يعول الليبيون على الانتخابات المقررة في 24 من ديسمبر/كانون الأول وخاصة الرئاسية منها للتخلص من حالة الانقسام والفوضى الناجمة عن الصراع المسلح الذي أثر على جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، غير أن الخلافات السياسية التي تسود الداخل الليبي منذ إعلان رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح مصادقته على قانون للانتخابات الرئاسية الذي يبدو أنه معد على مقاس خليفة حفتر قائد قوات الشرق، قد تعود بالبلاد إلى المربع صفر.
قانون صالح
تسبب القانون المكون من 77 مادة ونشر في 9 من سبتمبر/أيلول تحت رقم 1 لسنة 2021 وحمل توقيع رئيس مجلس نواب طبرق، الذي ينظم الانتخابات الرئاسية المقررة في 24 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، انقسامًا كبيرًا على مستوى الداخل الليبي خاصة في صفوف نواب البرلمان، وذلك في وقت أعلن فيه المجلس الأعلى للدولة رفضه القاطع لخطوة صالح واعتبرها استئثارًا بالسلطة يُخالف مخرجات الاتفاق السياسي.
النواب المعترضون أكدوا في بيان نشرته وسائل إعلام محلية أن إحالة القانون إلى هيئة الانتخابات “دون التصويت عليه عرقلة للانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة في ديسمبر القادم”، وأضافوا أن الإجراء مخالف للإعلان الدستوري المؤقت والاتفاق السياسي والنظام الداخلي للبرلمان.
بدوره، وصف المجلس الأعلى للدولة إصدار برلمان “صالح” القانون بأنه إجراء أحادي، وبأن رئيس البرلمان يهدف إلى عرقلة الانتخابات المقبلة بتعمده إصدار قانون معيب، فيما اعتبر المراقبون أن هذا القانون الغامض سيدفع الليبيين إلى الصدام مجدًدا على اعتبار أنه صمم لترجيح كفة سياسية على أخرى.
الرافضون للقانون يرون أن عقيلة صالح يقدم خدمةً إلى المشير خليفة حفتر الذي تسيطر قواته على شرق البلاد وأجزاء من جنوبها، ومن المتوقع ترشحه للانتخابات المقبلة.
خرق ومناورة
عمليًا، خرق رئيس البرلمان الليبي الواقع في طبرق (شرق) والداعم الرئيسي لقوات حفتر في حربها على العاصمة طرابلس، الاتفاق السياسي الموقع في جنيف، فالبرلمان لا يملك وحده حق المصادقة أو إصدار قانون انتخاب الرئيس، فبموجب الاتفاق السياسي الليبي يحتاج إصدار القوانين إلى تشاور مع المجلس الأعلى للدولة، وموافقة الأخير ضرورية على القوانين المنظمة للانتخابات.
هذا الشرط أساسي وفق الاتفاق السياسي في ظل التوتر والخلاف بين مختلف الأطراف الذي لم ينته بعد، لذلك فإن توافق الجهات التي تقتسم السلطة في البلاد ضروري بشأن أي قانون حتى يتماشى والحالة الحرجة القائمة.
لذلك، يُمكن القول إن فشل ملتقى الحوار السياسي بجنيف في إقرار القاعدة الدستورية للانتخابات، لا يعني بالضرورة السماح وبطريقة غامضة وعبر شخص رئيس البرلمان بتمرير قانون وفي توقيت حساس، والمعلوم أن صالح شخصية معروفة بدعمها الكبير لحفتر الذي تسيطر قواته على شرق البلاد.
مناورة صالح التي تصب في مصلحة اللواء المتقاعد أكدتها المادة المثيرة للجدل التي أشارت إلى إمكانية ترشح أي عسكري أو مدني لمنصب الرئيس شرط “التوقف عن العمل وممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر”، وفي حال عدم انتخابه “يعود لسابق عمله”، ما يعني أن خليفة حفتر رابح في كلتا الحالتين وضامن لمكانته في المشهد الليبي القادم.
هل ينجح صالح؟
يبدو أن رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح تجاوز الاتفاق السياسي الموقع في جنيف الذي أفرز استحداث مجلس الدولة كغرفة ثانية للبرلمان تتقاسم (مع مجلس النواب) بعض الاختصاصات، وذلك برفضه التنسيق معه رغم إمكانية الطعن دستوريًا في صحة هذه قوانين، وهو ما يوحي بوجود دعم وتنسيق دولي لخطوة صالح.
رئيس البرلمان الذي فرض القانون تعسفيًا ودون تصويت، أربك المشهد السياسي ووضع الجميع أمام الأمر الواقع، مستغلًا فشل منتدى الحوار السياسي في اقتراح أساس دستوري قبل الأول من يوليو/تموز، وعجز مبعوث الأمم المتحدة على تقريب وجهات نظر الفرقاء السياسيين بخصوص هذه النقطة، لتمرير أجندته التي اعتبرها البعض مناورة جديدة تهدف إلى ترجيح كفة خليفة حفتر سياسيًا.
أما فرص نجاح صالح في فرض هذا القانون، فكل المؤشرات توحي بأن رئيس البرلمان أدرك مبكرًا أنه بإمكانه ملء الفراغ التشريعي، وأن خطوته ستلقى ترحيبًا واستحسان عدد من الأطراف الليبية والدولية وحتى الأمم المتحدة نفسها التي أبدت ميلها لهذا الطرح، وذلك رغم إعلان القوى السياسية وخاصة في الغرب الليبي رفضها القاطع لهذه الخطوة لاعتبارات قانونية وديمقراطية.
