لم يهنأ السودانيون طويلًا بحالة الاستقرار المأمولة عقب الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، فما إن تهدأ الأمور في مدينة حتى تشتعل في أخرى، وما إن تُسد ثغرة حتى تفتح ثغرات، وبينما يسود التفاؤل ملفًا بعينه إذ بعشرات الملفات الأخرى تدخل نفق اليأس والإحباط.
الساعات الماضية شهدت مناطق شرق البلاد اضطرابات عارمة، وصلت إلى إغلاق الطريق الرابط بين الموانئ وبقية الولايات، حتى باتت العاصمة الخرطوم شبه معزولة تمامًا، كما شمل الإغلاق 3 نقاط في ولاية البحر الأحمر، منها محطة “العقبة” المؤدية لموانئ البلاد في بورتسودان وسواكن على البحر الأحمر، ومحطة أوسيف على الطريق القاري مع مصر، بجانب أربع مناطق أخرى بعدة ولايات، بحسب وسائل إعلام سودانية محلية.
وتحولت ولايات الشرق منذ توقيع اتفاق السلام مع “الجبهة الثورية” في أغسطس/آب الماضي، إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت ودون مقدمات، لتضاف إلى قائمة الضغوط التي تتعرض لها حكومة عبد الله حمدوك، التي تصاعدت مطالب إقالتها في الآونة الأخيرة لفشلها – على أكثر من مسار – في تحقيق مطالب الشارع.
جرس إنذار
المشاركون في التحركات الاحتجاجية تلبية لدعوة “المجلس الأعلى لنظارات البجا” أغلقوا الطريق القومي للمنطقة الشرقية في أكثر من 5 نقاط، تنفيذًا للتهديدات الصادرة عن ناظر قبيلة الهدندوة ورئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، محمد الأمين ترك، احتجاجًا على “مسار الشرق” في اتفاقية السلام والتهميش الذي يعانيه الإقليم.
الإغلاق شمل منطقتين في ولاية كسلا وثلاثة مناطق في ولاية القضارف بدأت من الحد الفاصل بين ولايتي القضارف والجزيرة جنوبًا عند منطقة الخياري وحتى محطة “الزيرو” بمجمع سد أعالي عطبرة وستيت، فيما أكد نجل رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا شريف ترك تنفيذ إغلاق جزئي يستهدف حركة الشحن والبضائع بين الموانئ والعاصمة الخرطوم وبقية أنحاء البلاد، لافتًا إلى أن الإغلاق استثنى حركة السفر والتنقل ومركبات الشرطة والإسعاف، ملوحًا أن الإغلاق قد يمتد إلى مرافق أخرى حال عدم استجابة الحكومة لمطالبهم.
التصعيد جاء بمثابة جرس إنذار للحكومة والسلطة الانتقالية التي تتجاهل مطالب أهل الشرق رغم حالة الاحتقان التي تخيم عليهم خلال الآونة الأخيرة، فيما أكد رئيس “تجمع شرق السودان” وعضو التنسيقية العليا لكيانات شرق السودان، مبارك النور، أن “أهل الشرق بجميع مكوناتهم متحدون خلف مطلب إلغاء مسار الشرق في اتفاقية جوبا الموقعة في 3 من أكتوبر/تشرين الأول 2020”.
عضو التنسيقية العليا لكيانات شرق السودان، في تصريحاته لصحيفة “سودان تريبيون” أشار إلى أنه ردًا على مماطلة الحكومة في اتخاذ إجراءات حاسمة بشأن مسار الشرق “فإن الكيانات في الشرق حاليًّا تطالب بحل الحكومة لفشلها في التعامل مع قضايا التهميش في الإقليم”.
ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها غلق الطرق الرئيسية في الشرق، ففي يوليو/تموز الماضي أغلق المحتجون الطريق القومي بين الخرطوم وبورتسودان لثلاثة أيام، فيما أرسلت الحكومة وفدًا للتفاوض مع المجلس، لكن دون الاستجابة لها بالشكل المرضي.
