بالملابس الرياضية غير الرسمية، الشورت والتيشيرت، وضحكات تبدي النواجذ، ظهر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، متوسطًا، أمير قطر الشيخ تميم بن محمد، يمينًا، ومستشار الأمني الوطني الإماراتي طحنون بن زايد، يسارًا، على أحد شواطئ البحر الأحمر.
الصورة التي نشرها مدير المكتب الخاص لولي العهد السعودي بدر العساكر، على حسابه في “تويتر”، واصفًا اللقاء الذي جمع الثلاثة بـ”الودي والأخوي” أثارت الكثير من الجدل بشأن الانقلاب المفاجئ في مسار العلاقات بين الأطراف الثلاث التي شهدت تقلبات حادة خلال السنوات الأربعة الأخيرة.
القراءة الأولية لتفاصيل تلك الصورة التي ربما تصطدم بواقع مذرٍ، حيث آلاف الضحايا من شعوب الدول الثلاثة جراء القطيعة التي امتدت من يونيو/حزيران 2017 حتى يناير/كانون الثاني 2021، على المستويات كافة، لا سيما الإنساني، تشير إلى استكمال ما تم الاتفاق عليه في قمة العلا، من إعادة للمياه الخليجية لمجاريها من بعد سنوات من التعكير المتعمد.
وبعيدًا عن التفسير البروتوكولي المغلف بطلاء الدبلوماسية والبرغماتية معًا، فإن كواليس تلك اللقطة بكل ما تحمله من تفاصيل تفتح باب التكهنات عما تبعث به من رسائل، وما تكشفه بشأن مستقبل العلاقات بين تلك الدول في ظل الخلافات البينية الجوهرية حيال العديد من الملفات.. ليبقى السؤال: هل ما أحدثته سنوات القطيعة تلك من شروخ مجتمعية وإنسانية، دفع ثمنها الآلاف، يمكن أن تمحى بمثل تلك الصور الودية؟
لقاء ودي أخوي بالبحر الأحمر
يجمع سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ومستشار الأمن الوطني في دولة الإمارات الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان. pic.twitter.com/2nAUJ8HPM5
— بدر العساكر Bader Al Asaker (@Badermasaker) September 17, 2021
تفاعلات دبلوماسية
بعد فترة ركود دامت لسنوات، تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات سياسية واسعة ومتسارعة، وتفاعلات ربما سيكون لها تأثيرها المحوري في إعادة رسم العلاقات بين قوى الدول لأعوام عدة قادمة، هذا بخلاف قدرتها – حال استمرت بنفس الوتيرة – على ضبط إيقاع التحركات على الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها، وما لذلك من ارتدادات ربما تتجاوز الإطار الجغرافي الشرق أوسطي الضيق إلى ما هو أبعد من ذلك.
منذ طي صفحة الخلاف الخليجي في أعقاب قمة العلا، وهناك سيولة دبلوماسية غير مسبوقة، تتمدد بين مجاري المصالحة ودروبها، تتراوح سرعتها إزاء الاتجاهات المختلفة، أحيانًا تفتقد للبوصلة السياسية، بينما في كثير من الأحوال تتطابق والعديد من المؤشرات التي تقود في النهاية إلى قبول عقلي ومنطقي للتقارب بين الخصوم.
بعيدًا عن أجواء الاستقبال الحافل لأمير قطر خلال حضوره القمة الخليجية بالمملكة يناير/كانون الثاني الماضي، الذي قرأه البعض وقتها – لا سيما من بعض من يعكر مزاجهم إنهاء هذا الخلاف – في إطاره البروتوكولي التقليدي، الذي لا يحمل أي دلالات أعمق، فإن الزيارة التي قام بها لجدة في مايو/آيار الماضي، حملت نقلة كبيرة في مسار العلاقات الخليجية الخليجية.
الزيارة التي جاءت بناءً على دعوة من العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، وهدفت إلى مناقشة العلاقات الثنائية وغيرها من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بحسب وكالة الأنباء القطرية الرسمية، فتحت الباب على مصراعيه أمام حراك سياسي واقتصادي تعزز بحزمة من التفاهمات المشتركة.
