في الأعوام العشر الأخيرة، بات هناك باب صحافي استقصائي – مجازًا – في التغطيات الصحافية المتعلقة بتناول أخبار الشرق الأوسط عن الأدوار غير القانونية لدولة الإمارات العربية المتحدة ووكلائها في الخارج.
بشكل أو بآخر، يمكن القول إن كل دول العالم، بما في ذلك دول المنطقة، لها مصالح خارجية، ترتبط بجمع المعلومات أو تسهيل الحصول على صفقات وتعاقدات استثمارية أو دعم حلفاء سياسيين، وتستخدم أدواتها المختلفة من أجل تمرير هذه المصالح.
ولعل هذا الأمر، أصلًا، أحد الأغراض التي قامت من خلالها فكرة “السفارات الخارجية” لكل دولة مع الدول الأخرى التي تجمعها بها علاقات دبلوماسية، فالأمر لا يقتصر على رعاية رعايا تلك الدولة صاحبة السفارة أو توطيد العلاقات بين الطرفين، وإنما يكون هناك منسقون أمنيون مدربون استخباريًا من أجل تيسير مصالح بلادهم في الخارج بتلك المقرات الدبلوماسية.
ومع الإقرار بأن ذلك من صميم عمل السياسة أصلًا، لكن الملاحظ في التحقيقات الاستقصائية الأخيرة التي تتعلق بأمور المنطقة والقضايا القانونية المتتابعة، أن دولة الإمارات تحديدًا، يغلب على أنشطتها الطابع غير القانوني، بالمقارنة بباقي الدول، وبالنظر إلى ما تسمح به قوانين تلك الدول.
تتعامل الإمارات، كما يبدو، كأنها دولة كبرى تقارع الدول الكبرى في المصالح، وفي نفس الوقت، فإنها تتحرك بمنطق الجماعات الدولية الخارجة عن القانون من خلال ضمان منافذ لها في مناطق الظل من إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، محتميةً رغم كل ذلك، بصورتها الذهنية كدولة راعية للسلام الدولي ومكافحة للإرهاب السني والشيعي على حدٍ سواء.
منذ نهاية يوليو/تموز الماضي، أي خلال شهرين فقط، ذكر اسم الإمارات في 3 قضايا كبرى تخص أنشطة مخالفة للقانون الدولي، تتعلق قضيتان منهم بانتهاك القوانين الأمريكية بالمال والعلاقات العامة بشكل غير مألوف، وترتبط الثالثة بانتهاك حقوق الإنسان رقميًا على مستوى عابر للحدود.
3 ضباط أمريكيون
القضية الجديدة، التي كشفتها سلطات التحقيق الأمريكية، قبل 72 ساعة من الآن، تتعلق هذه المرة بمجال الأمن الرقمي الدولي، وكالعادة، فإن الإمارات متورطة في استخدام أدوات برمجية من أجل اختراق وتتبع خصوم لها على مستوى العالم، لا على مستوى الإقليم فقط، وهو ما يعكس لنا حجم الطموح الإماراتي.
يحدث التحول منذ عام 2016، حينما تقرر دولة الإمارات أن تشتري ولاء 3 ضباط أمريكيين في هذه الشركة
تبدأ القضية التي باشرتها وزارة العدل الأمريكية وعدد من الجهات التقنية المعاونة بوجود علاقة قانونية بين شركة برمجيات أمريكية تابعة للحكومة تتعاون مع جهات إماراتية معلوماتيًا بشكل خاضع للأعراف ومراقبة السلطات المختلفة في الولايات المتحدة.
لكن يحدث التحول منذ عام 2016، حينما تقرر دولة الإمارات أن تشتري ولاء 3 ضباط أمريكيين في هذه الشركة، من خلال منحهم عقود توظيف برواتب خيالية في مناصب رفيعة بتلك الشركة التابعة للدولة الإماراتية.
المفترض أن القوانين الدولية، التي تراعي مصالح الولايات المتحدة بطبيعة الحال على أساس أنها القوة المهيمنة في العالم، لا تبيح أن تمارس أي شركة تعمل في هذا الحقل أنشطة تمس أو تضر بالمصالح الأمريكية، بما في ذلك استهداف أشخاص في أمريكا أو هيئات أمريكية.
