كيف يوقن المرء معرفة الشيء إذا لم يكن جزءًا منه؟ قدرة المكان على اشتمال المجتمعات هي قدرة مذهلة، خصوصًا المجتمعات المحلية الضئيلة، ذات الدوائر الصغيرة، التي ربما -كما في حالة العمل الفني الذي نناقشه اليوم- لم تصل له أذرع العولمة، ولم تعِد تشكيلها تكنولوجيا الحداثة أو تخنقها أفكار ما بعد حداثية. والجدير بالذكر أن إشكالية المكان ليست وليدة المجتمعات الحداثية ذات الأنظمة المعقّدة، إنما هي جزء فطري ينبض على طول الزمان.
في عام 399 قبل الميلاد، آثر الفيلسوف اليوناني سقراط الموت على المنفى، في الأغلب لم تكن إشكالية موت سقراط تدور حول المكان كمساحة من الأرض يرتفع فوقها عدد من البيوت، بل ربما أراد سقراط الموت لأنه يوقن أن بموتِه سيخلَّد بذكرى أبدية؛ يعرفُ أن في شجاعته تجريد للموت من حضوره كقوة ميتافيزيقية تأخذ ولا تردّ، كأنه يشكّل الموت من جديد كقوة أكثر ديناميكية، قوة تقبل الأخذ والرد، لينزع عنها صرامتها ويقلِبها إلى حركة بعثٍ، بعثٍ لسقراط عبر تاريخ ليس له نهاية، ولكن ما مدى ارتباط ذلك بالمكان؟
الحقيقة أن فلسفة سقراط دارت في أروقة مدينته، لم ترضخ تحت نير مكانٍ واحد، أو تنغلق بين دفتَي كتاب، بل خفقت مع كل عطفة، ومالت على كل جدار، واختبأت في كل زاوية، وهذه علاقة تفاعلية مع المكان، جعلت منه وطنًا حقيقيًّا ليس للأفراد فقط بل للفكر أيضًا، وهذا ما جعل سقراط يرفض المنفى ويتجرّع السمّ، مع أنه كان يمكن أن يمارس فلسفته في المنفى أو أي مكان آخر.
بيد أن هذه المدينة أخذت شكله، وهو أخذ شكلها، ولأن بهذه الحركة سيصنع من ذلك المكان ضريحًا للموت كنهاية للحياة، ويصوّره كبابٍ للحرية وطريقٍ للبعث، ومن تلك النقطة ستبدأ الفلسفة بالظهور، بعد أن أصبح المكان على صورة سقراط، أي أنه أضحى جزءًا من المكان، جزءًا شديد المحلية والخصوصية بالنسبة إلى أحجار المدينة وسكّانها، لأن قصة سقراط وفلسفته ركّبت لهم أجنحة ليقهروا الموت.
حول القصة والسرد
قصة فيلم “هذا ليس دفنًا، بل بعثًا” (This Is Not a Burial, It’s a Resurrection) تشبه نوعًا ما قصة سقراط، المنفى أو الموت، ولكن إشكالية سقراط كانت تتماهى مع كونه رجلًا وحيدًا يتعرّض لعقابٍ من الواضح أن فيه الكثير من التعنُّت والإجحاف، أما في قصة الفيلم فيتعرض مجتمع صغير منغلق في غياهب إفريقيا إلى ظلمٍ يتخفّى تحت غطاء الحداثة والتطوير.
لذلك يتبدّى هذا الظلم في ثوب المنفعة العامة إذا نظر إليه الفرد خارج السياق الاجتماعي، ولكن على الجهة الأخرى الفرد الذي يعيش ذلك الظلم هو من يشعر به في أوجِهِ، ويحاول بكل الطُّرق أن يتطهّر منه كأنه شرّ مطلق، والحق أنه ليس شرًّا مطلقًا، إنما يفتقد لأصالة وقِدم الأرض التي تتشابه تجاويفها مع تغضُّنات وتجاعيد المرأة العجوز التي تحول بين الأرض كتراث والأرض كاستثمار.
