قريبًا ستبصر النور حكومة مغربية جديدة، يقودها حزب ليبرالي، على خلاف الأمس حينما كان الإسلاميون هم من تصدّروا المشهد السياسي طيلة عقد من الزمن، فبمجرد إعلان نتائج انتخابات 8 سبتمبر/ أيلول الحالي، انزلقت اللهجة الهجومية الشرسة لبعض الأحزاب إلى التودُّد ومغازلة حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي حلَّ أولًا وأضحى أمينه العام، عزيز أخنوش، رئيسًا للحكومة.
باستثناء حزب العدالة والتنمية وفيدرالية اليسار الديمقراطي، اللذين أعلنا اصطفافهما في المعارضة، واعتذرا لرئيس الحكومة المعيَّن عن عدم تلبية دعوة حضور مشاورات تشكيل ائتلاف الأغلبية، ذهبت جميع الأحزاب التي تملكُ تمثيلية في البرلمان إلى المقرّ الرئيسي للتجمع الوطني للأحرار، حيث كان أخنوش يستقبل تباعًا زعماء الأحزاب مرفوقين برؤساء مجالسها الوطنية (برلمان الحزب)، وفق ما تقتضيه أدبيات المشاورات.
أخفق في حساباته
في البدء لبّى الدعوة حزبُ الأصالة والمعاصرة، الذي حلَّ ثانيًا في الانتخابات، ووافق على المشاركة في الحكومة، رغم أنه أخفقَ في حساباته، إذ كان يستبعد هذا النجاح الذي حقّقه “حزب رجال الأعمال” كما وصفه الأمين العام للأصالة والمعاصرة، عبد اللطيف وهبي، الذي كان يراهن على التحالف مع العدالة والتنمية، ظنًّا منه أن انتخابات 2016 سوف تعيدُ نتائجها كما هي، أو معكوسة.
طيلة الولاية التشريعية السابقة، تولّى الأصالة والمعاصرة قيادة المعارضة، وقد اختار ذلك مباشرة بعدما منحته نتائج اقتراع 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 المرتبة الثانية، فاشلًا في زحزحة الإسلاميين عن صدارة المشهد السياسي.
كان وهبي ينال من أخنوش، فتارة يصفه برجل الأعمال الذي ابتغى مضاعفة ثروته بولوج عالم السياسة، وتارة أخرى ينعته بالمفتقد للأهلية كي يتولى منصب رئاسة الحكومة.
إبّان الحملة الانتخابية، كالَ الأصالة والمعاصرة لمنافسه التجمع الوطني للأحرار اتهامات بتوزيع أموال خيالية، وأن هذا الحزب انتقلَ من شراء الأصوات إلى شراء المرشحين، في إشارة إلى أولئك الذين غيّروا لونهم الحزبي في اللحظة الأخيرة.
وقبل ذلك كان وهبي ينال من أخنوش في هكذا مناسبة، فتارة يصفه برجل الأعمال الذي ابتغى مضاعفة ثروته بولوج عالم السياسة، وتارة أخرى ينعته بالمفتقد للأهلية كي يتولّى منصب رئاسة الحكومة، واتّهمه أيضًا باستغلال أموال الدولة ووزارة الفلاحة (كان أخنوش يتولاها منذ عام 2007) لأهداف انتخابية.
تطاردهما لعنة التأسيس
يبدو أن وهبي نسيَ أن لا حزبه ولا حزب أخنوش تطاردهما لعنة التأسيس، فالأصالة والمعاصرة أسَّسه صديق الملك فؤاد عالي الهمة عام 2008، الذي كان وزير داخلية قبل أن يستقيل ليترشح في الانتخابات التشريعية عام 2007 في منطقة الرحامنة شمال مراكش، وبعد ذلك بسنوات سيترك الحزب ليعمل مستشارًا في الديوان الملكي.
أما حزب التجمع الوطني للأحرار فيوصَف بالحزب الإداري، تأسّسَ عام 1978 على يد أحمد عصمان، صهر الملك الراحل الحسن الثاني، والذي تولّى رئاسة الوزراء لأطول مدة في تاريخ المغرب الحديث امتدت من عام 1972 إلى عام 1979. بالنظر إلى سياق بروز هذا الحزب، يعتقد مراقبون أن القصر أوعز لعُصمان بتأسيسه من أجل إحداث نوع من التوازن مع الأحزاب التي ظلت تنازع الملكية حول الشرعية السياسية في البلاد منذ الاستقلال.
يحتاج البرلمان إلى حزب ذي تمثيلية عالية لكي يقود المعارضة، وكان مأمولًا في الأصالة والمعاصرة أن يتولى هذه المهمة، متحالفًا مع الأحزاب ذات التمثيلية المتواضعة.