ما فوجئت به جهات التحقيق الأمريكية، أنه على مدار 3 أعوام منذ عام 2016، سهل الضباط الأمريكيون العاملون في الشركة الإماراتية تطوير عدة أجزاء من برمجية تسمى “كارما”، استخدمها المسؤولون الإماراتيون لتعقب غير قانوني لمصالح رقمية متشعبة على مستوى العالم، بما في ذلك مصالح أمريكية مباشرة.
الخبر الذي سلطت عليه وكالات الأنباء الضوء خلال الساعات الأخيرة، لم يكن مباشرة السلطات الأمريكية التحقيق في هذه القضية، وإنما صدور حكم إدانة بالفعل، يقضي بدفع مارك باير وريان آدامز ودانييل غيريك، الثلاثي المتهم، مبلغًا ضخمًا يصل إلى 1.7 مليون دولار لتسوية القضية.
كما تعهد الثلاثي المتهم بالقرصنة والاختراق وانتهاك القيود القانونية، إلى جانب سداد هذا المبلغ، بوقف التعامل مع الأجهزة الأمنية الإماراتية، وعدم طلب أي تراخيص أمنية رقمية جديدة من السلطات الأمريكية التي توعدت على لسان المدعي العام مارك ليسكو بمواصلة كشف وحساب هذا النوع من المجرمين.
توماس باراك
تذكرنا هذه القضية الجديدة بقضيةٍ مشابهة أثارت جدلًا واسعًا نهاية يوليو/تموز الماضي، عندما طلبت جهات التحقيق الأمريكية استدعاء عددٍ من كبار الشخصيات المرتبطة باسم الرئيس السابق دونالد ترامب، للنظر في اتهامات تتعلق بعمل هذه الشخصيات لصالح الأهداف الإماراتية في البلاد.
وجه الشبه بين هذه القضية الجديدة وتلك القضية المشار إليها لا يتعلق فقط باتهامات تتعلق بعمل عناصر في الولايات المتحدة لصالح الأهداف الإماراتية، وإنما في العدد، إذ اتهم 3 أشخاص في هذه القضية أيضًا، وفي نمط التقاضي، حيث تقف المؤسسات البيروقراطية الأمريكية في وجه المال الإماراتي.
المتهم الأبرز في تلك القضية كان توماس باراك، ملياردير سبعيني من أصول عربية، يعمل في مجال العقارات بشكل رئيس، وكان صديقًا مقربًا لكل من الرئيس الأمريكي السابق ترامب وولي عهد دولة الإمارات حاكم أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد.
تركز استخدام السلطات الإماراتية لهذه البرمجية على أمرٍ غريب بعض الشيء
الاتهامات التي وجهت لباراك الذي كان مستشارًا لحملة ترامب ورئيسًا للجنة تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة، وشابٍ آخر يدعى ماثيو غرايمز، إضافة إلى رجل أعمال إماراتي بارز يدعى سلطان الشحي، كانت تتعلق بضغط الثلاثي واستخدام نفوذهم على ترامب، من أجل خدمة مصالح الإمارات، مدفوعين في ذلك بالأموال التي حصلوا عليها من أبو ظبي بشكل غير قانوني.
كما شملت الاتهامات في متن تفاصيل التحقيقات ضلوع المتهمين في صياغة خطابات رئاسية عامة وفقًا لمضامين تخدم مصالح الإمارات في ملفات الطاقة، بالإضافة إلى نقل معلومات رفيعة إلى الإماراتيين تخص انطباعات دوائر الحكم عن قضايا إقليمية مثل حصار قطر، وقد فر الشحي من الولايات المتحدة على خلفية تلك الاتهامات، وفرضت السلطات الأمريكية قيودًا مشددةً منعًا لهروب باراك بنفس الطريقة لحين انتهاء التحقيقات.
