بعد إخفاق باريس في إيجاد حلول أمنية وسياسية في كل من مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، انتهزت موسكو الفرصة الذهبية لاقتحام ما كان يُعرف باسم مربع النفوذ الفرنسي التاريخي في إفريقيا، والتغلغل على حسابها لإحياء الحضور السوفيتي الذي كان طاغيًا ومتنوِّعًا في تلك المناطق، عبر اتفاقات عسكرية وفنية أثارت مخاوف باريس وهواجسها.
تاريخيًّا، لعبَ الاتحاد السوفيتي دورًا رئيسيًّا في إفريقيا، حيث وفّر مظلة أيديولوجية وسياسية وسندًا عسكريًّا قويًّا ودعمًا لحركات التحرر الإفريقية المناهضة للاستعمار حينها، ولكن مع سقوط جدار برلين وتفكُّك الاتحاد وانحسار دوره في مختلف القضايا الدولية ومناطق نفوذه التقليدية، عادت أوروبا وتحديدًا فرنسا للانفراد بالعلاقات الاقتصادية والسياسية مع مستعمراتها القديمة.
عودة المنافسة
يبدو أن المعركة الجيوسياسية من أجل السيطرة على إفريقيا تسير الآن على قدم وساق، بين روسيا الساعية لاستعادة مجدها وفرنسا التي تُحاول تعزيز موقعها والمحافظة على نفوذها، لذلك من المنتظر أن يشتدَّ التنافس بين البلدَين في المرحلة القادمة.
Lutte entre la France et la Russie au Mali/Houphouët prévenait :”Qui aura l’Afrique, dominera le monde” pic.twitter.com/xnbgJhLZnl
— Farafina Wamy (@FarafinaW) September 20, 2021
فإذا كانت موسكو تراجعت خطوة إلى الوراء في السودان واصطدمت مساعيها بشأن إنشاء مركز بحري روسي برفض أميركي، فإن لديها فرصة للقفز خطوتَين إلى الأمام في إفريقيا الوسطى وخاصة في مالي، البلد الذي يقع تقليديًّا تحت النفوذ الفرنسي.
أدرك الروس مؤخرًا أنّ فرصتهم في مالي ليست رهينة بما سيقدمونه لهذا البلد من دعم فني وعسكري، بقدر ما هي مرتبطة بما ستخسره فرنسا جرّاء سياستها التي أثبتت فشلها طيلة الـ 8 أعوام التي تواجدت فيها على الأرض، حيث بدأ نفوذها بالانحسار تدريجيًّا.
أثبتت التجربة أيضًا أنه كلما تراجعت شعبية فرنسا في إفريقيا وفي أي منطقة من العالم، زادت فرص روسيا للتدخُّل السياسي والعسكري، ففي سوريا خسرت باريس أسبقية انخراطها في دعم الثورة وحل الأزمة لصالح موسكو، وفي ليبيا أيضًا فشلت في إدارة الملف وأسقطت بكرة خيط اللعبة من يدَيها، لتصبح لاعبًا ثانويًّا مقارنة بالروس والمصريين.
لذلك، فإن التدخُّل الروسي في سوريا وليبيا يُعدّ مثالًا للتخطيط الاستراتيجي وجزءًا من الخطط السياسة الخارجية الجديدة لموسكو، والتي ستستمرُّ مستقبلًا عن طريق التدخل في مالي كبوابة مناسبة للتغلغل وحجز موقع مؤثِّر وفاعل لها في المشهد السياسي الإفريقي، بعد أعوام من خروج القارة السمراء عن دائرة أولوياتها.
البوابة: مالي
منذ عام 2015، أعلنت روسيا نيتها إقامة قواعد عسكرية في 6 دول إفريقية، وهي مصر والسودان وإريتريا وموزمبيق ومدغشقر وإفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى مالي وغينيا حيث يُذكر أنّ هاتَين الدولتَين كانتا حليفتَين للاتحاد السوفيتي إبّان الحرب الباردة في غرب إفريقيا.
الظاهر أن موسكو تعمل على التغلغل في البلد الإفريقي، ففي أعقاب الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي في أغسطس/ آب 2020، تصاعدت مؤشرات النفوذ الروسي التي ظهرت بشكل جليٍّ في تظاهرات باماكو، حيث رفعت الحشود شعارات داعمة لموسكو والرئيس فلاديمير بوتين، فضلًا عن رفعهم للأعلام الروسية.
موسكو الآن بصدد إعداد العدّة لسدِّ الفراغ المحتمَل الذي سيخلّفه الانسحاب الفرنسي التدريجي المحتمَل من شمالي مالي، أكثر البلدان الخاضعة لنفوذ فرنسا التقليدي، خاصة بعد التقارير التي أكّدت تقارب العسكريين وتواصلهم مع موسكو من أجل الاستعانة بخدمات مرتزقة فاغنر.
