقتصاد التونسي التي تطلب تقطيبًا جراحيًّا على مستوى كل القطاعات، قد تأخذ وقتًا طويلًا لا سيما أن البلاد ما زالت تعرف إلى الآن مخاضًا عسيرًا لولادة حكومة ونظام سياسي جديدَين غير واضحَي المعالم.
تعرفُ تونس منذ أشهر أعنف أزمة مالية عمّقها الانسداد السياسي وتبعات جائحة كورونا، حيث بلغت نسبة الانكماش الاقتصادي 8.8%، مع ارتفاع الدين العام المركزي إلى قرابة 87% من إجمالي الناتج المحلي، فيما قفزت نسبة البطالة إلى 17.4% وتراجعت معدلات الاستثمار إلى النصف.
كما تواجه البلاد تحديات كبرى من أهمها القدرة على تعبئة موارد مالية لتغطية عجز الميزانية لعام 2021، والذي بلغ 11.5%، ونجاحها في تعبئة حاجيات الدولة لمجابهة نفقاتها في الميزانية للربع الأخير من هذا العام، والتي تقدَّر بـ 19 مليار دينار (حوالي 5.7 مليارات يورو) للإيفاء ببنود ميزانيتها للعام 2021، كما أنها مطالبة بسداد ديون قيمتها 4.5 مليارات يورو (5.4 مليارات دولار) في العام ذاته.
بدوره، يعرف المغرب تراجعًا في أدائه الاقتصادي، فقد دفعَ نقصُ قيمة الصادرات السلعية والخدمية في العام الماضي بالمقارنة للعام الأسبق، إلى زيادة الاقتراض الخارجي خاصة من صندوق النقد الدولي، حتى بلغت قيمة الديون الخارجية حسب بيانات البنك الدولي 61.7 مليار دولار بنهاية عام 2020، مقابل 54.7 مليار دولار بنهاية 2019.
واستمرَّ الدَّين الخارجي في الارتفاع ليصل إلى 63.7 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي، بينما بلغت قيمة احتياطيات النقد الأجنبي حوالي 36 مليار دولار بنهاية عام 2020، كما تعاني الموازنة المغربية من العجز المستمر منذ عام 2009، لكن تداعيات فيروس كورونا، وبرامج المساندة الحكومية للقطاعات المتضررة، أدّت إلى زيادة نسبة العجز في الموازنة في العام الماضي إلى 7.6%، وهي نسبة غير مسبوقة، ما زاد من الدين العام المحلي.
إستنجاد #المغرب بالبنك الدولي يوم الجمعة الماضي، للحصول على قرض إضافي لإحتواء الأزمة المالية والإقتصادية في البلاد، دليل مادي آخر على إدعاءات #الرباط “التفوق” في إدارة أزمة #كوڤيد19 وإنهيار الإقتصاد والفساد المستشري في كل مفاصل الدولة بما في ذلك القصر. pic.twitter.com/4JS2Yrg8eF
— Ali B. MOHAMED (@RoubiouAli) April 12, 2021
توقّع صندوق النقد الدولي أيضًا استمرار العجز في الموازنة المغربية خلال السنوات الـ 5 المقبلة، مع توقعه انخفاضًا تدريجيًّا لنسبة العجز حتى يصل إلى 3.4% عام 2026.
المملكة المغربية التي يقارب عدد سكانها 36 مليونًا، تُعاني بدورها من استمرار الفوارق الاجتماعية التي عمّقتها التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، فضلًا عن ارتفاع البطالة في أوساط الشباب خصوصًا، وارتفاع معدل الفقر من 1.7% إلى 11.1% خلال الأشهر الثلاثة التي فُرضَ فيها إغلاق صحّي صارم عند ظهور الجائحة، بحسب هيئة الإحصاءات الرسمية.
كما بلغت عائدات القطاع السياحي الذي يعدّ من ركائز الاقتصاد المغربي، قرابة 8 ملايين دولار لعام 2019، لكنها تراجعت بنسبة 65% عند مطلع العام الحالي، وفق وزارة الاقتصاد والمالية.
القدرات والمنافسة
تمتلك تونس والمغرب مقومات كبيرة قادرة على قيادة مسارَيهما نحو النهوض والإقلاع الاقتصادي، فإلى جانب العامل الجغرافي المتمثل في موقعَيهما الاستراتيجي، على اعتبار أنهما مركزان مهمان لوصل غرب المتوسط وجنوبه مع إفريقيا ودول الصحراء، يزخر البلدان بطاقات بشرية هائلة متفرقة بين كوادر ونخب جامعية ويد عاملة مؤهّلة وماهرة (المغرب 37 مليون وتونس 12 مليون).
