توفي الرئيس الجزائري السابق، عبد العزيز بوتفليقة، أمس الجمعة في الساعة العاشرة ليلًا بتوقيت الجزائر، عن عمر ناهز 84 سنة حسب بيان صادر عن الرئاسة، لتنتهي بذلك حياة أحد أبرز السياسيين الذين حكموا الجزائر لعقدين، عقدين كانت بدايتهما حلوة، فقد كان يُحمل على الأعناق، أما نهايتهما فكانت مرة، بعد أن لفظه الشعب وثار عليه وأجبره على الاستقالة من منصب الرئاسة.
قدامى المحاربين
يعتبر عبد العزيز بوتفليقة الذي ولد في 2 من مارس/آذار 1937 بوجدة (شرق المغرب)، من قدامى المحاربين في حرب الجزائر من أجل الاستقلال، وتولى مناصب قيادية في الثورة الجزائرية قبل الاستقلال، وفي الدولة بعده، وقاد الدبلوماسية الجزائرية في فترة الحرب الباردة.
التحق بوتفليقة بعد نهاية دراسته الثانوية بصفوف جيش التحرير الوطني الجزائري ضد فرنسا وهو في سن الـ19 من عمره عام 1956، أنيط له بمهمتين وذلك بصفته مراقبًا عامًا للولاية الخامسة، الأولى سنة 1958 والثانية سنة 1960.
سنة 1981، غادر بوتفليقة الجزائر، وكانت وجهته الخليج العربي، حيث شغل منصب مستشار حاكم الإمارات العربية المتحدة
بعد ذلك، مارس مأمورياته ضابطًا في المنطقتين الرابعة والسابعة بالولاية الخامسة، وألحق على التوالي بهيئة قيادة العمليات العسكرية بالغرب، وبعدها بهيئة قيادة الأركان بالغرب ثم لدى هيئة قيادة الأركان العامة، وذلك قبل أن يوفد عام 1960 إلى حدود البلاد الجنوبية لقيادة (جبهة المالي) من أجل حشد دعم القبائل للثورة ومطلب الاستقلال وهو ما نجح فيه وأصبح تطلق عليه تسمية “عبد القادر المالي” نسبة لدولة مالي المجاورة جنوبًا التي كان يقود منها نشاطه.
نتيجة انخراطه في حرب التحرير، تقلد بوتفليقة عقب الاستقلال مباشرة مناصب مهمة في الدولة الجزائرية رغم صغر سنه، فقد تقلد عضوية أول مجلس تأسيسي وطني، ثم تولى وزارة الشباب والرياضة والسياحة وهو في سن الخامسة والعشرين، وفي سنة 1963 عين وزيرًا للخارجية ولم يتجاوز سنة 26، وبعدها بسنة انتخبه مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني عضوًا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي، وهي الفترة التي شهدت بزوغ نجم الجزائر في الساحة الدولية كمدافع عن قضايا التحرر ونظام اقتصادي عالمي جديد ينصف دول العالم الثالث.
جرّب المنفى مبكرًا
رغم هذه الحظوة والمكانة الكبيرة، فقد جرب بوتفليقة المنفى مبكرًا، نتيجة قربه من الرئيس هواري بومدين، فبعد وفاة بومدين، وبحكم العلاقة الوطيدة التي كانت تربطه به ألقى كلمه الوداع، فقد كان بوتفليقة الهدف الرئيسي لسياسة محو آثار الرئيس هواري بومدين أي البومديينية، ذلك أنه كان من أهم المرشحين لخلافته لكن مؤسسة الجيش وقفت ضد طموحه ونصبت الرئيس الأسبق شاذلي بن جديد رئيسًا للدولة.
يذكر أن بوتفليقة شارك بصفة فعالة في انقلاب 19 من يونيو/حزيران 1965 الذي قاده هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة وصار لاحقًا عضوًا في مجلس الثورة تحت رئاسة بومدين، وعُرف ذلك الانقلاب بـ”التصحيح الثوري” وصار عطلة رسمية حتى سنوات بعد توليه الرئاسة في 2003 إلى أن تم إلغاء يوم 19 من يونيو/حزيران كيوم عطلة مدفوع الأجر.
