ربما ليس ثمة جدل في العالم أهم من بعد مشاهد الانسحاب الأمريكي الأخير من العاصمة الأفغانية كابول، إلا التحول الجيوإستراتيجي الذي استجد في المياة القريبة من الصين، خلال الساعات الأخيرة، وضرب بشكل مباشر المصالح الفرنسية في تلك المنطقة في نفس الوقت أيضًا.
لا نتحدث عن مجرد استحداث تحالف سياسيٍ جديد في حدود المحيطين الهندي والهادي، وإنما تشير الشواهد إلى عملية “فك وتركيب” تاريخية، بلا أي مبالغة، بالقوة، جيوسياسيًا، في تلك المنطقة الملتهبة (لم تحترق بعد) من العالم.
تحالف على أنقاض باريس
بينما كانت تستعد باريس للاحتفال بمرور أكثر من قرنين على مشاركتها البحرية الأمريكية في معارك حرب الاستقلال ضد بريطانيا، وتحتفي بمجمل إنجازات حقبة ماكرون في أيامها الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة، ممثلةً في تمدد النفوذ الفرنسي، اقتصاديًا، من شرق المتوسط (اليونان) إلى العراق الذي حصلت به باريس على عقود طاقوية مليارية مؤخرًا، فإذا بها تتلقى “صفعة” تاريخية، قد لا تقل مرارةً عن الهزائم العسكرية المباشرة، من أبرز حلفائها في الخارج.
ربما لم تكن فرنسا المستهدف الأول مما جرى مساء الأربعاء الماضي، بعد اجتماع كل من چو بايدن الرئيس الأمريكي وبوريس چونسون رئيس الوزراء البريطاني وسكوت موريسون رئيس الوزراء الأسترالي عبر الإنترنت لإعلان تدشين تحالف جديد في منطقة المحيطين الهادي والهندي، إلا أن المؤكد أنها الطرف الأكثر خسارة على الإطلاق، بشكل يفوق المستهدف الأول من هذه الإجراءات، الصين، حتى الآن.
ففي عام 2016، نجحت شركة “نوڤال جروب”، عملاق الصناعات البحرية الفرنسية، في اقتناص صفقة ضخمة لتلبية مطالب البحرية الأسترالية من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، وذلك من فم كبريات الشركات الأوروبية المنافسة، وعلى رأسها العملاق الألماني “ثيسن كروپ” بقيمة مبدئية وصلت إلى 43 مليار دولار، تضاعفت لاحقًا إلى ما يصل إلى 90 مليار دولار.
قررت أستراليا، باتفاق مع القوتين العظميين التاريخيتين غربيًا، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أن تستعيض عن هذا البرنامج الفرنسي بآخر مشترك مع لندن وواشنطن، ضمن ترتيبات أمنية تاريخية غير مسبوقة في تلك المنطقة من العالم
نتحدث إذًا عن واحدة من كبرى صفقات الأسلحة في التاريخ، ميزانية دولة بأكملها، وذلك من أجل الدخول في شراكة مع الجانب الأسترالي لتوريد 12 غواصة فرنسية معدلة لتعمل بالوقود النووي، بدلًا من الغواصات التقليدية التي تعمل بالديزل أو الكهرباء، ضمن برنامج تقني ضخم، أنعش الخزانة وصناعة الأسلحة البحرية في فرنسا.
لكن بعد 5 أعوام تقريبًا على تدشين ذلك البرنامج، قررت أستراليا، إن جاز القول، باتفاق مع القوتين العظميين التاريخيتين غربيًا، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أن تستعيض عن هذا البرنامج الفرنسي بآخر مشترك مع لندن وواشنطن، ضمن ترتيبات أمنية تاريخية غير مسبوقة في تلك المنطقة من العالم.
صدمة باريس
رغم أن هذا التحالف الجديد “أوكوس” (AUKUS) الذي يعد اختصارًا للمقاطع الأولى من أسماء الثلاثي المشارك فيه، أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بالترتيب، لم يستهدف فرنسا مباشرة كما قال بايدن، فإنه تسبب في إلحاق خسائر فادحة بباريس.
يمكن إجمال تلك الخسائر، بأنه إلى جانب ضياع حزمة هائلة من الأموال التي كانت ستنعش صناعة السلاح الفرنسية والاقتصاد كله بشكل عام، فإن هناك خسائر دبلوماسية هائلة تعرضت لها باريس أمام العالم، بعد فشلها في حماية عقود السلاح مع حلفائها وإقصائها من الترتيبات الأمنية الجديدة في تلك المنطقة.
في الواقع، كما يؤكد خبراء عسكريون، فإن هذه ليست المرة الأولى التي تسحب خلالها واشنطن البساط من تحت أقدام باريس في الصفقات العسكرية، فقد حصل ذلك من قبل في مناسبات عدة في الحدائق الخلفية الأوروبية لفرنسا، في صفقات مع سويسرا وبلجيكا وبولندا، كما أجبرت الولايات المتحدة فرنسا من قبل على العدول عن تصدير حاملات مروحيات عملاقة إلى روسيا، إلا أن ما حدث في الساعات الأخيرة كان الأسوأ والأشد وطأة على الفرنسيين.