يدور الفيلم حول مانتوا -الممثلة ماري توالا-، أرملةٌ هَرِمة أخذت منها المقادير كل مأخذ، وبالتبعية سلبتها الخوف من القدر، لم يخلّف النصيب شيئًا للخوف منه أو عليه، جرّدها قدرها من أقربائها وأولادها وزوجها، كان آخرهم ابنها التي ترقّبت عودته، وأخذت ترصد الأيام وتنفخ في الدقائق ليأتي يوم عيد الميلاد الذي يعود فيه الأبناء إلى أمهاتهم، بيد أنه لم يعد، نهبه المنجم أو سرقته الحمى أو استلبته الشمس، المهم أنه لم يعد.
وبذلك الفعل الإلهي، كانت القطيعة النهائية بينها وبين اللاهوت الشفهي، ومن خلاله تجرّدت من الإيمان بالسماء، وصاحت على السماء تعاتبها على ذلك الاختطاف المقدَّس، التي جربته بتنويعاته على جميع أقاربها، ومن تلك اللحظة بدأت حكاية أخرى تلوح من بعيد، حكاية تفتقد للمحلية وتنتمي إلى ما هو عالمي وحداثي، يريدون أن يرحِّلوا أهل حيّ الناصرة كما سمّاه المبشِّرون من البلاد البعيدة، أو كما يسمّيه أهل الحي “سهول البكاء” (The Plains of Weeping).
يعود الاسم إلى قصة تقف على حافة ذكريات الماضي الغابر، في زمنٍ بالٍ، اجتاحه الطاعون الأسود، حُمل المرضى من القرى النائية نحو مركز العناية في العاصمة، استوجب عليهم المرور عبر سهول البكاء، في أحايينٍ كثيرة لا يقدر المرضى على تحمُّل البلاء، فيقعون موتى في تلك السهول، ولا يستطيع القوم ترك جثث أحبائهم ورائهم، فيقرِّروا دفنها والسكن بجانبها، ربما لذلك سُمّيت سهول البكاء بهذا الاسم، وربما يعود الاسم لحقبة أقدم، ولكنها كما يصفها الراوي كانت دائمًا سهول البكاء، التي تنتمي إلى بلدة ليستو وهي جزء من جنوب إفريقيا، ولكنها منفصلة رسميًّا عنها، يتحدث أهلها اللغة السوتية.
يتولّى أحد أعضاء البرلمان الحكومي مسألة إقناع مختار القرية، أي الممثِّل لها من مواطنيها، وهو بدوره شخص مؤثِّر داخل الحي؛ بمحاولة إقناع بقية السكان بنبأ عن فيضان متخيَّل، لم نعرف يقينًا إذا كان هناك حقًّا فيضان سيضرب هذه القرية أم أنه محض خداع وغشّ لعقول القرويين البسطاء، وقد نزلَ الخبر على رؤوس القرويين كالصاعقة، فهم لا يعرفون سوى هذا الحي الصغير، ولا يعيشون إلا خلال تلك الدائرة المغلقة، لذا لم يتم استقبال ذلك النبأ كشيء يمكن التعقّل فيه، بل كنبوءة تلاشي وانمحاق كاملَين.
بيد أن بعضًا من الوقت يمكن أن يضفي على الأمور قليلًا من المرونة، وهنا تتحول القصة إلى شيء أكثر خصوصية، لأن السرد يتمركز حول شخصية واحدة، وهي شخصية الأرملة مانتوا، كدراسة حالة أو محاولة للتعمُّق في موقف معيّن، تتبعها الكاميرا على طول السرد، وتحاول رصد حركاتها من خلال منهجية فنية تعتمد على الكاميرا الثابتة (Static Camera) واللقطات القريبة (Close Up)، حيث تظهر مانتوا كشخص ناقم ينتمي إلى الأرض، تشبه إلى حدٍّ كبير الحي التي تقطنه، حي مهمَّش في أقاصي الأرض، تحيطه دولة جنوب إفريقيا بمؤسساتها.