ترق في اوسيف يوم الخميس الموافق 16/9/2021
اذا لم يتم تنفيذ مطالبنا سوف نعلن حكومه دولة البجا pic.twitter.com/DSqrFRNnW2— ترياق سوداني (@tryagsudani) September 17, 2021
إقالة الحكومة.. المطلب الأبرز
القيادي والمستشار القانوني في “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، أحمد موسى، كشف أن الاحتجاجات المشتعلة منذ الجمعة الماضية، 17 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، لم تكن حصرية على المواطنين فقط، بل شاركت فيها تنظيمات سياسية ومجتمعية.
وأوضح أن المحتجين رفعوا عددًا من المطالب التي جاء على رأسها حل الحكومة بجانب “إلغاء مسار شرق السودان في اتفاقية السلام الموقعة بجوبا، وفتح منبر تفاوضي مع الحكومة بشأن قضايا شرق السودان، ومنح الإقليم وموارده نسبة مشاركة بالسلطة المركزية”.
كما هدد باتخاذ خطوات تصعيدية حال عدم استجابة السلطة الانتقالية لتلك المطالب خلال الأيام القليلة الماضية، لافتًا إلى أن تلك الخطوات “تشمل وقف الرحلات الجوية إلى مطار بورتسودان ومنع شركات التعدين عن العمل إلى حين الاستجابة للمطالب”.
المطالبة بإقالة الحكومة بات شعارًا مرفوعًا في معظم الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، الأمر لا يقتصر على المعارضين لها فقط، بل تجاوز ذلك لقوى خارجة من رحم ثورة ديسمبر/كانون أول، وذلك لما اعتبروه فشلًا ذريعًا منيت به الحكومة في تلبية مطالب الشارع.
الأوضاع الاقتصادية المتردية والتجاهل لأولويات الشارع والانخراط في ركب التطبيع والرضوخ لإملاءات المكون العسكري ورهن القرار السياسي للبلاد في أيدي بعض القوى الأجنبية بدعوى الحصول على عدد من المكاسب، كل ذلك أجج حالة الاحتقان ضد حمدوك ورفاقه.
الأمين العام المكلف لحزب المؤتمر الشعبي السوداني، بشير آدم رحمة، في تصريح له قبل أيام، اتهم حكومة حمدوك بأنها تمثل “قوى استخبارية أجنبية”، وأنها عملت على “إفقار الشعب السوداني بأوامر خارجية”، مضيفًا “نحن نطالب بتغيير هذا النظام بشقيه المدني والعسكري ونحن مع حكومة مدنية ديمقراطية، كما نطالب بتعيين رئيس وزراء جديد يشكل حكومة انتقالية لفترة سنة واحدة وذلك بعد استشارة جميع الأحزاب السياسية والقوى الوطنية من دون إقصاء”.
جدير بالذكر أن شعبية السلطة الانتقالية برمتها قد تراجعت في الآونة الأخيرة بعد اتفاق التطبيع مع دولة الاحتلال، الأمر الذي ضرب مرتكزات البلاد الوطنية وأسقط الصورة القومية للخرطوم كعاصمة الـ”اللاءات الثلاث”، وهي السقطة التي يحاول حمدوك تجميلها بزعم المكاسب والفوائد العائدة على البلاد من ورائها، لكنها المبررات التي سرعان ما تصطدم بجدار العروبة الضارب في جذور المجتمع السوداني، رغم حالة الفقر والتدني المعيشي التي يحياها.
تصاعد احتجاجات شرق السودانhttps://t.co/7UKlimFcFD pic.twitter.com/fNcjqF3AUI
— alsiasi (@alsiasi) September 19, 2021
شرق السودان.. قنبلة موقوتة
يمثل إقليم شرق السودان برميل بارود قابل للاشتعال بين الحين والآخر، فمنذ سقوط نظام الإنقاذ شهد الإقليم سلسلة من الأزمات الواحدة تلو الأخرى، بداية من النزاع القبلي بين قبيلتي بني عامر والنوبة في مدينة بورتسودان، وهو النزاع الذي امتد ليشمل مدينتي كسلا وحلفا ومناطق أخرى، وأسفر عن قتل العشرات من الطرفين وإصابة المئات.