استدعت باريس سفيري لندن وواشنطن على أراضيها، وألغت حفلًا وديًا كان من المقرر تنظيمه في واشنطن أمس الجمعة، احتفاءً بمرور 240 سنة على معركة “تشيزييك” التي شارك فيها الفرنسيون والأمريكيون معًا ضد الإنجليز
وكأي دولةٍ تعرضت إلى نكسةٍ وهزيمةٍ فادحة، فقد بدا رد الفعل الفرنسي متخبطًا للغاية، إذ اختفى الرئيس إيمانويل ماكرون عن الأنظار تمامًا، وأوكل الإدارة الإعلامية للحدث إلى كل من وزير الخارجية جان إيف لورديان ووزيرة الدفاع فلورانس بارلي.
تكشف التصريحات الصادرة عن هذين المسؤولين فاجعةً كبرى تعرضت لها الدبلوماسية الفرنسية، وعدم قدرة، في نفس الوقت، على اتخاذ رد فعل ملائم لتلك الصدمة، فقد أشار وزير الخارجية في لقاء إذاعي مع محطة رسمية أنه يشعر بغصةٍ ومرارةٍ شديدة، نتيجة عدم اختلاف السلوك الأمريكي في عهد بايدن عما كان يحدث في عهد ترامب، فيما قالت بارلي إن ما حدث “طعنة في الظهر”.
وفيما يمكن القول إنها إجراءات لازمة لحفظ ماء الوجه، فقد قامت باريس باستدعاء سفيري لندن وواشنطن على أراضيها، وألغت حفلًا وديًا كان من المقرر تنظيمه في واشنطن أمس الجمعة، احتفاءً بمرور 240 سنة على معركة “تشيزييك” التي شارك فيها الفرنسيون والأمريكيون معًا ضد الإنجليز.
السلوك الأسترالي
قد يبدو موقف كانبرا من الأمر برمته ملغزًا، لكن معرفة بعض المعطيات المهمة قد تفيد في إزالة ذلك الغموض، إذ كما أوضح بايدن، لطالما كانت أستراليا شريكًا للولايات المتحدة، حتى لو تخلى عنها الجميع، ابتداءً على الأقل من الحرب العالمية الأولى، مرورًا بحروب الخليج وأفغانستان، وصولًا إلى تحالف “العيون الخمسة” الاستخباري الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، كل من نيوزيلندا وكندا.
الأمر الثاني، أن أستراليا، وفقًا لخبراء عسكريين، طالما كانت “قليلة الحظ” في إبرام صفقات عسكرية جيدة، إذ تشتري كانبرا بأعلى سعر، تكنولوجيا غير مجربة، يضطر الجيش الأسترالي إلى التخلي عنها سريعًا، كما لو كانت دولة من دول العالم الثالث.
وهو ما حدث فيما يبدو أيضًا في تلك الصفقة الفرنسية، فما سعت أستراليا للحصول عليه ببساطة، كان أسطولًا جديدًا من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، لكي يدخل إلى الخدمة ويحل محل أسطول الغواصات “كولنز” الذي يعمل منذ أكثر من 20 عامًا في البحرية الأسترالية.
حتى أسبوعين قبل تدشين ذلك التحالف الثلاثي الجديد في تلك المنطقة، فإن المسؤولين الأستراليين المعنيين بهذا الملف، وزيري الخارجية والدفاع، كانا يؤكدان أن الصفقة مع الجانب الفرنسي مستمرة دون تغيير، وهو ما يرجح أن “أوكوس” جرى إخراجه إلى النور سريعًا
ما طرحته باريس وقبلت به كانبرا، هو إدخال تعديلات جديدة على غواصاتها التقليدية، بحيث يمكن أن تعمل بالطاقة النووية، وهو نموذج غير عملي وفقًا لمحللين، إذ تفتقد النماذج المطروحة، إلى جانب سعرها الهائل، إلى أهم سمات الغواصات النووية، كالحجم الكبير والهدوء والمدى الطويل.
وبسبب مشاكل في النماذج الفرنسية خلال الـ5 أعوام الماضية، فقد سعت السلطات الأسترالية إلى إيجاد وسيلة تتملص خلالها من التزامها مع الفرنسيين، وتبلور هذا المسعى جديًا فبراير/شباط الماضي، من خلال توصية فنية من البحرية الأسترالية بالخروج من تلك الصفقة، وتقديم وزيرة الدفاع ليندا رنيولدز التي ستستقيل حال وجدت السلطات الأسترالية مخرجًا من هذه الأزمة، قربانًا لامتصاص الغضب الفرنسي الذي يتوقع أن يكون عارمًا.