اعتمد المخرج ليموهانغ إرميا موسى في سرده على الصورة بشكل شبه كامل، مطوِّعًا اللقطات الواسعة، كأن الطبيعة تخبّئ مانتوا في جزء صغير من تفاصيلها، كأنها تسير في طريق بلا نهاية ولكنها تعرفه جيدًا، لقد نُحِتَ جسد مانتوا في هذه الأرض حتى أصبح جزءًا منها، إذ لا يمكن الفصل بين الجزء والكل.
ومن خلال الحكي بالصورة يتماهى الراوي العليم وهو ينفخ في الليسبيا أو الغورة -وهي آلة نفخ عتيقة- مع حكايته التي يرويها كأسطورة أو ملحمة لسيدة غيّرت العالم، أو قصة نبي مخلّص للبشر، وهذا يعطي القصة نزعة تخيُّلية ويخضعها للمنطق بشكل صارم، بجانب غياب الزمان بشكل كبير في الحكاية، وهذا أيضًا يعطي لسردية الراوي حرية كبيرة ليتمادى في نسج خيوطه، بيد أنه يلتفّ بقصته ثم يعود للنقطة نفسها، وهي إشكالية البقاء في المكان أو الرحيل.
وظّفَ المخرج أقاصيص جانبية لها رمزية ودلالة داخل سياق سرديته الرئيسية، فالحي سيهدَم لتشييد سدٍّ مكانه، سيقي البلدة بأكملها من فيضان أو طوفان جسيم، وكان لمثل تلك النوعية من الأقاصيص تأثير خفي في تحريك الخلق، فبعض القصص من السهل ربطها بأشياء أخرى ربما لم تظهر بشكل جيد في القصة، لأن التركيز لم يكن عليها، فأقصوصة الفيضان المتخيَّل بما فيها من تنويعات توازي قصة طوفان نوح وفُلكه المنجي، كقصة معلومة.
وهذا النوع من القصص يبث خوفًا مقدّسًا ويضفي نزعة دينية على الحدث، فمندوب الحكومة يظهر من الخارج كنبي واعظ يدفع عن الخلق شرًّا عظيمًا بترحيلهم عن الحي، ولكنه على الجهة الأخرى يستغلُّ ذلك النوع من الصور المقدَّسة ليخضع الخلق لإرادته، والحق أن الأمر أكبر من إنقاذ النفس أو الفرار من خطيئة أو غضب إلهي، الأمر بالنسبة إلى مانتوا هو التخلي عن أحبّائها في أضرحتهم، وبالتبعية فقدان القدرة على الحياة.
حاولت مانتوا بعد موت ابنها الأخير التشبُّث بالذكريات، كانت تسمع أسماء الموتى في الراديو كل يوم تقريبًا، ولكنها مقتَت الحياة، وشعرت أن الإله تخلّى عنها، فلبست فستانها الأنيق، ونامت لعلّ الموت يُعجب بها ويأخذها، ولكن حتى لو جالَ الموت بثقله الهائل كلَّ أرجاء القرية لم يحن وقت أخذ روحها بعد. الكثير من أفعال مانتوا ترسِّخ لارتباطها المقدس بالموتى والأرض، وهذه الأفعال جعلتها تبدو كمجنونة، وأظهرتها كرمزٍ مضادّ لمشروع بناء السد، كرمز مضادّ للمنفعة العامة الصورية.
شذرات
يفتتح المخرج الفيلم بلقطة مشوَّهة مهزوزة، مثل اللقطات الذي يستخدمها عادةً المخرج الصيني ونغ كار واي في بعض أفلامه، اللقطة تستدعي فعلًا ملحميًّا وهو ترويض لخيلٍ جامح، كمحاولة لتطويع الطبيعة في خدمة البشر أو الاندماج معها كجزء مهمّ من ممارسة اليومي؛ الجدير بالذكر أن لذلك الفعل قداسة في حضارة بلاد ليتسو، لأن البلاد تتّسمُ بجودة خيولها، وبالنظر إلى جودة الحيوان يتبدّى أفراد تلك الحضارة كرموز للقوة، وهذا بالطبع ينعكس على بيئتهم الطبيعية القاسية وحياتهم البدائية.
