يهربن من قسوة أوضاع بلادهن نحو موت أو فقر، طمعًا بمكان تنجو فيه الروح، في كثير من الظروف لم يملكن رفاهية اختيار المصير، تتعثر خطى تلك اليافعات بالعديد من العواقب والفخاخ المسمومة أملًا بحياة تليق بزهرة شبابهن، ومستقبل يهوِّن عليهن ذكريات الماضي وشقاء الحاضر.
“زواج الخطّابة” ظاهرة تكاد تكون منتشرة في تركيا، البلد الأكثر احتواءً للاجئات العربيات، وهو عبارة عن “سمسرة” تعمل على تأمين زوجات من المغتربات لرجال من جنسيات عربية أو تركية بـ”مقابل مادي”، علمًا أن هذه الزيجات بمعظمها لا تستمر لفترة طويلة.
زواج مؤقت
زواج لمدة أسبوع، العبارة كفيلة بإيضاح حجم مأساة ياسمين (20 عامًا) التي لجأت إلى تركيا مع أقاربها، بعدما فقدت عائلتها في الحرب الجارية في سوريا، كانت تسير حياتها بشكل طبيعي قبل أن تبحث عن مكان ثانٍ للعيش بسعر زهيد، وتلتقي السيدة الأربعينية التي تدير سكنًا يعيل الأرامل والفتيات السوريات ممن لا معيل لهنّ، وتعرض عليها سكنًا دون مقابل مادي.
الأيام الأولى كانت مطمئِنة، مكان يجمع بنات بلدها خفّفَ عنها عبء الغربة والوحدة، لكن سرعان ما انقلب الحال حين عرضت صاحبة المبنى عليها الزواج من رجل ميسور الحال، إلا أن ياسمين قابلت ذلك بالرفض، حيث لم تتجاوز بعد الحالة النفسية التي تمرُّ بها بعد رحيل عائلتها، لكن تحت ضغط تلك الخطّابة وترهيبها وافقت وسرعان ما تمَّ تحديد موعد لعقد القران بمهر مع “كمسيون” للخطّابة، بوثيقة كُتبت بواسطة “شيخ”، مع شاهدَين لا تعلم العروس هويتَيهما.
بعد 7 أيام سافر الزوج بحجّة إتمام أوراقه لتسجيل الزواج في المحكمة، لكنه لم يعد، وطلب منها تسليم الشقة قبل أن يطلّقها شفهيًّا عبر الهاتف، بحجّة أنه مضطر للعيش مع زوجته في السعودية، هنا وجدت ياسمين نفسها بين خيارَين أحلاهما علقم، وهما العودة إلى السكن وتزويجها مرة أخرى لرجل “أفضل منه”، وفق قول الخطّابة لياسمين، أو تُرمى بالشارع.
تستغلّ العصابات حاجة تلك الفتيات إلى السكن وتدفعهن إلى القبول بالعيش في سكن مشترك تملكه سيدة.
تقول ياسمين: “إن الخطّابة تجني أموالًا طائلة على حساب الضحية، وتستقبلها عندما تعود منكسرة بعرض آخر للزواج دون أي مشاعر أو رحمة، كما أنها تعرض عليهن إمكانية إجراء ترقيع للبكارة وتكفلها بذلك طمعًا بالمهر العالي الذي يُدفع للمرأة البكر”.
تستغلُّ العصابات حاجة تلك الفتيات إلى السكن وتدفعهن إلى القبول بالعيش في سكن مشترك تملكه سيدة، وهو مخصَّص لفتيات معظمهن لاجئات كنّ سلكن طرق التهريب (الدخول غير الشرعي عبر الحدود) للوصول إلى الأراضي التركية، فيما تعيش أخريات وحيدات من دون معيل ولديهن مشاكل اجتماعية، كما تضمّ أماكن السكن هذه مطلّقات وأرامل إضافة إلى قاصرات، أتين من دون عائلاتهن.
حادثة قتل
في قصة أخرى، تعرّفت المغربية سمية (34 عامًا) إلى وسيطة زواج في مدينة الدار البيضاء في المغرب عبر موقع فيسبوك، وتعثرت حينها بعرضٍ للزواج من رجل تركي يملك عقارات ويطمح للزواج من فتاة عربية والإنجاب.
تقول سمية لـ”نون بوست”: “راسلتني “الخطّابة” وطلبَت مني إرسال صورة تظهر محاسني بلباس محتشم عبر تطبيق واتساب، وهي بعد ذلك أرسلت لي صورته وبدا رجلًا وسيمًا، فوافقتُ من دون تردُّد”.
جهّزت أوراقها الرسمية، وبعد شهرَين قدمت إلى تركيا، عند مقابلتها للعريس شعرت بأنه غير طبيعي، يعاني من تصرفات تدلُّ على أنه مريض ومتزوج ولديه أطفال، حاولَت المماطلة والتواصُل مع الخطّابة التي تبيّنَ أنها غيّرت رقمها، قبل أن يهددها والد العريس بالسجن بتهمة النصب أو دفع مبلغ تجاوز الـ 2500 دولار، وهو المبلغ الذي قبضته الوسيطة المغربية من الوالد.