سنة 1981، غادر بوتفليقة الجزائر، وكانت وجهته الخليج العربي، حيث شغل منصب مستشار حاكم الإمارات العربية المتحدة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حينها اتهم بوتفليقة بعدة عمليات اختلاس بين سنة 1965 وسنة 1978 وصلت إلى 6 مليارات سنتيم آنذاك، إذ صدر أمر قضائي بتوقيفه حسب جريدة المجاهد (9 من أغسطس/آب 1983)، وقد أثيرت حينها قضية ارتباطه بالفساد ثم أسدل الستار على تلك القضية.
بعدها بخمس سنوات، عفى عنه الرئيس الشاذلي بن جديد آنذاك، إلا أنه لم يعد إلى الجزائر إلا في يناير/كانون الثاني 1987، وقد كان من موقّعي وثيقة الـ18 التي تلت أحداث 5 من أكتوبر/تشرين الأول 1988، وشارك في مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني عام 1989 وانتخب عضوًا للجنة المركزية.
حاول في تلك الفترة العودة إلى الساحة السياسية من بوابة حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، لكن دخول البلاد في أزمة سياسية وأمنية بعد صدام بين الإسلاميين والنظام جعله يغادر البلاد مطلع التسعينيات.
الأكثر مكوثًا في الحكم
في ديسمبر/كانون الأول 1998، أعلن بوتفليقة نيته دخول المنافسة الرئاسية كمرشح حر، وقبل يوم من إجراء هذه الانتخابات انسحب جميع المرشحين المنافسين الآخرين بحجة دعم الجيش لبوتفليقة ونيه التزوير الواضحة، ليبقى هو المرشح الوحيد للانتخابات.
عاد بوتفليقة إلى الجزائر كمرشح للسلطة الحاكمة لرئاسة البلاد لخلافة لليامين زروال الذي قرر الاستقالة ليعتلي الحكم شهر أبريل/نيسان 1999 في انتخابات اتهمت السلطة الحاكمة “بتزويرها لصالح المرشح عبد العزيز بوتفليقة”، لكن هذا الأخير رفض تلك الاتهامات وقال: “انسحاب منافسيه مناورة سياسية فقط لا تستند إلى دلائل ملموسة عن التزوير”.
في 8 من أبريل/نيسان 2004، أعيد انتخاب بوتفليقة رئيسًا للجزائر بما يقارب 85% من الأصوات، وسمح تعديل الدستور لبوتفليقة بفرصة الترشح لعهدة رئاسية ثالثة بعد أن حدد النص السابق للدستور عدد العهدات لمرتين فقط.
نيته الترشح لولاية رئاسية خامسة، عجلت بسقوطه المدوي من كرسي السلطة
في 9 من أبريل/نيسان 2009 أعيد انتخاب انتخاب عبد العزيز بوتفليقة للمرة الثالثة على التوالي بأغلبية ساحقة قدرت بنسبة 90.24%، وفي أبريل/نيسان 2014، فاز بعهدة رئاسية رابعة بعد حصوله على 81.53% من الأصوات، رغم من حالته الصحية الحرجة حينها.
في نوفمبر/نشرين الثاني 2012، تجاوز بوتفليقة في مدة حكمه مدة حكم الرئيس هواري بومدين ليصبح أطول رؤساء الجزائر حكمًا، وخلال فترة حكمه، نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال نفذها انتحاري من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي واستهدفت موكبه في 6 من سبتمبر/أيلول 2007 في باتنة جنوب شرقي الجزائر، لكن الانتحاري الذي اكتشف أمره استعجل تفجير حزامه قبل وصول الرئيس.
الولاية الخامسة تعجل برحيله
نيته الترشح لولاية رئاسية خامسة، عجلت بسقوطه المدوي من كرسي السلطة، فما إن أعلن مقربون منه نيته الترشح للرئاسة مرة أخرى، حتى خرج الجزائريون للشوارع رفضًا للعهدة الخامسة، نظرًا لحالته الصحية التي كان عليها.
نفض الشعب الجزائري غبار الخوف عنه وأعلن الانتفاضة على الواقع السائد والمطالبة برحيل النظام، حاولت أعمدة النظام في البداية التقليل من أهمية هذا الحراك بتصريحات متفرقة لا تغني ولا تسمن من جوع، فالجماهير قررت ألا عودة إلا بتحقيق الهدف المنشود وهو التغيير ورحيل بوتفليقة وجماعته، وكان لها ذلك.
في 2 من أبريل/نيسان 2019، قدم بوتفليقة استقالته، قبل أقل من 20 يومًا من انتهاء ولايته الرابعة، منهيًا بذلك فترة حكم استمرت 20 عامًا، استقال بوتفليقة بعد مكابرة، ليكون بذلك خامس رئيس عربي تسقطه الجماهير الثائرة التي تطمح إلى التحرر من قبضة الديكتاتورية.