المغرب وتونس من أفضل البلدان في العالم العربي في اقتصاد المعرفة.. ترتيب 2017.. الكثيرون يعتقدون أن الإمارات أو… https://t.co/yKSaaK8L41
— saoud youssef (@abousohaib) January 20, 2017
البلدان المغربيان لديهما موارد طبيعية هائلة قادرة على رفع الاقتصاد ودعم التنمية، يُذكر منها الفلاحة كالزراعات الكبرى على تنوعها والتمور وزيت الزيتون والموارد البحرية وكذلك الفوسفات، وهي موارد من شأنها أن ترفع في قيمة صادرات البلدَين وترفع في العائدات بالعملة الصعبة.
أمّا فيما يخص المنافسة بين البلدَين الواقعَين في شمال إفريقيا، فتحدِّدها بشكل رئيسي علاقتاهما مع الاستعمار الفرنسي، فأغلب معاملتَيهما التجارية مرتبطة مع باريس وبالفضاء الأوروبي وبما يحتاجه الأخير من موارد طبيعية وسلعية أخرى، وهو ما يتأكد في قيمة الاستثمارات الوافدة.
تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” أشار بوضوح إلى تواصل تعثُّر تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لتونس للعام الثاني على التوالي، حيث سجّلت تراجعًا بنسبة 23% بين عامَي 2019 و2020، لتبلغ قيمة الاستثمارات 652 مليون دولار، وهو أضعف تدفُّق مقارنة بالمغرب الذي تمكّن من الصمود في وجه الجائحة مسجّلًا نموًا طفيفًا في قيمة الاستثمارات قدِّرت بحوالي 1.8 مليار دولار في 2020.
الأسبقية في الاستثمار تعود أساسًا إلى حالة الاستقرار السياسي والأمني التي يعرفها المغرب مقارنة بتونس، فالأخيرة عرفت تغيُّرًا مستمرًّا في الحكومات وارتفاعًا في منسوب الاحتجاجات والإضرابات، وانعدامًا في الأمن نتجَ عن العمليات الإرهابية، ما أدّى إلى مغادرة الشركات الأجنبية للبلاد (نسيج وملابس) وهروبها إلى المغرب على اعتبار تملُّكها للمقومات الطبيعية والبشرية ذاتها.
في سياق متّصل، يتنافس المغرب وتونس في قطاع الفوسفات على اعتبار أن البلدَين يمتلكان احتياطات ضخمة من هذه المادة، غير أن تونس عرفت تراجُعًا كبيرًا في إنتاجها نتيجة الإضرابات المتتالية والاحتجاجات المتواصلة والفساد، حيث كانت رابع أكبر منتج للفوسفات في العالم عام 2010 بنحو 8.2 ملايين طن، لكنها فقدت موقعها في قائمة الـ 10 الأوائل لتصبح دولة مستوردة.
أمّا المغرب فقد حافظ على المركز الثاني وحقّق ارتفاعًا في قيمة صادراته من هذه المادة، حيث أشارت بيانات مكتب الصرف (حكومي) إلى أن تلك الصادرات وصلت في العام الماضي إلى 4.2 مليارات دولار، بزيادة بنسبة 30.3%، كما تعمل الرباط على تطوير خطط الاستثمار لجذب حوالي 50% من الطلب العالمي الإضافي.
في قطاع السياحة، يعدّ المغرب وتونس من البُلدان المتطورة في هذا المجال مقارنة بباقي الدول الإفريقية، لما يمتلكانه من ميزة جغرافية متمثلة في الجبال والشواطئ والمدن الساحلية، وإرث ثقافي وتاريخي وبنية تحتية متطورة.
يتنافس البلدان في تطوير قطاع السياحة وتعزيز مكانتَيهما كوجهات مطلوبة عالميًّا، عبر خطط التسويق والترويج التي تهدف إلى تحفيز السيّاح على قضاء رحلاتهم في هذه البلدان، غير أن الرباط تتفوق على تونس في ترتيب الدول السياحية، حيث يحتل المغرب المرتبة الأولى مغاربيًّا وإفريقيًّا والثالث عربيًّا، فيما تحلُّ تونس الثانية مغاربيًّا والثالثة إفريقيًّا والخامسة على الصعيد العربي.