بعيد ظهور نتائج الانتخابات، كان عبد اللطيف وهبي ضمن المهنّئين الأوائل لعزيز أخنوش، وبدا حينها كمن يبعث رسالة تضمر رغبته في التموقع داخل الحكومة، رغم أن علاقة حزبه بالتجمع الوطني للأحرار لم تكن على ما يرام.
يحتاج البرلمان إلى حزب ذي تمثيلية عالية لكي يقود المعارضة، وكان مأمولًا في الأصالة والمعاصرة أن يتولى هذه المهمة، متحالفًا مع الأحزاب ذات التمثيلية المتواضعة، وضمنها العدالة والتنمية، من أجل ضبط التوازن داخل هذه الهيئة التشريعية، كي لا تتحول إلى مؤسسة تمرِّر القرارات والقوانين، في حال ما كانت هناك معارضة هشّة في مقابل حكومة هجينة تضمّ ائتلافًا متعدِّد الأحزاب.
عدوهم ينقلبُ حليفًا
ووافق كذلك حزب الاستقلال، الذي حلَّ ثالثًا في لوحة النتائج الانتخابية، على المشاركة في حكومة أخنوش، وفق مخرجات اجتماع استثنائي للمجلس الوطني للاستقلال (بمنزلة برلمان الحزب)، وفوّضَ أعضاؤه أمينهم العام نزار بركة بتدبير باقي مسلسل المشاورات.
ولعب الاستقلاليون دور المعارضة عهد حكومة العثماني، ليتخلّوا في النهاية عن لغتهم المتوازنة ويوجّهون اتهامات ثقيلة للحكومة، كان لحزب التجمع الوطني للأحرار النصيب الأكبر فيها، مُتّهمًا بالسعي نحو الهيمنة على صناعة القرار في ظلِّ غياب التوازن، والرقابة المتبادلة داخل الحكومة، التي وصفها حزب الاستقلال بالمطبّعة مع الفساد، بعدما مكّنت بعض الشركات بما فيها شركات المحروقات من الاستفادة من دعم ميزانية الدولة والنظام الجبائي من دون وجه حق، في إشارة إلى أخنوش مالك شركة “إفريقيا غاز” للمحروقات، التي تستحوذ على حصة الأسد في القطاع.
لعلّ العداوة بين الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار وصلت ذروتها أثناء ما يُعرف بـ”البلوكاج الحكومي”، عندما اشترط أخنوش على رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران عدم إشراك الاستقلاليين في تحالف الأغلبية، خلال المشاورات التي أعقبت اقتراع 2016 وامتدّت شهورًا عديدة بلا نتيجة، آنذاك اتهمت جريدة العلم (لسان حزب الاستقلال) أخنوش بالإعداد للانقلاب على شيء آخر، بعدما انقلب على الدستور. فُهم من ذلك أن الاستقلال اتّهمَ أخنوش بالسعي للانقلاب على الملك، وهو اتّهام بالغ الخطورة.
مقعد برلماني تمَّ سحبه من الاستقلال وذهبَ إلى التجمع الوطني للأحرار، في مدينة كلميم جنوب البلاد، حيث تمّ الإعلان في بادئ الأمر فوز الاستقلالي عبد الرحيم بوعيدة، وبعد ذلك بساعات تغيّرت النتائج لصالح مرشح الأحرار محمد أرجدال، وبينما اتهمَ بوعيدة والي جهة كلميم واد نون بتزوير الانتخابات لنيل رضا أخنوش، خرج حزب الاستقلال ببلاغ يتيم أصدره فرعه في كلميم، يتّهم شخص الوالي بعدم الحياد والتواطؤ لصالح مرشح حزب آخر.
بالمحصلة.. ينتظر متتبِّعو الشأن السياسي تفاصيل الإعلان عن التشكيلة الحكومية الجديدة بترقُّب شديد، إذ خلقت المشاورات بين رئيس الحكومة وزعماء الأحزاب جدلًا واسعًا، لا سيما بعدما أبدى عدد من الأحزاب رغبته في الانضمام إلى الأغلبية.
ينظر السياسيون المغاربة إلى موقع المعارضة كما لو أنها مقبرة يُنسون فيها، لتقتل طموحاتهم الوصولية والانتهازية، وطبعًا هذا لا يحدث في البلدان ذات الديمقراطيات المتقدمة، حيث تلعب الأحزاب المعارضة دورًا لامعًا في تجويد الممارسة السياسية وتدبير شؤون الدولة ومواطنيه، بينما تتهافت الأحزاب في المغرب على الحقائب الوزارية ونيل ما تمنحها من امتيازات، حيث جعلوا من الانتخابات مناسبة لاستلام المناصب، وليس محطة لاستكمال مسار البناء الديمقراطي.