كشفت التقارير أنّ الحكّام الجدد في مالي، بقيادة العقيد عاصيمي غويتا، يسعون إلى اتفاق مع فاغنر، كردٍّ على قرار فرنسا سحب قواتها من شمالي البلاد مطلع عام 2022، وإنهاء عملية برخان العسكرية بالساحل، وأنّ وزير الدفاع المالي ساديو كامارا، الذي تدرّبَ في روسيا وزار موسكو عدة مرات منذ الانقلاب الأول الذي قاده غويتا في أغسطس/ آب 2020، يقود المفاوضات لجلب ألف مرتزق.
أشارت “وكالة رويترز” في تقرير سابق إلى أن المفاوضات بين باماكو ومجموعة فاغنر “متقدمة جدًّا”، ما يعني أن باماكو توجِّه رسائل إلى باريس مفادها أنها أيضًا تملكُ أوراق ضغط وبدائل (الشركة الروسية)، في حال قررت فرنسا سحب قواتها وتركتها وحيدة في مواجهة التنظيمات الإرهابية الناشطة بكثافة في شمالي ووسط البلاد.
بحسب المصدر ذاته، سيتمّ بمقتضى الاتفاق المحتمل بين الحكومة المالية وروسيا نشر نحو ألف من مرتزقة فاغنر في باماكو، حيث يفترض أن تساهم هذه العناصر في مكافحة الجماعات الإرهابية، وتقديم التدريب للجيش، فضلًا عن توفير الأمن والحماية لبعض المسؤولين في البلاد.
في مقابل هذه الخدمات، ستحصل فاغنر على 6 مليارات فرنك إفريقي (10.8 مليون دولار) شهريًّا، وهي خطوة ستعزز كثيرًا النفوذ الروسي في مالي، وقد أقرّت باماكو بدخولها في مفاوضات مع الشركة الروسية، لكنها ألمحت إلى أنها لم تقُمْ حتى الآن بالتوقيع على الاتفاق، حيث أكّد رئيس وزراء مالي، شوجيل مايجا، أن من حق بلاده طلب الدعم العسكري من أي طرف تريد.
“Le Mali a le droit de demander le soutien militaire de qui il veut” a déclaré le Premier ministre, après que la France & d’autres puissances étrangères se soient alarmées d’un rapport selon lequel Bamako approchait des mercenaires Wagner de Russie.https://t.co/abNlPQIt65 pic.twitter.com/7mvZZWpYrd
— Rebecca Rambar (@RebeccaRambar) September 18, 2021
فاغنر.. كلمة السر
رغم إنكار موسكو لأيّ وجود عسكري رسمي لها في مالي أو أيّ صلة مباشرة تربطها بمجموعة فاغنر، إلا أن واقع الحال والتجارب السابقة في أكثر من بلد توحي بأن مثل هذه الشركات أصبحت آلية حيوية لتحركات الكرملين غير المقيَّدة في الساحة الإفريقية أو في أي رقعة أخرى في العالم.
فهذا النوع من الشركات يمثل أداة فاعلة في تنفيذ أهداف القوى الدولية ومصالحها الجيوستراتيجية في مناطق الصراع على النفوذ، ونظرًا إلى كون إفريقيا تمثل إحدى أبرز ساحات التنافس الدولي والإقليمي، لذا فقد شهدت السنوات الأخيرة توسُّعًا ملحوظًا في دور هذه الشركات وتزايد نفوذها على المستويات كافة.
تُمثل مجموعة فاغنر إحدى أهم الأذرع التي يعتمد عليها الكرملين في تعزيز الدور الروسي في السياق الإقليمي، ولعلّ نشأة هذه الشركة يرتبط بشكل رئيسي بخدمة الاستراتيجية الروسية في بعض مناطق نفوذها، حيث تمَّ تأسيس فاغنر في عام 2013 على يد ضابط الاستخبارات الروسي السابق ديمتري أوتكين، وهي شركة مملوكة لرجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين المعروف بـ”طبّاخ بوتين”.
بدأت فاغنر تنال اهتمام الإعلام العالمي بشكل تدريجي، منذ ظهورها الأول في أوكرانيا عام 2014، ثم في سوريا عام 2015، وعلى عكس ما يروَّج له من أن فاغنر مجموعة مرتزقة خارجة عن القانون أو أنها شركة خاصة، فإن المتتبّع لأعمالها يتبيّن أنها تُقدِّم مجمل خدماتها إلى وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الروسية، وتتحرّك في أماكن ترى موسكو أن مصالحها الاستراتيجية عُرضة للتهديد أو في مناطق يرغب الرئيس فلاديمير بوتين بتوسعة نطاق التأثير فيها، ما يعني أنها مرتبطة رأسًا بالكرملين.