وبالرجوع إلى الماضي قليلًا، أثارت البلبلة في الأوساط حادثةُ مقتل فتاة مغربية (22 عامًا)، على يد زوجها التركي بمنطقة اسنيورت في إسطنبول، حيث أطلق عليها النار من بندقية الصيد، حسب ما ورد في وسائل الإعلام التركية.
وذكرت المصادر ذاتها أن القتيلة تُدعى إيمان مراس تنحدر من إقليم السطات في المغرب، انتقلت إلى تركيا قبل أقل من شهر بعدما استدرجتها شبكة متخصِّصة في “تزويج النساء” برجال أتراك مقابل مبلغ مالي، وبعد وصول إيمان إلى إسطنبول عرّفتها الشبكة إلى “زوج المستقبل”، ثم بدأت إجراءات الزواج بعد حصول القبول بين الطرفَين، واستلمت الشبكة عمولتها إثر قراءة الفاتحة، لتنتقل “العروس” للإقامة في منزل زوجها إلى حين “إتمام إجراءات الزواج”.
وضعت تلك الواقعة شبكات المتاجرة بالبشر تحت المجهر، خصوصًا فيما يخصّ استقطاب النساء المغربيات إلى تركيا قصد استغلالهن، وذلك باللجوء إلى وسائل متعددة من بينها الإغراء بالزواج.
تقول سلوى الكيناني، الناشطة المغربية المقيمة في إسطنبول: “إن ضحايا الزواج من فتيات يجلبهن سماسرة إلى تركيا مقابل وعود معسولة لا تلبث أن تتلاشى، حيث تغيب أية حقوق لهن، كون الزواج يتمّ عبر ورقة غير موثَّقة في الدوائر الحكومية”.
تجهل أغلب النساء العربيات اللاتي يتزوجن بشكل عُرفي من أتراك بالقوانين التي تمنع تعدد الزوجات في تركيا.
وأوضحت الناشطة الكيناني، في تصريحات صحافية، أن بعض الفتيات تمكنّ من الزواج بشكل رسمي في تركيا، بينما أخريات أُجبِرن على توقيع عقد زواج الشيخ من طرف السماسرة (الخطّابات)، ولم يجدن خيارًا آخر سوى الموافقة نظرًا إلى ظروفهن الاجتماعية الصعبة وعدم قدرتهن على العودة إلى المغرب.
طيّ الكتمان
المحامي والناشط السوري مجد الطبّاع، الذي يتابع قضايا الاحتيال، قال لـ”نون بوست”: “بالنسبة إلى موضوع الخطّابات يوجد العديد من الحالات هنا في تركيا، آخرها لشخص من الأردن لجأ إلى إحدى الخطّابات لإيجاد العروس المناسبة، وقد قامت بعرض حوالي 5 بنات عليه، قام باختيار واحدة منهن ثم قام بتسليم مبلغ قدره 5000 دولار لأخيها، وعند الذهاب إلى غرفة الفندق قامت بالادّعاء بوجود ألم في البطن وعلى إثره تمّ نقلها إلى المشفى، لكن قبل الوصول قد هربت من السيارة”.
أمّا عن الإطار القانوني، يشير إلى جهل أغلب النساء العربيات اللاتي يتزوجن بشكل عُرفي من أتراك بالقوانين التي تمنع تعدد الزوجات في تركيا، مضيفًا أن أغلبهن “لا يعلمن بمخالفة القانون التركي وما يترتّب عليها من آثار وعقوبات، فيما لو حُرّكت الدعوى العامة بحقهما كزوج وزوجة”.
وينبّه إلى أنه في حال تمّ الزواج العرفي تترتّب العقوبات على الزوجَين وكاتب عقد الزواج بالسجن لمدة تتراوح بين 3 إلى 6 أشهر، وفي حال وجود أطفال من هذا الزواج لا يحقّ للمرأة الأجنبية وفقًا للقانون التركي الوصاية عليهم حيث تكون الوصاية للأب.
وأشار المحامي السوري إلى عدم توافر أرقام وإحصاءات رسمية حول ضحايا الاحتيال والسماسرة، وبقاء هذا الموضوع طيّ الكتمان بين مختلف الأطراف، مستدركًا: “مثل هذه الحوادث منتشرة بكثرة، لكن معظم من يتمّ النصب عليهم يفضّلون التكتُّم على الموضوع خوفًا من المجتمع وتعذُّر الحلول”.
