لم يكن يتخيل “سعد”، ذلك الشاب الثلاثيني المصري الذي يعمل في ليبيا منذ أكثر من 5 سنوات، أن بقاءه في مدينة مصراتة، سيتحول إلى كابوس يؤرق مضاجعه صباحًا ومساءً، فالموت أقرب إليه من حبل وريده، ورائحة الدماء التي تفوح من بين ثنايا المكان الذي يقيم فيه تزكم الأنوف.
تهديد مستمر من ميليشيات مسلحة، تعريض الحياة للخطر بصورة شبه يومية، ابتزاز اعتاده، أكل للحقوق أحيانًا، فقدان الاتصال بالأهل لأيام طويلة، كل ذلك نظير حفنة من الدولارت يحصل عليها شهريًا نظير عمل شاق في مجال العقارات، ومع ذلك يرفض العودة لبلاده مرة أخرى، مبررًا ذلك بقوله: “شبح الموت هنا ولا جحيم البطالة في بلادي”.
ملف العمالة المصرية في ليبيا أحد أكثر الملفات جدلًا على مائدة مراكز الأبحاث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية، فالأحوال المعيشية المتردية واتساع رقعة البطالة، الرسمية والمقنعة، مع فقدان أرضية معلوماتية دقيقة عن عدد العاملين المصريين في ليبيا حاليًّا، كل ذلك يضع حياة العمال هناك في خطر، خاصة مع انقطاع التواصل مع المسؤولين أو الأهل لفترات ربما تمتد لشهور طويلة.
أمس السبت، 18 من سبتمبر/أيلول، أعلن وزير العمل الليبي علي العابد، بداية دخول مليون عامل مصري إلى الأراضي الليبية، مطلع أكتوبر/تشرين الأول المقبل، قائلًا في تصريحاته لـ”الأناضول“: “وقعنا مع مصر عقودًا بقيمة 19 مليار دينار ليبي (4.24 مليار دولار)”، دون أن يقدم تفاصيل بشأن هذه المشروعات، مبينًا أن هذا “يأتي في إطار التعاون مع الشركات المصرية لتنفيذ خطة مشاريع التنمية والبنية التحتية”.
وكان وزير القوى العاملة المصري محمد سعفان، قد توقع في تصريحات سابقة له، مشاركة 3 ملايين عامل من بلده في إعادة إعمار ليبيا، منوهًا أن الاضطرابات التي شهدتها الجارة العربية تسببت في عودة ملايين العمال المصريين، مشددًا في الوقت ذاته على عدم السماح بخروج أي عامل لأي دولة دون ضمانات.
تراجع في الأرقام ولكن
الأرقام الرسمية التي تعلنها الدولة المصرية تشير إلى تراجع كبير في عدد المصريين العاملين في ليبيا خلال السنوات العشرة الأخيرة، إذ كانت الأعداد تتجاوز حاجز المليوني عامل قبل اندلاع الثورة الليبية في فبراير/شباط 2011، وذلك بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
لكن الأوضاع الأمنية والسياسية التي شهدتها السنوات الماضية حولت ليبيا من واحدة من أكثر وجهات العمالة المصرية المهاجرة إلى دولة طاردة، غير أن ذلك لم يمنع وجود عدد كبير من المصريين هناك، ورغم عدم وجود إحصاء رسمي بشأنهم لكن هناك أرقام تتحدث عن أن العدد الموجود هناك حاليًّا يتجاوز 800 ألف مصري.
صعوبة حصر عدد العمالة المصرية في ليبيا يأتي من ندرة الإحصاءات الرسمية، بخلاف السفر عن طريق الحدود بشكل غير شرعي، وهو ما كشفه رئيس شعبة إلحاق العمالة بغرفة القاهرة السابق، حمدي إمام، حين أشار إلى أن 90% من العمالة المصرية التي كانت موجودة في ليبيا غير شرعية، والـ10% تأتي عبر الحكومة ممثلة في وزارة القوى العاملة.
