في رد فعل مباشر للانخفاض الكبير الذي تشهده أسعار النفط في العالم، لجأت المملكة العربية السعودية إلى السحب من احتياطيها لدى مؤسسة النقد العربي “ساما” بما قيمته 50 مليار ريال (13.3 مليار دولار)، حيث يعد هذا هو السحب الأول من نوعه منذ 5 سنوات.
أسعار النفط العالمية هبطت إلى ما دون 77 دولارًا للبرميل الواحد، ويحذر مراقبون من تضرر كبير قد يصيب السعودية تحديدًا من ذلك، حيث تقدر السعودية سعر النفط فى موازنتها العامة بواقع 90 دولارًا للبرميل، ويعدّ هذا السعر مرتفعًا مقارنة بسعر الكويت الذي تقدره بـ 75 دولارًا وقطر التي تقدره بـ 65 دولارًا للبرميل.
ويتوقع مراقبون بأن تنخفض الفوائض النقدية للموازنة في السعودية إلى 2.5٪ فقط من إجمالي موازنة 2014؛ الأمر الذي قد يسبب عجزًا في موازنة 2015 إذا ما استمر انخفاض برميل النفط إلى ما دون 89 دولارًا للبرميل، وذلك حسب تقديرات صندوق النقد الدولي.
ويبدو أن آثار انخفاض أسعار النفط سوف تكون أكثر ضررًا من التفاؤل الذي يتعامل به المسؤولون السعوديون مع الأزمة، إذ يبلغ نصيب القطاع النفطي 47٪ من الناتج المحلي للدولة النفطية المصدرة الأولى في العالم؛ مما يعني أن اقتصاد المملكة سوف يتأثر بشكل كبير جدًا إذا ما استمر انخفاض الأسعار بهذه الوتيرة، أو على الأقل إذا ما استمرت الأسعار على هذا الثبات من الانخفاض.
ويبلغ الاحتياطي العام للسعودية من بعد سحب الـ 50 مليار الأخيرة، 801.83 مليار ريال سعودي، الأمر الذي يعوّل عليه المسؤولون السعوديون في تحمل انخفاض الأسعار أكثر من استعدادهم لتقليص الإنتاج فى ظل تناقص الطلب العالمي على النفط والمنافسة المشتعلة بين الدول المنتجة إضافة إلى سياسات حرق الأسعار.
وكان مركز “ستراتفور” الأمريكي للأبحاث قد نشر تقريرًا في أكتوبر الماضي يتوقع فيه استقرار الأسعار عند 90 دولارًا للبرميل، مقارنة للأسعار التي تجاوزت 120 دولارًا مع انطلاق الربيع العربي في 2011، إلا وأنه مع استمرار الهبوط اللامتوقع هذا انطلقت عواصف من التحليلات في محاولة لفهم هذا الانهيار الكبير في الأسعار، والذي ستضرر منه الدول عامة، لاسيما المنتجة والمصدرة الكبيرة منها للنفط.
وعلى الرغم من دقة قياس أرقام النفط والتطور في الاقتصاد الحديث، إلا أنه ليس هنالك تحليل دقيق لما يحدث من انخفاض للأسعار، البعض تحدث عن عودة معظم اقتصادات العالم لحالة من الركود، لاسيما الاقتصاديات الأوروبية الرئيسة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واقتصادات بعض من دول بريكس الرئيسية، مثل البرازيل؛ وهو ما ترك تأثيرًا ملموسًا على معدلات الطلب في السوق العالمية للطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الرئيسية في العالم وأكبر مستهلكي الطاقة، عادت من جديد لتصبح المنتج الأول للنفط، متفوقة بذلك على السعودية، بفعل التسهيلات التي وفرتها إدارة أوباما لإنتاج النفط في مناطق لم يكن مسموحًا لشركات النفط العمل فيها، وبفعل التطور الكبير في إنتاج النفط الصخري.
وجهة نظر أخرى تحدثت عن الأسباب المتعلقة بمصادر الطاقة البديلة والدائمة، مثل الطاقة الشمسية وقوة الرياح، التي باتت توفر ما يقارب من 20 بالمائة من حاجة ألمانيا للطاقة و10 بالمائة من حاجة الولايات المتحدة.