على الساحة الإفريقية، تُشير التقديرات إلى وجود مرتزقة فاغنر في 10 دول إفريقية، وإلى تباين درجة الانخراط من دولة لأخرى، حيث سُجِّلت أعلى مستويات التغلغل في كل من مدغشقر وإفريقيا الوسطى والسودان، أمّا أدناها فكان في ليبيا وجنوب إفريقيا وزيمبابوي وجنوب السودان، تليها كل من تشاد والكونغو الديمقراطية وزامبيا.
فاغنر تتوسع في إفريقيا
تدور تساؤلات حول المرتزقة الروس في إفريقيا وهيكلية مجموعة فاغنر بعد مزاعم اعتزامها عقد اتفاقية مع مالي. pic.twitter.com/Y7AI4tnGM7— المنارة للإعلام (@AlmanaraMedia) September 18, 2021
تعمل مجموعة فاغنر الروسية، وفق عقود تبرمها مع أنظمة الدول، على تدريب الجيوش المحلية وحماية الشخصيات المهمة ومحاربة المتمردين ومن تصنفهم الحكومات كمنظمات إرهابية، وكذلك حماية مناجم الذهب والماس واليورانيوم في النقاط الساخنة.
قلق فرنسي وأوروبي
تحركات الروس تحت غطاء مجموعة فاغنر ومساعيها لتوقيع اتفاق تعاون أمني مع حكومة باماكو، دفعت الدبلوماسية الفرنسية إلى دقّ نواقيس الخطر، حيث نقلت مجلة “جون أفريك” عن مصدر قريب من الأليزيه قوله: “إن حكومة باريس المنزعجة لهذه القضية، قامت بحملة في اتجاهات متعددة من أجل إفشال اتفاقية التعاون الأمني (…) حتى أنها طلبت من حلفائها الأميركيين ممارسة ضغوطهم على السلطات العسكرية الحاكمة في مالي لثنيهم عن الاتفاق المذكور”.
باريس التي أعلنت مؤخرًا قرارها بالبقاء في مالي على إثر زيارة وزيرة الدفاع فلورنس بارلي إلى باماكو، لم تخفِ قلقها البالغ إزاء الاتفاق مع مجموعة فاغنر، حيث أكّد وزير الخارجية جان إيف لودريان، أن وجود قوات فاغنر في مالي يتعارض مع الوجود الفرنسي في المنطقة، فيما أوضحت وزيرة الدفاع الفرنسية، أنّ “الوضع سيكون مقلقًا للغاية في حال وقّعت مالي اتفاقًا مع مجموعة فاغنر الروسية بشأن إرسال مرتزقة إلى أراضيها”.
بدوره، حذّرَ الاتحاد الأوروبي دولة مالي من التعاقد مع مرتزقة مجموعة فاغنر الأمنية الروسية، بسبب ضلوعها في صراعات وارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان، وقال مسؤول العلاقات الخارجية في التكتل، جوزيب بوريل، إن العلاقات بين بروكسل وباماكو قد تتأثر بشدة في حال وقّع المجلس العسكري الحاكم في مالي عقدًا مع المجموعة الروسية التي تقول تقارير إن لها صلات بالكرملين.
أعربت ألمانيا هي الأخرى في وقت سابق على لسان وزيرة دفاعها أنيغريت كرامب كارنباور، عن قلقها من احتمال تدخُّل روسيا بجهات عسكرية في مالي، محذِّرة من أن أي اتفاق بين المجلس العسكري الحاكم في مالي ومجموعة فاغنر الروسية سيساهم في “إعادة النظر” في تفويض الجيش الألماني في مالي.
يُثير الحراك الراهن والمتنامي في المجال الإفريقي تساؤلات مهمة بشأن المسارات المحتملة لخريطة التوازنات والنفوذ في المنطقة، حيث تعكس هذه الديناميكيات وجود ترتيبات جديدة في طور التشكيل ستسهم في إعادة هيكلة موازين القوى هناك.
لكنه من السابق لأوانه أن نتحدث عن تعويض روسيا للمكانة الفرنسية في مالي، على الرغم من إمكانية استفادة الأولى من الوضع القائم لتقوية موقعها، ففشل فاغنر في تغيير معادلات الصراع لصالح حلفائها في أكثر من منطقة، وخاصة في طرابلس، يدفع للقول بعجزها في إدارة نزاعات عسكرية كبرى على مستوى الدول، فضلًا عن محافظة باريس على أوراقها الأخرى (تجارة وثقافة) القادرة على قلب الطاولة.