بيغاسوس
القضية الثالثة، التي تقاطعت زمنيًا للمصادفة، مع قضية توماس باراك، وتشبه، في نفس الوقت، نمط القضية الأولى الأحدث التي تتعلق بتوظيف ضباط أمريكيين لأغراض تجسس برمجية غير قانونية، هي الدور الإماراتي في استخدام البرمجية الإسرائيلية “بيغاسوس”.
تتعلق تلك القضية التي أثيرت نهاية يوليو/تموز الماضي أيضًا، باختصار شديد، بإقدام شركة NSO الأمنية الإسرائيلية المقربة من جيش الاحتلال على بيع برمجية شديدة التطور تدعى “بيغاسوس” لدول تمتلك سجلًا حقوقيًا سيئًا، بما في ذلك دولة الإمارات العربية.
وقد كشف الفصل الأخير من تفاصيل تورط الشركة الإسرائيلية في بيع تلك البرمجية لكل من يدفع، بغض النظر عن سجله الحقوقي أو طريقة الاستخدام، تحالف استقصائي ثنائي بين منظمة “فوربايدن ستوريز” (قصص مخفية) ومقرها فرنسا ومعمل الأمن المعلوماتي لمنظمة العفو الدولية، اللذين مررا نتائج التحقيق لكبرى الوكالات العالمية.
إلى جانب التجسس على نشطاء حقوقيين ودول أخرى، فقد تركز استخدام السلطات الإماراتية لهذه البرمجية على أمرٍ غريب بعض الشيء، وهو تتبع أرقام هواتف كل من السيدة لطيفة بنت محمد بن راشد، حاكم دبي ورئيس الوزراء، والسيدة هيا بنت الحسين زوجته السابقة.
مهمة الإمارات لتسويق سياساتها في واشنطن قد تكون أصعب في عهد بايدن، بالنظر إلى عدة معطيات
في الأعوام الأخيرة، ارتبط هذان الاسمان اللذان أخضعتهما السلطات الإماراتية للمراقبة باستخدام البرمجية “بيغاسوس” بفرارهما المتكرر من سياط رجل الأمن السابق ورجل الدولة الحاليّ الشيخ محمد بن راشد، ومقاضاة الشيخة هيا لابن راشد في المحاكم البريطانية بعد فرارها منه بصحبة طفليها عام 2019، وهو ما مثل صدمةً للرأي العام الدولي، بالنظر إلى الادعاءات الإماراتية البراقة عن رقي نظرة حكام الدولة للمرأة والعمل على تحسين وضعها.
دلالة تلك الأخبار
يسلط جيمس دورسي أستاذ السياسات الدولية في إحدى أبرز الجامعات التقنية بسنغافورة الضوء على تلك الأخبار، من زاوية تأثيرها المحتمل على العلاقات الأمريكية الإماراتية ونظرة صناع القرار في الولايات المتحدة إلى هذا الدور الإماراتي المتنامي في البلاد.
فرغم الثقل الذي تلعبه أبو ظبي لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة، عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا، والمحاولات الأخيرة للتقارب من واشنطن من بوابة التطبيع مع “إسرائيل”، فإن بايدن، وفقًا لدورسي، يبدو أنه أقل حماسًا على الأقل في هذا الوقت للتقارب مع الإمارات.
يمكن قراءة ذلك من خلال عدة شواهد، من بينها خفوت نشوة التطبيع الخليجي الإسرائيلي في ظل إدارة بايدن على عكس ما حدث نهاية عهد ترامب، وإصرار إدارة بايدن على مراجعة بنود صفقة تصدير المقاتلات الأمريكية من طراز F- 35 إلى الإمارات.
ويعتقد دورسي، أن مهمة الإمارات لتسويق سياساتها في واشنطن قد تكون أصعب في عهد بايدن، بالنظر إلى عدة معطيات، على رأسها إباحة إدارته تناول القضايا التي تنظر تنامي تفوذ المال الإماراتي المشبوه في البلاد للرأي العام، وعدم نجاح الإمارات أصلًا في عدة ملفات في ظل ولاية حليفها ترامب، كإدراج جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في الولايات المتحدة.. فكيف سيكون الأمر في عهد بايدن؟!