منذ أن تفتحت عيناي على دنيا الحي الذى ولدت فيه وأنا أراه أمامي ينغص حياتي ويمغص بطني ويتحرش بأنفي ويعبث بأحلامي ويكبت أمالي، أصدقاؤه الكلاب، وسكانه من الذباب، كيف له أن يعيش بيننا هكذا وكأنه واحد من جيلنا رابض على قلوبنا وعقولنا وأحلامنا؟
لا شيء في العقول والأفكار غير التخلص منه!
لماذا يشتم غيرنا رائحة الأزهار والورود صباحًا، ويتنعمون بجميل خضرة الأشجار ونضرة أوراقها في عزف موسيقى من شرفة تطل على حديقة خاصة أو عامة، ولانشتم إلا روائحه، ونرى تحرشه بنا وتعديه على حقوقنا وحياتنا، ولا ننعم بجواره بكوب من الشاى إلا وتسقط فيها زبائننا الدائمة المقيمة بالجوار والتي نراها بيننا وبينه وكأنه يريد أن يشاركنا عتبة دارنا حتى غرف نومنا؟
إنه مقلب “القمامة” الرابض في التاريخ بكل مايحتويه التاريخ من آلام وأوجاع وأمراض.
هذا “المقلب” كان – ولازال – مثالاً على إهمال الدولة العميقة لمواطنيها، وقوة بطشها وجبروتها، كما أنه مثالاً على فشل الإخوان فى إدارة ملفات مهمة وقريبة من المواطن البسيط، وعدم قدرتهم على اختراق دولاب الدولة العميقة، وسوء التعامل والتفاعل مع مايمس حياة الناس.
بدأت الحكاية عندما أراد الإخوان التخلص من “مقلب القمامة” وحل مشكلته التى تنغص حياة المواطنين، فقاموا بحفر بئر بجوار المقلب يخزن فيه الماء المستخدم بالبيوت، ثم تأتى عربة الكسح لتأخذه يوميًا، ثم بدأوا بجمع التبرعات من أهالى المنطقة – دون تكلفة السلطة التنفيذية “رئاسة مجلس المدينة أو رئاسة الحى” بشيء – وقاموا بحفر البئر، وبدأت المعاناة تزداد والأوجاع تكثر، حيث تأخرت عربات الكسح عن مواعيدها فامتلأ البئر بالماء والقاذورات والحشرات وطفى الماء من البئر حتى غطى الشارع وأغلق الطريق ثم ردم البئر.
جاء الانقلاب الدموى وجاء معه القهر والظلم، فجاءت الشرطة وأخذت المكان، وجعلته تابعا لقسم الشرطة، ونظفته وزرعت أشجارًا وسورت المكان ووضعت فيه سياراتها، ووضعت عسكري حراسة أمامه يوميًا، حتى أنك لا تجد ورقة ترمى في المكان، فأصبح المكان جميلاً نظيفًا وتخلص الناس من رفيق أجيالهم رغم أنها لم تحل مشكلة القمامة، ولم تجد للناس بديلاً، إلا أن الناس فرحوا وحمدوا لهم هذا الأمر.
هذا المثال وغيره الكثير يثبت مدى فشل التغيير الديكوري الشكلي والذي يتميز ببعض التحسينات والإصلاحات من خلال عمليات تجميلية لأوضاع مشوهة ومزمنة ومتجذرة في المجتمع، وهكذا حال الإخوان في معالجة كثير من قضايا الناس ومشاكلهم حتى أفكارهم ووسائلهم تعتمد على التحسين والإصلاح لأوضاع شديدة التشوه.
قد تمتلك حلولاً جذرية لمشاكل كبيرة وقد لا تمتلك لكن الأفضل أن تمتلك القوة لتطبيق قانونك وحلولك!
والملاحظ في تعامل الإخوان وتعامل الدولة العميقة مع حل مشكلة بسيطة كمشكلة “مقلب القمامة”، أن التعامل في الحالتين خطأ تمامًا، حيث اتسم الحل الأول بالشكلي دون المساس بجذور المشكلة، والحل الثاني بالقوة والجبر دون المساس بالمشكلة أصلاً، فأحدهما اتخذ الإسلوب السلبي في حل المشكلة بالهروب من المشكلة أصلاً، وثانيهما اتبع أسلوب التجربة والخطأ، ولكن لا أحد منهما اتبع أسلوب التجزئة في حل المشكلة.