ربما يكون التقارب السعودي القطري مستساغا سياسيًا في ضوء التغيرات التي شهدتها السياسة الخارجية للمملكة مؤخرًا، وحزمة التحديات التي تواجهها وكان لها تأثيرها في دفعها لإعادة النظر في كثير من مواقفها الدولية، القراءة ذاتها يمكن سحبها على الدوحة التي رغم نجاحها الدبلوماسي خلال سنوات الحصار، فإنها تأثرت على أكثر من مستوى، وهو ما كان يتطلب السير في المسار السعودي ذاته نحو تبريد الأجواء من أجل مواجهة التحديات الأكبر من الخلافات البينية.
تزامن ذلك مع مخططات إماراتية متواصلة للحيلولة دون التوصل لحل الأزمة (وفق تقارير وتسريبات عدة) مستغلة نفوذها السياسي والمالي، لإبقاء الوضع على ما هو عليه، وإذكاء الخصومة بين الأشقاء، بما يلبي طموحات أبناء زايد الإقليمية التي تتغذى في المقام الأول على تعميق الخلافات وعزل قطر تحديدًا، الكابوس الذي يهدد الأجندة الإماراتية في المنطقة.
قبول الإمارات – ومعها مصر والبحرين – بإنهاء الأزمة وفق معطيات العلا، جاء وفق تفاهمات مع السعودية (التي تواجه هي الأخرى ضغوطات خارجية لإنهاء هذا الملف) وإن كان ذلك لا ينكر بقاء حالة الخصومة مع قطر، إذ جاء الموقف “على مضض”، ورغم تهدئة الأجواء إعلاميًا بين العواصم الثلاثة، فإن هناك حالة تربص بين الحين والآخر، تعكس التوتر المكتوم رغم التصريحات واللقاءات السياسية المعلنة إعلاميًا.
تحركات إماراتية لكسر العزلة
وجدت القيادة الإماراتية نفسها في مأزق حقيقي، بعد فشل الاستقواء بالنفوذ المالي والسياسي في تلبية الطموحات إزاء بعض الملفات، إذ اتسعت الفجوة بين أبو ظبي وحلفائها في المنطقة جراء العبث بالعديد من القضايا التي تمس الأمن القومي لبعض القوى، لا سيما السعودية عبر بوابة اليمن ومصر عبر الخلفية الإثيوبية.
حتى الاستناد إلى تل أبيب كقوة داعمة لأبناء زايد في تحركاتهم الإقليمية، لم يجن ثماره في ظل التطورات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والمجتمع الدولي على حد سواء، إذ فشل الحليفان، الإماراتي والإسرائيلي، في تغيير قواعد اللعبة إقليميًا، الأمر الذي زاد من صعوبة مأزق الدولة الخليجية على أكثر من مستوى، الأمر كذلك مع الحليف الأمريكي بعد تغير إدارة دونالد ترامب.
وأمام تلك الوضعية الجديدة، تراجع الحضور الإماراتي شيئًا فشيئًا، لتتلقى الدولة – التي كانت قبل 4 أعوام على رأس قائمة اللاعبين المؤثرين في الملعب الشرق أوسطي -، ضربات موجعة على أكثر من مسار، ما أفقدها بريقها السياسي وسحب البساط من تحت أقدامها لصالح قوى أخرى.
وعلى الفور، وفي محاولة للحفاظ على موطئ قدم في الخريطة الإقليمية، بدأت أبو ظبي في تحركات دبلوماسية مكثفة، لكسر حالة العزلة التي تعاني منها خلال الفترة الأخيرة، وكان مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد، بطل تلك التحركات، فقد قام بزيارات مكوكية، خلال شهر أغسطس/آب الماضي، لعدد من العواصم الإقليمية التي كانت تشهد علاقاتها مع الدولة الخليجية خصومة سياسية فجة.
كانت العاصمة الأردنية، عَمان، نقطة البداية نحو الزخم الدبلوماسي الإماراتي، حيث توجه طحنون على رأس وفد رفيع المستوى لملاقاة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في مدينة العقبة، وتناول اللقاء العلاقات بين البلدين وسبل تطوير التعاون الاقتصادي والفرص الاستثمارية المتاحة، بجانب مناقشة بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك على المستوى السياسي.
ومن العقبة إلى العاصمة التركية أنقرة، حيث أجرى مستشار الأمن القومي الإماراتي مباحثات مكثفة مع الرئيس رجب طيب أردوغان، وهي الزيارة التي أثارت الكثير من التساؤلات حينها في ظل الخصومة السياسية الواضحة بين البلدين اللذين يقفان على طرفي نقيض في سياساتهما الخارجية.
المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات أنور قرقاش، علق على لقاء أردوغان طحنون بأنه “تاريخي وإيجابي”، مغردًا على حسابه على تويتر: “اجتماع تاريخي وإيجابي للشيخ طحنون بن زايد مع فخامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان”، فيما لفت الرئيس التركي إلى “عقد لقاءات أخرى مع القيادة الإماراتية، وعلى رأسها الشيخ محمد بن زايد، في الفترة المقبلة”.
واختتم ابن زايد جولته الدبلوماسية بالعاصمة القطرية الدوحة، حيث كان في استقباله أمير البلاد، الشيخ تميم بن حمد، وبحث الجانبان العلاقات الثنائية بين البلدين خاصة بالمجالات الاقتصادية والتجارية والمشاريع الاستثمارية، وسط احتفاء إعلامي كبير من الجانب الإماراتي بتلك الزيارة وما تحمله من دلالات تتعلق باللحمة الخليجية والترابط بين الأشقاء.
البرغماتية.. كلمة السر
لا شك أن البرغماتية التي قادت زعماء تلك الدول إلى الخلاف السياسي في 2017، إثر التنازع على النفوذ الإقليمي ومحاولة كل طرف في توسيع رقعة وجوده وتأثيره، هي ذاتها الدافع وراء إنهاء هذا الخلاف وطي صفحة التوتر والدخول في أفق جديد من التفاهم والتعاون، اليوم، وصولًا إلى تلك الصورة التي تتناقض شكلًا ومضمونًا وطبيعة العلاقات بين تلك الأطراف قبل عدة أشهر قليلة.
فالسعودية التي قادت تحالف المقاطعة لحصار دولة الجوار الشقيقة لأكثر من 3 سنوات ونصف، غير معنية بالتداعيات الإنسانية والاجتماعية لهذا التحرك الذي كان يستهدف تضييق الخناق على الملايين من القطريين والجنسيات المقيمة بداخل هذا البلد، كنوع من أنواع الضغط لإرضاخ النظام للقبول بإملاءات المملكة، هي من تقود اليوم سرب السلام حتى إن تسبب ذلك في شرخ في جدار علاقاتها مع حلفائها.
التطورات والمستجدات الأخيرة والضغوط الأمريكية والتحديات التي فرضتها التغيرات على الساحة الإقليمية والدولية، حملت جرس إنذار للرياض فيما يتعلق بخريطة توجهاتها وتحالفاتها، ما دفع المملكة للسعي من أجل تكوين جدار إقليمي قوي يعزز موقفها خلال أي مناطحات دبلوماسية أو سياسية مع طهران التي يتوسع نفوذها يومًا تلو الآخر، فكان التقارب مع الدوحة، الأمر ذاته مع أبو ظبي والقاهرة والمنامة، التي وجدت نفسها مجبرة للسير في هذا الاتجاه رغم الخلافات الأيديولوجية القائمة حتى بعد الوعود المتكررة بإزالة أسباب الخلاف.
وفي المقابل، لم تجد الدوحة التي تعرضت لواحد من أقسى أنواع الحصار في العصر الحديث، غضاضة، في فتح صفحة جديدة مع المحاصرين القدماء، في توجه برغماتي بحت، يستهدف استمرار النجاحات التي حققتها الدولة الخليجية في مسارها الدبلوماسي خلال السنوات الأخيرة، حيث باتت أحد أبرز اللاعبين المؤثرين على الساحة.
الشعوب.. الخاسر الأكبر
حين وقعت الأزمة الخليجية قبل 4 سنوات ونحو 3 أشهر، بسبب الصراعات السياسية بين أنظمة الحكم في الدول المتنازعة – كما تم ذكره -، شرعت الأبواب على مصراعيها على وقع أزمة إنسانية طاحنة، دفع ثمنها الكثير من شعوب تلك الدول، إما في صورة حرمان عائلي وإما اعتقالات وسجن وتنكيل وإما فقد الوظائف وتهديد المستقبل التعليمي والمهني لآخرين.
فمع الساعات الأولى لإعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر، اعتقلت الرياض وأبو ظبي العشرات من الرافضين لهذه الخطوة، سواء المؤيدين للدوحة أم المتعاطفين معها، حتى من تعامل مع الموقف بنزعة دينية بحتة، مستنكرًا الخلاف بين المسلمين وتشتيت كلمتهم، وفي القاهرة تحول “التخابر مع قطر” إلى تهمة محورية يؤخذ أصحابها بالأيادي والأقدام، ونُكل بسببها قيادات سياسية لها ثقلها.