وتعرضت العمالة المصرية في الأراضي الليبية، خلال السنوات الماضية، لعدد من حوادث الاختطاف والتعذيب والقتل، لعل أبرزها وحشية حادث ذبح 21 مصريًا – من الأقباط – على يد جماعات متطرفة، في فبراير/شباط 2015، وهو الحادث الذي هز الشارع المصري عن بكرة أبيه، وأعاد طرح هذا الملف للأضواء بعد سنوات من التجاهل.
جحيم الغربة ولا جنة البطالة
إصرار العديد من العمالة المصرية على البقاء هناك رغم المخاطر والتهديدات التي ربما تكلفهم حياتهم كانت مثار تساؤلات عدة لدى المهتمين بعلوم النفس الاجتماعي والاجتماع السياسي لما ينطوي عليه من دلالات خطيرة ومؤشرات تعكس واقعًا مأزومًا يجب تسليط الضوء عليه اليوم قبل الغد.
“800 دولار شهريًا في المتوسط راتب من الصعب أن أحصله في مصر، هذا بخلاف الأسعار المرتفعة هناك التي تأكل الراتب بعد أيام قليلة من الحصول عليه”، هكذا رد محمود على سؤال عن أسباب عدم عودته لمصر رغم ما قصه سابقًا بشأن المخاطر الأمنية التي يتعرض لها، التي كادت تكلفه حياته يومًا ما حين انقض عليه بعض المسلحين وسلبوه ما كان بحوزته.
الوضعية الصعبة للعمالة المصرية في ليبيا وتزايد وتيرة الجرائم التي تستهدفهم، بصرف النظر عن دوافعها، في ظل الإصرار على عدم العودة رغم المناشدات الرسمية، كل هذا دفع الحكومة المصرية لإعادة النظر في موقع هذا الملف على قائمة أولوياتها
محمود، الشاب الحاصل على مؤهل علمي متوسط، ويعمل في أحد المحال الكبرى في طرابلس، يشير في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن الوضع رغم صعوبته في ليبيا لكنه أفضل نسبيًا من مصر، على حد قوله، زاعمًا أن التهديدات التي يواجهها هنا لا تعدو تهديدات أمنية يمكن التعامل معها بالابتعاد قليلًا عن بؤر الأحداث الساخنة، أما في مصر فالتحديات الاقتصادية والاجتماعية لا حصر لها.
وأوضح أنه لم يتزوج حتى الآن، رغم بلوغه الثالثة والثلاثين من عمره، منوهًا أنه ينوي البقاء في طرابلس لعامين قادمين حتى يكمل نفقات الزواج، مؤكدًا أنه لو كان في مصر لما استطاع شراء منزل أو شراء مستلزمات الزفاف، وردًا على احتمالية تعرض حياته للخطر حال بقائه في ليبيا قال: “الأعمار بيد الله”.
آخرون أشاروا إلى رفضهم مناشدات الحكومة المصرية وممثليها في الأراضي الليبية بالعودة إلى أرض الوطن، لافتين إلى أنه لم تكن هناك وعود كافية للتعويض حال العودة، كما أن مسألة إيجاد فرصة عمل في ظل الظروف الراهنة أمر غاية في الصعوبة، خاصة أن كثيرًا من العاملين بالخارج مرتبطون بالتزامات لا تحتمل أي مخاطر وظيفية من أي نوع.
وكان الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء، قد كشف عن زيادة معدلات البطالة للربع الأول (يناير – مارس) لعام 2021، لتصل إلى 7.4% من إجمالي قوة العمل مقابل 7.2% في الربع الرابع من عام 2020 بارتفاع قدره 0.2%، فيما سجلت تقديرات حجم قوة العمل نحو 29.284 مليون فرد خلال الربع الأول من العام الحاليّ، مقابل 29.965 مليون فرد خلال الربع السابق بنسبة انخفاض مقدارها 2.3%.