مهندس المصالحة الوطنية
لكن في الأثناء من الجيد الحديث عن دور عبد العزيز بوتفليقة في صنع المصالحة الوطنية في الجزائر، إذ اعتبر عبد العزيز بوتفليقة لفترة طويلة صانع السلام ومهندس المصالحة الوطنية لدوره في إنهاء الحرب الأهلية في بلاد.
في أثناء فترة رئاسته الأولى كانت الجزائر في أوج الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 1992، وخلفت تلك الحرب، بحسب حصيلة رسمية، نحو 200 ألف قتيل، عمل الرئيس الجديد حينها على إعادة السلم في بلاده.
في سبتمبر/أيلول 1999، صوت الجزائريون بكثافة في استفتاء على قانون الوئام المدني الذي يقر العفو عن المسلحين الذين لم يقترفوا جرائم قتل أو اغتصاب وقبلوا بتسليم أسلحتهم، وأعقب ذلك استسلام الآلاف منهم، وفي 2005، تم إقرار قانون المصالحة الوطنية.
منذ إصابته بالجلطة دماغية سنة 2013، خفض بوتفليقة كثيرًا من نشاطه العام
صوت الشعب الجزائري لصالح هذا القانون في 29 من سبتمبر/أيلول 2005، الذي بدأ العمل به في فبراير/شباط 2006، وهو “يشمل المسلحين في الجبال أو في السجون والمفقودين والعمال المسرحين بسبب المأساة الوطنية وكذلك عائلات الإرهابيين المقتولين”.
سمح قانون المصالحة الوطنية، الذي يعده أنصار بوتفليقة من أهم إنجازاته، في وضع حد للحرب الأهلية، فقد تراجعت الأعمال المسلحة في الجزائر بصفة واضحة إلا أن عناصر من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي ما زالوا ينشطون خاصة في المناطق المحيطة بالعاصمة الجزائرية والجنوب الصحراوي.
سنوات طويلة من المرض
إلى جانب ذلك، لازم المرض أغلب فترات حكم بوتفليقة، فقد كان يتردّد بين الفينة والأخرى على مستشفى “فال دو غراس”، لإجراء فحوصاته الطبية، وأحيانًا عند اشتداد المرض، يُنقل إلى مؤسسة “زانفاليد الوطنية” المتخصصة في الاهتمام بالحالات الصعبة.
أصيب بوتفليقة سنة 2005 بقرحة معدية استدعت عملية جراحية في مستشفى فال دوغراس، قبل أن يصاب في 2013 بجلطة دماغيّة أثّرت على بعض وظائفه وأقعدته على الكرسي المتنقل، وغيّبته عن مخاطبة شعبه وممارسة مهامه أمام كاميرات الإعلام إلا في الضرورة القصوى، ولا تشاهده الجماهير عادة إلا في مقاطع فيديو قصيرة يبثها التليفزيون الرسمي خلال استقباله مسؤولين أجانب يزورون البلاد في مقره الرئاسي.
كان بوتفليقة يسافر دوريًا إلى مستشفيات فرنسية، خاصة مجمع غرونوبل الصحي لمتابعة فحوصاته الطبية، حتى إن طبيبه المباشر جاك مونسيغو المتخصص في القلب الذي كان يعمل سابقًا في المستشفى العسكري في فال دو غراس بباريس بات يعمل في مجمع غرونوبل الذي أقام فيه بوتفليقة.
ومنذ إصابته بالجلطة الدماغية سنة 2013، خفض بوتفليقة كثيرًا من نشاطه العام، وهو ما دفع المعارضة الجزائرية للتشكيك في قدرته على حكم البلد وتسبب في استمرار التكهنات بشأن صحته، حتى إن بعض معارضي بوتفليقة دعوا لإجراء انتخابات مبكرة لسوء حالته الصحية، وقد كان ذلك أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى اندلاع المظاهرات ضده سنة 2019 التي أجبرته على الاستقالة.
رحل بوتفليقة، وسيحظى بجنازة رسمية وسيدفن في مربع الشهداء بمقبرة العالية، إلا إذا رفضت العائلة ذلك، رحل ومعه العديد من الأسرار التي تمنى الجزائريون سماعها قبل وفاته في علاقة بفترة حكمه والجهات التي كانت متحكمة بالحكم خاصة في أثناء مرضه.