حتى أسبوعين قبل تدشين ذلك التحالف الثلاثي الجديد في تلك المنطقة، فإن المسؤولين الأستراليين المعنيين بهذا الملف، وزيري الخارجية والدفاع، كانا يؤكدان أن الصفقة مع الجانب الفرنسي مستمرة دون تغيير، وهو ما يرجح أن “أوكوس” جرى إخراجه إلى النور سريعًا، مع توفير بديل تكنولوجي من داخله للصفقة الفرنسية التي لم تكن ترضي أستراليا.
الصين المستهدف الأول
لا شك إذًا أن الخسارة الكبرى من هذا التحالف الذي لم يكن يستهدف فرنسا بشكل مباشر قد وقعت على باريس، ومن الوارد أن تكون الأيام القادمة حبلى ببعض المفاجآت من السلطات الفرنسية التي تشعر بالصدمة مما حدث، لكن ماذا عن المستهدف الأول؟
رغم كون هذا التحالف موجهًا في الأساس إلى الصين، كجزء من الإستراتيجية الأمريكية الجديدة لاستباق الهيمنة الصينية الكاملة على السيادة العالمية، من خلال حصارها تجاريًا وتكنولوجيًا وجيوسياسيًا، فإن قادة الدول الثلاثة حرصوا على تجنب التصعيد الكلامي مع الصين.
على العكس، فقد أشار مسؤولون رفيعو المستوى في إدارة بايدن في تصريحات صحافية أن هذا التحالف ليس موجهًا ضد الصين، وأبرز چونسون هدفًا تقنيًا من هذا التحالف، وهو محاولة تخفيض تكلفة تطوير الجيل الجديد من الغواصات النووية البريطانية.
حذر مسؤولون دبلوماسيون صينيون من السفارة الصينية في واشنطن من أن هذا التحالف الجديد في تلك المنطقة قد يعد بمثابة إعادة إحياء لأساليب الحرب الباردة، وقد يلحق ضررًا جسيمًا بالسلام والاستقرار
ومع ذلك، فقد تلقت بكين الرسالة الواضحة أصلًا جيدًا، إذ قالت على لسان المتحدث باسم خارجيتها تشاو لي چيان: “أي آلية إقليمية يجب أن تتفق مع اتجاه السلام وتطور العصر وتساعد في تحسين الثقة المتبادلة والتعاون وألا تستهدف طرفًا ثالثًا وتقوض مصالحه”، في إشارة إلى الأهداف العدائية لهذا التحالف من وجهة نظر صينية.
وحذر مسؤولون دبلوماسيون صينيون من السفارة الصينية في واشنطن من أن هذا التحالف الجديد في تلك المنطقة قد يعد بمثابة إعادة إحياء لأساليب الحرب الباردة، وقد يلحق ضررًا جسيمًا بالسلام والاستقرار، بالأخص في ضوء تعزيز سباق التسلح والتوسع في الاستخدامات النووية العسكرية.
الأيام المقبلة
يحاول الفرنسيون في هذا التوقيت تصوير تلك الخطوة الأمريكية البريطانية بأنها ليست خطرًا على مصالحهم فقط، وإنما خطر أيضًا على التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما يستدعي تحركًا أوروبيًا مشتركًا سواء كان من خلال إعادة إحياء فكرة الجيش الأوروبي المشترك كما طرحها ماكرون من قبل، أو عبر اتخاذ موقف دبلوماسي موحد في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد منتصف الشهر القادم في لوكسمبورغ.
من جانبها، فإن الولايات المتحدة فيما يبدو، مستمرة في سياسات محاولة تطويق التنين الصيني، سواء كان بالدبلوماسية المباشرة وهو ما تمثل في المكالمة التليفونية الأخيرة بين زعيمي البلدين التي فشلت في الاتفاق على عقد قمة ثنائية قريبة أم من خلال التكتلات المناهضة، من قبيل القمة الرباعية التي ستعقد في واشنطن الأسبوع المقبل، بمشاركة الهند واليابان وأستراليا.
من الواضح، أن الهدف الإستراتيجي الذي تسعى أمريكا إليه، وهو كبح نفوذ بكين المتنامي، سيكون له مقابل معتبر سيدفع من رصيد العلاقات الأمريكية الأوروبية من جهة، أو من خلال محاولة استمالة روسيا بعيدًا عن الصين عبر رفع بعض العقوبات الاقتصادية والاعتراف بنفوذها في بعض مناطق إفريقيا من جهة أخرى.
أما أستراليا، التي تخلصت من عبء الصفقة الفرنسية الضخمة، فسيكون عليها أن تدفع مبلغًا يعادل 295 مليون دولار، شرطًا جزائيًا نظير إلغاء التعاقد من طرف واحد، وهو مبلغ مرشح للزيادة إذا توجهت باريس إلى المحاكم المختصة، لكنه سيظل مبلغًا بسيطًا بالنسبة لأستراليا، مقارنةً بقيمة الصفقة، وبما دفعته خلال الأعوام الماضية، وهو ما تجاوز 1.5 مليار دولار أمريكي.