في الفلاحة، تجاوز المغرب تونس في إنتاج الحبوب، حيث ما زالت الأخيرة تورّد تقريبًا 70% من حاجياتها، فيما أعلنت الأولى مؤخرًا أن محصولها النهائي لهذه السنة قدِّر بـ 103.3 ملايين قنطار، وهو ما يمثِّل أكثر من 3 أضعاف المحصول الذي سجّل في العام الماضي، مسجّلًا ارتفاعًا بـ 321%، وبهذه النسبة ستتأكّد التقديرات الأولية المتصلة بنمو القطاع الزراعي، بجميع سلاسله، حيث ينتظر أن تصل القيمة المضافة إلى أكثر من 13 مليار دولار، بزيادة بنسبة 18%.
أما في مجال تصدير زيت الزيتون، تنتزع تونس منذ سنوات طويلة الصدارة عربيًّا وبفارق كبير جدًّا عن بقية الدول خاصة المغرب، وهي من كبريات الدول المصدِّرة في العالم، وتتوقع السلطات التونسية أن تبلغ صادراتها بنهاية الموسم الحالي 300 ألف طن، وقد استحوذ البلد الإفريقي على خُمس الصادرات العالمية.
آفاق التكامل
أزمة الاقتصاد المغربي والتونسي تتلخّص بالأساس في خضوع البلدَين للهيمنة الاستعمارية الفرنسية ولشروط صندوق النقد الدولي، فقد هيمنت المبادلات التجارية العمودية بين بُلدان المغرب العربي وأوروبا ولا تزال تحتل المرتبة الرئيسية، على حساب التبادلات الأفقية المغاربية البينية، لذلك ظلت أوروبا سيدة اللعبة تتحكم في السوق وفي قيمة الاستثمارات وعائداته.
إن تحوّل الاقتصاد التونسي إلى اقتصاد معتمد على رأس المال الأوروبي، ارتبط بشكل وثيق بتدخّلات صندوق النقد والبنك الدوليين في السياسات الاقتصادية للدولة عبر القروض والبرامج المشروطة https://t.co/tHtoXnI8g0 via @AlakhbarNews
— Maher Salameh (@MaherSalameh) September 7, 2021
لذلك، فإن تونس والمغرب بحاجة إلى معالجة مواطن الضعف المالية المتزايدة جراء علاقتها التجارية مع أوروبا غير المتوازنة، والبحث عن أسواق أخرى بعيدة عن الفضاء الغربي التقليدي، وهو ما يسعى إليه المغرب حاليًّا من خلال الانفتاح على مجاله الإفريقي الواسع.
هذه العملية تتطلب إصلاحات مالية واقتصادية عاجلة للحدّ من التزامات الديون المُفرِطة وإعادة بناء المخازن المالية المحلية، والعمل على خفض النفقات غير المنتجة وتعبئة الإيرادات الإضافية بطرق تحمي الفئات الضعيفة في المجتمع.
أمّا التكامل المغربي-المغربي في مجال التعاون الاقتصادي لن يُثمر إلا بإلغاء القيود التي تعرقل حركته (الجمركية والتشريعية)، ثم البدء في عملية تجميع وتعبئة الموارد الإنتاجية والبشرية والمالية المتوفرة لدى هذه الدول وتسخيرها من أجل اقتصاد موحَّد في إطار كتلة اقتصادية مغاربية تتوافر فيها حرية انتقال السلع والأشخاص ورؤوس الأموال.
يأتي بعد ذلك زيادة قدرة الشركات التي تقدِّم خدمات مبتكرة ومنتجات جديدة ودعمها على اختراق الأسواق الخارجية مع ضرورة معالجة الاختناقات الهيكلية التي تعقّد وصول الشركات إلى التمويل، ما يعني أنّ هذه البلدان مدعوة للبحث عن مرافئ مالية خارجية موثوق بها تساعدها على تحديث القدرات التنافسية وتحسين مستوى نظم الابتكار والتجارة والاستثمار بأشكال تحفِّز مؤسساتها التجارية المحلية على أن تصبح أقطاب تنافسية عالمية.
النجاح في التكامل والخروج من دوائر الأزمات والتبعية لا يشترط توفُّر رؤى وخطط اقتصادية فقط، بل يحتاج إلى تحسين الوضع الأمني الإقليمي في منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي، فكلما قلّت المخاطر الأمنية والنزاعات الحدودية تحسّنَ مناخ الاستثمار وتطوّرَ أداء الأعمال التجارية.