وفي السعودية شنت السلطات هناك حملة اعتقال شعواء في سبتمبر/أيلول 2017 شملت كل من غرد أو كتب أو قال كلمة واحدة دعمًا للحلمة الخليجية وتعاطفًا مع الجارة الخليجية، فكان الزج بالداعية سلمان العودة والدكتور علي العمري وعوض القرني وزايد البناوي والدكتور إبراهيم الحارثي والدكتور عبد العزيز الزهراني وخالد العلكمي ويوسف الملحم وسامي الثبيتي البناخي وربيع حافظ وجميل فارسي وآخرين كثر، كانت تهمتهم “الدعوة لإصلاح البين مع قطر”.
وفي الناحية الأخرى، حُرم العشرات من العائلات القطرية من التواصل مع ذويهم وأقاربهم في المملكة والإمارات، فقطعت الأرحام وتفرقت السبل بين أبناء الأسرة الواحدة، وأضعافهم فقدوا دراستهم ووظائفهم، وكانت لجنة حقوق الإنسان القطرية قد أعلنت في يونيو/حزيران 2019، تلقيها 4275 شكوى بسبب تداعيات الأزمة الخليجية، فيما عاش كل من يقيم في قطر، مواطنين وأجانب، أجواء من الرعب والخوف على الحياة بعدما نفدت السلع والبضائع من المتاجر جراء سياسة الحصار المفروضة على البلاد جوًا وبرًا وبحرًا.
هل تُنهي الصور الودية الأزمة؟
في السياسة ليس هناك ثابت، كما أنه ليس هناك أخلاقيات، فالبرغماتية هي من تحدد قبلة الأنظمة والحكام، والشعارات التي تغازل المبادئ والقيم التي يرفعها بعض الزعماء لا تعدوا كونها قراءةً جيدةً لمدخلات الشعوب والعزف على وترها الشعبوي، خاصة لدى شعوب المنطقة الأميل للخطاب العاطفي أكثر من العقلاني.
ومن ثم فإن اجتماع الخصوم في صورة واحدة ليس بالأمر الجديد ولا المستغرب في التاريخ السياسي للدول، كما أن التقاط العدسات للضحكات الناجذة والابتسامات العريضة لا تعني بأي حال من الأحوال أن كل الخلافات تلاشت أو أن الأمور على ما يرام سياسيًا بين الدول.
وفي الحالة التي نحن بصددها الآن، فإن الخلافات السياسية بين أطراف الأزمة الخليجية من الصعب أن تُمحى بتبادل الزيارات أو التصريحات الدبلوماسية المتطايرة من الرياض للدوحة وصولًا إلى أبو ظبي ومنها إلى القاهرة لتعود في مسارها مرة أخرى، كما أن الضحكات التي حرص مسؤولو الدول الثلاثة على تصديرها من خلال صورة البحر الأحمر الأخيرة لا يمكنها رأب الصدع المجتمعي الناجم عن الأزمة التي فجرها صراع حكام تلك الدول على كعكة النفوذ الإقليمي.
التحول السريع من الخصومة للتوافق، دون وجود مؤشرات على أرض الواقع لتبرير هذا التحول، رغم أنه يأتي في إطار التغازلات الدبلوماسية المفروضة على الجميع، في إطار استكمال ما تم الاتفاق عليه في العلا، أثار الكثير من الجدل لدى رجل الشارع العادي، الذي بدأ يشعر بحالة من الاحتقان إزاء التلاعب به في معركة نخبوية من الطراز الأول.
وبصرف النظر عما تحمله تلك الصورة من دلالات، فإنها في الحقيقة تعكس حقيقةً ثابتةً، مؤداها أن الشعوب وحدها تدفع ثمن صراع النخبة والحكام، لتتحول الأزمة الخليجية، اشتعالًا وتبريدًا، مقاطعة وما تلاها من مصالحة، إلى ساحة كبيرة يتقاذف فيها الساسة كراتهم النارية التي لا تحرق إلا الشعوب التي اعتادت أن تكون “مفعولًا به” وليس “مفعولًا لأجله” في جملة السياسة التي لا محل لها من الإعراب.