وفي نظر الناس – بعيدًا عن المشكلة – نجحت الدولة العميقة بقوتها وبطشها وفشل الإخوان لأن الإخوان – كما أظن -اهتموا بالدعوة ولم يهتموا بالدولة، ولم يخططوا لها، ولم يتهيأوا ويستعدوا لها، قبل أن تأتي بهم الرياح لسدة الحكم، ويتصدروا المشهد فرادى، فتحملوا تبعاتها وأثقالها وواجهوا الناس، وحملوا أوزار أنظمة فاسدة سابقة، فلم يكن للإخوان قوة اجتماعية تحميهم ولا قوة اقتصادية تسندهم ولا قوة أمنية تحقق أحلامهم وآمالهم ولم يتعلموا من درس التاريخ جيدًا والثورة الإيرانية خير شاهد على درس التاريخ؛ مما جعلهم يرتكبون أخطاءً جعلتهم فى موقف حرج وحيدون لا ظهر يحميهم ولا داعم لهم يأويهم، فلقد كان “محمد مرسي” رئيسًا لنظام جسده وأذرعه دولة عميقة، فكيف يتكأ على عود ينخر فيه سوس الفساد والظلم لسنوات عجاف، ولهذا كان يستعيذ خليفة خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من جلد الفاجر وعجز المؤمن.
عجز المؤمن الذي اعتمد في مواجهة الدولة العميقة بما أسميه أنا “الزرع الصوباتىي ” – زرع محاصيل زراعية في غير مكانها ولا زمانها”- حيث قام بزرع شخصيات تابعة له غير مؤهلة وغير معدة في أماكن مهمة في الدولة العميقة، والتي كانت بجميع مؤسساتها وأذرعها ترفض حكم الإخوان فلا وزارة الدفاع ولا مخابرات ولا وزارة الداخلية ولا المجلس الأعلى للقضاء يريدون الإخوان فكيف آمن الإخوان لكل هذا؟!
أما الإخوان الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، فلا شك أنهم استجلبوا معهم إلى دوائر السلطة إرثهم الفكري والثقافي والحزبي بكل ما في ذلك من إيجابيات وسلبيات، وبكل ما في ذلك من نجاحات وإخفاقات، بل وبكل ما في ذلك من تراكمات السنين التي عانوا فيها من القمع والتنكيل.
ومصطلح الدولة العميقة أو الدولة الموازية، نشأ قبل عقود عدة في الأدب السياسي التركي ليشير إلى الدولة ذات الثقافة العلمانية التي أنشأها كمال أتاتورك منذ 1926، بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وانفراط عقد الامبراطورية، فكان الفكر العلماني بدستوره وثقافته والجيش الحارس لهذه العقيدة المناهضة للدين هو البديل كما يقول د/ عبدالله الأشعل، ويقول الأستاذ/ فهمى هويدي، فالمتواتر في أوساط الباحثين أن المخابرات المركزية الأمريكية هي من غرس بذرة الدولة العميقة في تركيا عام 1952، واستهدفت من ذلك ضمان التحكم في قرارات قيادات الجيش وصناع القرار وغيرهم من السياسيين الكبار في مختلف مواقع وأجهزة السلطة، وبمضي الوقت استشرت الدولة العميقة وتطورت، حتى أصبحت كيانًا موازيًا للدولة الرسمية، وقادرًا على الضغط على الدولة الأخيرة وابتزازه، ويطلقون عليها في تركيا اسم “أرجنكون”، وللكلمة رنينها الخاص في الذاكرة الشعبية، إذ تقول الأسطورة إن الصينيين حين هاجموا القبائل التركية أثناء وجودها في وسط أسيا، موطنها الأصلي، فإنهم هزموهم وطاردوهم، بحيث لم يبق من الجنس التركي سوى قلة من الناس احتموا بواد عميق باسم أرجنكون، فتحصنوا فيه وظلوا مختفين بين جنباته سنين عددا.
وهذا ينطبق على مصر أيضًا، فلعلك تسأل نفسك والواقع يجيبك بمرارة فمن رتب موقعة الجمل، وفتح السجون، وهاجم أقسام الشرطة، وأطلق الرصاص على المتظاهرين، وأثار الإضرابات والاعتصامات، وأجج الفتنة الطائفية، ورتب خطف السيارات واقتحام البنوك، وحرض على حصار مجلس الوزراء، واقتحام وزارة الداخلية وتهديد وزارة الدفاع، كما أقدم على إحراق المجمع العلمي واقتحام المتحف المصري ودبر مذبحة إستاد بورسعيد، وسوف تستوقفك في السياق حكايات المرشحين للرئاسة الذين اُستبعدوا فجأة والذين أُعيدوا فجأة، كما لابد أن تثير انتباهك تلك الحملة الشرسة التي تستهدف تخويف المجتمع بكل فئاته من الإسلاميين، وترويعهم من مغبَّة اقترابهم من مواقع السلطة.