في ذات السياق، من غير المستبعد أن يكون صالح قد نسق مع الأطراف الخارجية الفاعلة في الملف الليبي وخاصة بعثة الأمم المتحدة، والدليل على ذلك أن إصدار القانون جاء بطلب مسبق من المبعوث الأممي يان كوبيش عقب اجتماعه مع رئيس مجلس النواب في طبرق شرق ليبيا، قبل يومين فقط من إعلان الأخير مصادقته على القانون.
كما أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا أكد في إحاطة سابقة أمام مجلس الأمن، أنه “تبلغ” من عقيلة صالح بأن قانون الانتخابات الرئاسية تم “اعتماده”، معتبرًا أنه “يمكن تنظيم الانتخابات البرلمانية بالاستناد إلى القانون الحاليّ مع احتمال إدخال تعديلات يمكن النظر فيها والموافقة عليها في غضون الأسبوعين المقبلين”.
بالعودة إلى الوراء قليلًا، نجد أن الأعضاء الـ75 بمنتدى الحوار الليبي الذي اختار سلطة سياسية موحدة مطلع فبراير/شباط الماضي، أجروا محادثات في جنيف بين 28 من يونيو/حزيران والـ2 من يوليو/تموز للاتفاق على آلية إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المحددة في 24 من ديسمبر/كانون الأول، وكان يفترض أن ترفع خلاصة نتائجهم إلى البرلمان فور انتهاء المباحثات، لكن سرعان ما أعلنت الأمم المتحدة فشل منتدى الحوار الليبي في التوافق بشأن القاعدة الدستورية للانتخابات.
التدخل الخارجي
خطوة عقيلة صالح التي جاءت بعد تنسيق من بعثة الأمم المتحدة، ارتكزت بشكل أساسي على الداعمين الإقليميين والدوليين وخاصة المعسكر المنحاز للشرق الليبي، فقد أعلنت فرنسا، بشكل مبكر، ترحيبها بقانون صالح واعتبرته “سليمًا تمامًا”.
كما وجدت دعمًا منقطع النظير من الداعمين الإقليميين (حلف الثورة المضادة) لإقصاء الإسلام السياسي من ليبيا حتى تلتحق بركب المغرب وتونس ومصر، فالإمارات روجت لخطوة صالح الأخيرة ودفعت بماكينتها الإعلامية (سكاي نيوز والعربية وموقع العين) من أجل التسويق لفكرة أن الغرب الليبي وحكومة الوحدة الوطنية سيتسببان في انتكاسة للعملية السياسية برفضهم القانون الانتخابي.
أما مصر، فقد استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي عبد الحميد الدبيبة رئيس الحكومة الليبية بالقاهرة لتأكيد أهمية إجراء الانتخابات الليبية بنهاية العام الحاليّ، وذلك بعد يومين من استقباله رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح واللواء المتقاعد خليفة حفتر.
الاجتماع الذي حضره رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي ورئيس المخابرات العامة عباس كامل، تطرق، بحسب بيان الرئاسة، إلى مستجدات الأوضاع على الساحة الليبية، وسط تثمين السيسي صدور قانون الانتخابات عن مجلس النواب الليبي باعتبارها خطوة مهمة.
حساب السفارة الأمريكية في ليبيا أشار في وقت سابق إلى أن حفتر زار القاهرة الشهر الماضي والتقى السيسي ومبعوث الولايات المتحدة في لبيبا يان كوبيش، في إطار التحضير للانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في 24 من ديسمبر/كانون الأول القادم، ما يوحي بوجود تنسيق بين هذه الأطراف لصياغة ملامح المشهد السياسي القادم في ليبيا تُرجح فيها كفة الشرق على الغرب.
على الصعيد ذاته، رغم أن الاتفاق بين الأطراف الليبية الذي ترعاه الأمم المتحدة نص صراحةً على دعم حكومة الوحدة لقيادة المرحلة الانتقالية تمهيدًا لإجراء انتخابات تُنهي حالة الانقسام والفوضى المسلحة، فإن تحالف الظل الداعم لحفتر بقيادة روسيا والإمارات بمشاركة فرنسية، لا يزال يحصن حفتر عسكريًا وسياسيًا.
لذلك، من المؤكد أن اللواء المتقاعد حفتر سيسعى لتعزيز فرصه لضمان مكانه في قائمة المرشحين بقوة لرئاسة البلاد مستغلًا حاجة القوى الخارجية لوكيل يعمل على تنفيذ أجندتهم في المنطقة، وهذا يعني أن صالح وضع قانون الانتخابات سالف الذكر بعد اتفاق مع قائد قوات الشرق.
على هذا الأساس، من غير المستبعد أن يكون عقيلة صالح وخليفة حفتر قد اتفقا على ضرورة تعزيز تعاونهما لحشد الدعم الخارجي استعدادًا للاستحقاق الانتخابي وإمكانية ترشحهما للرئاسة لمواجهة مرشح الغرب فتحي باشاغا الذي يحظى بقبول داخلي وخارجي، خاصة أن صالح بحث في وقت سابق مع السيسي إمكانية ترشحه لرئاسة ليبيا أو الدفع بمرشح واحد لضمان عدم تشتت الأصوات.
يبدو أن أمر الليبيين ليس بأيديهم، فمستقبل ثورة 17 فبراير يُرسم الآن خارج حدود البلاد عبر وكلاء الداخل من أمثال خليفة حفتر وعقيلة صالح، ولن تخرج الملامح السياسية للنظام القادم عن إستراتيجيات قوى الثورة المضادة الهادفة لاحتواء شمال إفريقيا والمتمثلة بالأساس في دفن الديمقراطية وتسييد التبعية.