ولفت الطبّاع إلى أن “عقد الشيخ” لا يسجَّل لدى الدولة، مضيفًا: “عقد المأذون أبسط بكثير من عقد الدولة، فالأول يحتاج إلى شهود ومأذون فقط، على عكس عقد الدولة الذي يحتاج إلى مراسم زواج كاملة ويحتاج إلى أوراق ثبوتية رسمية، والنقطة الأهم هي الطلاق حيث إن عقد المأذون على الطريقة الإسلامية، أما عقد الدولة فهو لا يتمّ إلا بإجراءات طويلة المدى وصعبة”.
وعن طُرُق الخلاص عند وقوع الطلاق لزواج غير مسجَّل، يعقّب المحامي: “لا يوجد أي حلّ أو عمل بإمكاننا الولوج إليه، وعليه تضيع الحقوق وتختلط الأنساب، فنحن نكون أمام ضحية سببها المجتمع، والحرب جعلت الجميع يفقد ميزات المجتمع التي أهمها العلاقات الأسرية والخطبة الرسمية”.
باطل من الأساس
عن الموقف الشرعي، أوضح الشيخ بدر الدين حامد، عضو الهيئة العمومية في المجلس الإسلامي السوري في جمعية نور الهدى، أن صحّة عقد الزواج قائمة على تمام أركانه من حيث قبول الوالدَين والشهود وتسمية المهر الكامل وتوافُر الإيجاب والقبول من الطرفَين، لكن إذا فقدَ العقد أحد هذه الأركان فهو باطل من الأساس.
وأضاف لـ”نون بوست”: “لا بد لمن يريد ويقصد الزواج أن يتأكد ويتحقق بالسؤال عن الأهل والبنت أولًا إذا كانت تتعلق في ذمة رجل آخر، وأكثر ما يحصل من حالات الاحتيال في تركيا يكون من قبل الأجانب القادمين لأجل السياحة”.
وحول سؤالنا عن الزواج المؤقت، قال الشيخ حامد إن وضع الزوج في نيته توقيت للزواج ولم يصرّح للعروس بذلك يُعتبر قلّة أمانة ومشكلة كبيرة، كذلك في حكم الشرع هو “آثم” فيما لا ذنب للضحية، مشيرًا إلى الحكم الشرعي في زواج المتعة القائم على التوقيت، فهو باطل ومحرّم في كل مذاهب أهل السنّة والجماعة.
يستغلّ الوسطاء جهل الضحايا بالقوانين المنظمة للزواج في تركيا للاحتيال عليهن من خلال تقديم عروض زواج من أشخاص متزوجين.
ونبّه عضو المجلس الإسلامي السوري في تركيا إلى أن حالات توثيق الزواج بشكل سليم يكون بعقدٍ مدني في دوائر النكاح التابعة للبلدية التي تتبع للحكومة، حيث يتم إجراء ذلك بوثيقة شخصية تابعة لبلد الشخص، أما غير ذلك يعتبر زواجًا عرفيًّا خارج الفانون.
قوانين تركيا للزواج
تنصّ الفقرة 1 من المادة 157 من قانون العقوبات التركي الصادر عام 2004 برقم 5237، على أن “خداع شخص بسلوك احتيالي وإلحاق الأذى به أو بغيره منفعة لنفسه أو للآخرين يعاقَب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة و5 سنوات”.
ويستغلّ الوسطاء جهل الضحايا بالقوانين المنظّمة للزواج في تركيا للاحتيال عليهن من خلال تقديم عروض زواج من أشخاص متزوجين، وهو أمر يتعارض مع القوانين التركية، حيث تعتبر العلاقات الأسرية خاضعة لقوانين مدنية وليس دينية.
وهناك حالات تُمنع فيها إجراءات تثبيت الزواج في تركيا، منها:
القاصرات
يجرّم القانون التركي الزواج من القاصرات قبل إتمامهن الـ 17 عامًا، ويعرّض الزوج للسجن من 6 أشهر إلى سنتين، وإذا ثبت أن الزوجة أُرغمت على الزواج وهي قاصر، فإن العقوبة بالسجن تصلُ إلى 16 عامًا.
الزوجة الثانية
ويحظر القانون التركي تعدُّد الزوجات، حيث فرضت الفقرة 1 من المادة 230 من قانون العقوبات التركي، عقوبة الحبس لمدة 6 أشهر وحتى سنتين على الزوج الذي يجمع بين زوجتَين.
ولا تستطيع الزوجة الثانية الحصول على حقوقها، بحسب القانون التركي، إذ تنصّ المادة الثانية من الدستور التركي على أن “الجمهورية التركية دولة ديمقراطية، علمانية، تحكمها سيادة القانون، تضع في اعتبارها مفاهيم السلم العام والوحدة الوطنية والعدالة واحترام حقوق الإنسان الموافقة لقومية أتاتورك”.
ووفقًا لتلك المادة، أصبح الزواج مدنيًّا، وسقط اعتبار الديانة عند الزواج، ومُنع تعدُّد الزوجات، وبهذه الحالة لا تستطيع الزوجة الثانية ضمان حقوقها بسبب عدم وجود عقد رسمي لها بالمحكمة.