الفيلم يخضع لسردٍ خطّي عدا تلك اللقطة الافتتاحية، حيث لم يضع المخرج تلك اللقطة لكي يرصد فعل الترويض فقط كفعل معزول أو كمدخل لفهم تلك الحضارة، ولكن ليخلق حالة من التأهُّب لما هو قادم، ليضيف ضبابًا على عين المشاهد عندما يتخطاها سيلجُ عوالم إفريقيا الهادئة. واللقطة المهزوزة كانت استحضارًا لصورة غابرة، تقع في منطقة رمادية، لا يمكن التيقُّن من كونها شيئًا واقعيًّا أم مجرد استدعاء لأسطورة بطل شعبي من أبطال الأساطير.
تقع اللقطة الافتتاحية في موقع ملتبس كشيء ظاهر ولكنه مجهول الهوية، بحيث لم يقدِّم له الكاتب أو تمهِّد له الصورة، مثل شذرات وأشلاء لبنية خفيّة تسري في الجسد السردي. على الجهة الأخرى، تقع لقطة النهاية التي تمَّ تصويرها بالطريقة نفسها تقريبًا ولكن بإيقاع أكثر هدوءًا، موقع دُمِجَت فيه الرؤية البصرية والرواية السمعية، فالمشهد يعدّ نتيجة وذروة للقصة.
بيد أن كل شيء يبدو محتملًا، حتى المعجزات، لوهلة ستظنُّ أن حشدًا من الملائكة سيضمّ الأرملة ويحلّق بها عاليًا، أو أن الموت الذي تبتغيه سيتحقق. يثبّت المخرج الزمان عند تلك اللقطة، التي يتمّ تمريرها للمتلقّي ببطء كأنه يحاول أن يكرِّرَ نفسه ويعيد التجربة ليرسّخها في ذهن المشاهد.
هناك بعض المَشاهِد التي يمكن تضمينها تحت مظلة الشذرات الفنيّة، مثل مشهد سباق قصّ فراء الخرفان، الذي يبدو في بدايته شيئًا طريفًا وممتعًا، إنما يرصد المخرج في دقائق مكثّفة انفعال واحتدام دخيلة الكاهن في صورة التمادي في لعبة شعبية بسيطة، وبدلًا من أن يقصَّ فراء الخروف يقتله بالمقص ولا يتوقف بل يواصل القص والقطع كأن شيئًا لم يكن، بجسد خافق وعينَين يخرج منهما الشرر، ليتحول رمز الحكمة والغفران والتسامح إلى آلة قتل لحظية، وهنا يتكشّف للمُشاهد التطور الذي يحدث في القرية من خلال تلك الأفعال الهامشية التي لا تبدو مهمة للوهلة الأولى، ولكن مع وجود متوالية من هذه الأفعال، يحدث تغيُّر هائل في القصة.
الجدير بالذكر أن القوة الرأسمالية الممثَّلة في الحكومة، التي بطبيعتها تصدر الأوامر فقط وتنتظر التنفيذ، لم تظهر إلا على استيحاء في الفيلم كله، حتى ظهورها كان ممثلًا في رجل واحد، وعدة عمّال يلوحون من بعيد كأشياء تافهة وصغيرة، ولكن على النقيض كان حضورها الميتافيزيقي يخفق بأفعال غير مفهومة، مثل الحريق الذي أكلَ منزل الأرملة مانتوا، والطريقة الغامضة التي ماتَ بها الفتى الصغير من دون ظهور قاتله، وهذا يطوِّر المؤسسة أو القوة الحكومية لترتدي ثوبًا إلهيًّا، كإرادة لا يمكن ردّها عبر الفلاحين أو المواطنين البسطاء، لتفرض قوانينها في النهاية ولو بشكل قسري.