معروف أن الأرقام الفعلية للبطالة في مصر تفوق بمراحل تلك الأرقام المعلنة رسميًا التي تتعامل مع العمالة الموثقة ذات الأوراق الثبوتية التي بحوزة الحكومة، غير أن العدد الفعلي لا علاقة له بالرقم الرسمي، ويكفي الإشارة إلى أن هناك أكثر من 12 مليون عامل موسمي (دون وظيفة محددة أو ما يطلق عليهم العمالة اليومية)، هذا بخلاف الملايين من العمالة المقنعة التي تعتبرها الدولة خارج نطاق البطالة، رغم تأثرها الشديد بالمستجدات والمتغيرات والطوارئ التي تشهدها البلاد، وهم الأكثر تأثرًا خلال العامين الماضيين منذ تفشي جائحة كورونا.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
الوضعية الصعبة للعمالة المصرية في ليبيا وتزايد وتيرة الجرائم التي تستهدفهم، بصرف النظر عن دوافعها، في ظل الإصرار على عدم العودة رغم المناشدات الرسمية، كل هذا دفع الحكومة المصرية لإعادة النظر في موقع هذا الملف على قائمة أولوياتها، لتسلط الضوء عليه مجددًا في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والحفاظ على صورة مصر الخارجية.
كثيرًا ما كانت الشكاوى القادمة من العمال المصريين في بعض الدول لا سيما الخليج تتعلق بتقاعس السلطات المصرية عن نصرتهم والحصول على حقوقهم أمام أرباب العمال “الكفيل”، ما كان يجعلهم عرضة للانتهاكات دون ظهير سياسي رسمي يحفظ لهم حقوقهم، أسوة ببقية الدول الأقل مكانةً وتاريخًا وثقلًا.
بلغت أرقام التحويلات المالية من العاملين المصريين بالخارج (يقدر عددهم رسميًا بنحو 9.5 مليون مواطن بينما هناك مصادر أخرى تشير إلى أن العدد يصل لنحو 13 مليونًا) إلى بلدهم 27.1 مليار دولار
لذا تسعى الحكومة عبر الملف الليبي لتحسين الصورة نسبيًا، وذلك من خلال وضع ضمانات من شأنها الحفاظ على حقوق المصريين العاملين هناك، وهو ما كشفه مصدر مسؤول بوزارة القوى العاملة المصرية، يونيو/حزيران الماضي، حين أشار إلى هناك عدد من النقاط يجري التباحث بشأنها مع الجانب الليبي بخصوص مشاركة العمالة المصرية في إعادة إعمار ليبيا.
وتتمحور تلك النقاط حول ضمانات حصول الشركات المشاركة في المشروعات الليبية والعمالة المصرية على مستحقاتها وكذلك آليات الحماية والتأمين ضد المخاطر وضمان الحصول على المستحقات المالية وإمكانية التحويل والاستثمار الأمن دون مخاطر، بحسب المصدر الذي أشار إلى أن هناك رغبة من البلدين لتوفيق أوضاع العمال المصريين بما يحفظ حقوقهم، وأن هناك آليات محددة لاستقدام الشركات والعمالة المصرية للأراضي الليبية تحت إشرف الأجهزة الرسمية في البلدين.
حرص الحكومة المصرية على تقنين أوضاع العمالة في ليبيا وتحسين أوضاعها، يصب في النهاية – بجانب الحفاظ على حقوق أبنائها – إلى دعم الاقتصاد الوطني، فقد بلغت أرقام التحويلات المالية من العاملين المصريين بالخارج (يقدر عددهم رسميًا بنحو 9.5 مليون مواطن بينما هناك مصادر أخرى تشير إلى أن العدد يصل لنحو 13 مليونًا) إلى بلدهم 27.1 مليار دولار، خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بزيادة 11.9% على أساس سنوي، وهي أحد المصادر المحورية للعملة الأجنبية في مصر.