هذا النزاع لعب دور البطولة في حالة القلق التي خيمت على كل أرجاء الإقليم المكون من 3 ولايات: البحر الأحمر ومركزها بورتسودان، وكسلا ومركزها مدينة كسلا، والقضارف ومركزها مدينة القضارف، ويقطنه عشرات القبائل، أكبرها مجموعة البجا التي تضم 5 أفرع رئيسية.
التحديات التي تواجهها ولايات الشرق لا تنحصر في البعد القبلي والنزاعات المتبادلة التي يراها البعض وافدة من بعض البلدان المجاورة وليست متأصلة في جذور البلاد، بل هناك محددات أخرى لعبت دورًا محوريًا في تغذية الصراعات والنزاعات، أبرزها عاملي الفقر والجهل، إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من 60% من سكان الشرق واقعون تحت خط الفقر بسبب البطالة وقلة التعليم وضيق الفرص والجفاف في بعض المناطق، هذا بخلاف اتهامات سكان الإقليم للسلطة بالسيطرة على ثرواتهم المعدنية دون أحقيتهم في ذلك.
ضعف المشاركة في السلطة القومية والتهميش السياسي كان أحد أبرز شكاوى الإقليم التي دفعت التنظيمات والكيانات السياسية والمجتمعية بداخله إلى حمل السلاح في تسعينيات القرن الماضي، قبل التوصل إلى اتفاق سلام بحلول عام 2006، لكن الأمور تعود إلى الخلف مرة أخرى في ظل غياب ممثلي الإقليم عن خريطة النفوذ والسلطة.
الأكاديمي السوداني، أبو بكر بخيت، يرى أن الحلول التسكينية المؤقتة لن تجدي في حل قضية الشرق، لافتًا إلى أنها بحاجة ماسة إلى معالجة جذرية، بدءًا من “التنمية الريفية ووقف الاحتضان السياسي للزعامات القبلية وتوضيح حقوق الأرض والنظر في قضايا التجنيس والتدخل الاستخباراتي في الإقليم من دول الجوار مثل مصر وإريتريا، فضلًا عن رصد تدفق الأموال الأجنبية لبعض الجهات” وفق تصريحات صحفية له.
فيما ذهب رئيس حزب “مؤتمر البجا”عبد الله موسى، إلى أن ما يحدث في شرق البلاد “نتاج تراكم مظالم تاريخية بدأت مع استقلال البلاد عام 1956″، محملًا الحكومة الحاليّة جزءًا كبيرًا من المسؤولية “بدلًا من التفاوض مع كل المكونات السياسية والاجتماعية، اكتفت بالتفاوض مع “الجبهة الثورية” التي لا تمثل أهل الشرق” على حد قوله.
تجاهل ما يحدث في الشرق من مخاطر وفوضى وتصعيد بين الحين والآخر والاكتفاء بزيارات متبادلة وتطمينات نظرية لا تلامس الواقع، في الوقت الذي يعزف فيه البعض على وتر “أخونة الاحتجاجات” واتهام بقايا نظام الإنقاذ بتأجيجها، لا شك أنه سيعمق الأزمة ويدفع بها نحو مسارات ربما تعيد البلاد لسنوات طويلة إلى الخلف مرة أخرى، لا سيما في ظل ما يثار بشأن الحديث عن المراقبة الدولية على السودان مجددًا في ظل تلك الأجواء الملبدة بغيوم عدم الاستقرار.
مأزق جديد يضاف إلى قائمة التحديات التي تواجه حكومة عبد الله حمدوك، وسط شكوك بشأن قدرتها على الصمود في وجه هذا التيار الجارف من الاحتقان الشعبي، الذي تعزز باضطرابات أمنية هنا وهناك، هذا بخلاف النزاع المكتوم مع المكون العسكري داخل السلطة الانتقالية، الأمر الذي يجعل من استمرار تلك الحكومة حتى انتهاء المرحلة الانتقالية مسألة تحتاج إلى إعادة نظر.