إضافة إلى ذلك كله، فإن العقوبات الغربية على إيران جرى تخفيفها بالفعل في الشهور القليلة الماضية، نتيجة للتقدم في المباحثات حول برنامج إيران النووي، كما أن ليبيا التي توقفت عن تصدير النفط بصورة ملموسة في العام الماضي، عادت مؤخرًا لتصدير ما يقارب 800 ألف برميل يوميًا، مما يعني أن سوق النفط يشهد فائضًا غير مسبوق ووفرة في الطلب، في الوقت الذي يواصل فيه السوق العالمي انخفاضًا في الاستهلاك النفطي.
إلا أن آخرين تحدثوا عن “مؤامرة” على شكل توافق عربي – أمريكي يفضي إلى إيقاع ضرر باقتصاديات إيران وروسيا، أشبه بتوافق الثمانيننيات الذي هبط بأسعار النفط إلى مستوى كاد يقوض اقتصاد الاتحاد السوفيتي وإيران، وساهم في النهاية في الإسراع بالانسحاب السوفيتي من أفغانستان وقبول طهران بوقف إطلاق النار في الحرب مع العراق.
وما شجع ترجيح الخيار الأخير من الأسباب، هو رفض السعودية القاطع لخفض الإنتاج مما يعني دليلاً واضحًا على سعيها لخفض الأسعار، الأمر الذي عوضته بسحب الـ 50 مليار ريال الاحتياطي، بينما تقول أصوات أخرى مدافعة عن هذا الخفض إنه سعي لتعزيز وضع أوبك الاستراتيجي، ذلك أن وصول السعر إلى مستوى معين سيؤدي إلى توقف قطاع كبير من إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة ودول أخرى، بعد أن تصبح تكلفة إنتاجه أعلى من السعر العالمي لنفط أوبك.
وفي منتصف أكتوبر الماضي، نشرت مديرة الطاقة والمناخ في مركز كارنيجي للأبحاث “ديبورا جوردون” عددًا من التغريدات على حسابها في تويتر، تحدثت فيها عن الأسباب “المنطقية” التي تدفع بالسعودية لدعم هبوط أسعار النفط، منها: “مساعدة اقتصاد الصين والاتحاد الأوروبي في استعادة العافية؛ وبهذا تكسب الرياض أصدقاءً جددًا وتعيد النشاط للطلب على النفط أيضًا”، وأضافت جوردون بأن السعودية تهدف كذلك إلى “التأثير سلبًا على روسيا، وهي المنافس الحقيقي للسعودية في مجال النفط، رغم الصعود الأمريكي الكبير”، إضافة إلى سعيها بـ “تذكير منظمة أوبيك بمن المسؤول! السعودية هي الأقوى في هذه المعادلة”، وختمت كلامها فقالت إن السبب الرابع يكمن في “إبطاء الصعود السريع للنفط الصخري في الولايات المتحدة، حيث إن هبوط أسعار النفط سيجعله منافسًا للنفط الصخري الذي قد يُعد رخيصًا مقارنة بأسعار النفط السابقة”.
وردّ “آندريو هولاند” أحد محللي الطاقة من واشنطن على ما كتبت جوردون فقال إن الأمر قد يكون “مؤامرة” بين الولايات المتحدة والسعودية للضغط على إيران.
جريدة “التايمز” البريطانية وافقت على ذلك، إذ كتبت في مطلع أكتوبر الماضي أن السعودية تريد خفض الأسعار حتى تجعل من استخراج النفط الصخري أمرًا غير مجدٍ اقتصاديًا؛ بما يدفع الأمريكيين في النهاية إلى العودة لاستيراد النفط من المملكة.
جريدة “فايننشال تايمز” البريطانية لم تر في الأمر مؤامرة، لكنها أرجعت الهبوط في أسعار النفط إلى السبب ذاته، وهو الطفرة التي تشهدها الولايات المتحدة في إنتاج النفط الصخري، وهو ما مكَّن الأمريكيين من الاعتماد على إنتاجهم المحلي بشكل أكبر والاستغناء عن النفط المستورد من الخارج؛ وهو ما أدى بالضرورة إلى تراجع الطلب العالمي على النفط، إذ إن الولايات المتحدة هي أكبر مستهلك للنفط في العالم.