عملت أذرع الاحتلال في السنوات الماضية على رفع حجم استهداف المسجد الأقصى، وشكّلت الأعياد والمناسبات اليهودية أبرز مواسم اقتحام المسجد والاعتداء على مكوّناته البشرية، وتشهد هذه المناسبات تظافر جهود أذرع الاحتلال المختلفة لتنظيم اقتحامات حاشدة وتنسيقًا بين الجهات الأمنية والسياسية يتصاعد سنويًّا، لتتحول الأعياد اليهودية إلى مواسم يفرض فيها الاحتلال سيطرته الكاملة على المسجد، في سياق محاولاته إلغاء دور دائرة الأوقاف الإسلامية.
ومع ازدياد حشد المستوطنين وزخم الاعتداءات، بدأت سلطات الاحتلال جعل الأولوية لمستوطنيها عندما تتزامن الأعياد اليهودية مع الأعياد الإسلامية، في محاولة لضرب المواسم الإسلامية وفرض أمر واقع يفيد أن الأولوية أصبحت لاقتحامات المستوطنين، وما يقومون به من طقوس يهودية تهدف إلى تجاوز التقسيم الزماني والمكاني، والمضي نحو تأسيس “المعبد” معنويًّا بشكل عملي، عبر أداء كل الصلوات التي تتصل بـ”المعبد” وتحمل طابعًا “تعبّديًّا يهوديًّا”، خلال اقتحامات الأقصى شبه اليومية، والمتصاعدة في الشكل والمضمون في الأعياد اليهودية التي تتطلب صلوات خاصة.
الأعياد اليهودية وتغيير وجه القدس وهويتها
إلى جانب فرض الوجود اليهودي داخل المسجد الأقصى، ومحاولة التأسيس المعنوي لـ”المعبد”، تحاول أذرع الاحتلال تحقيق 3 مظاهر أساسية خلال الأعياد اليهودية:
– المظهر الأول: تحويل المدينة المحتلة إلى مساحة جغرافية تعجّ بالمستوطنين القادمين من مختلف المستوطنات المحيطة بالمدينة، في سياق تغوُّل الوجود السكاني الاستيطاني ولو بشكلٍ مؤقت خلال هذه الأعياد، وأشارت مصادر مقدسية إلى أن الاحتلال يحوّل الأعياد اليهودية إلى مواسم لـ”الحجّ اليهودي”، في سياق تحقيق الغلبة اليهودية سالفة الذكر.
– المظهر الثاني: تهويد المظهر العام للمدينة المحتلة، بما يتناسب مع ما يتدفق على المدينة من مستوطنين إبّان الأعياد اليهودية، إذ تعمل سلطات الاحتلال على نشر أعلام الاحتلال، وتسهيل حركة المستوطنين، ونصب المزيد من الحواجز في أزقة البلدة القديمة لعرقلة حركة المصلين إلى الأقصى.
– المظهر الثالث: التدخُّل المباشر في الأقصى وفرض المزيد من التحكم على أبوابه، وتحويل الأعياد اليهودية إلى أبرز أدوات السيطرة على الأقصى، والسماح للمستوطنين بالبقاء في المسجد أطول مدة ممكنة، بالتزامن مع تصعيد هؤلاء أداء الصلوات والطقوس اليهودية التي تتعلق بـ”المعبد”، وتحويل الاقتحامات في الأعياد اليهودية إلى صورة مصغّرة من الرواية التوراتية لما يجري في “المعبد” من طقوس وحركات وأفعال وتراتيل بل قرابين.
الأعياد اليهودية.. مواسم اقتحامات حاشدة
استطاع الاحتلال في السنوات الماضية فرض الاقتحامات كثابت رئيسي في الاعتداء على المسجد، وتحويل الأعياد والمناسبات اليهودية إلى مواسم لاقتحام الأقصى، تتضمن ممارسة الطقوس اليهودية العلنية، وإلقاء شروحات عن المعبد على المقتحمين، إضافة إلى حشد أكبر أعداد من المستوطنين.
وتُظهر المحطات الآتية أبرز اقتحامات المسجد الأقصى بالتزامن مع الأعياد اليهودية في السنوات الماضية:
– في 13 مايو/ أيار 2018 بمناسبة “يوم توحيد القدس”، وهو ذكرى احتلال كامل القدس بالتقويم العبري؛ اقتحم الأقصى 1620 مستوطنًا.
– في 27 سبتمبر/ أيلول 2018 بمناسبة عيد “العُرْش أو سوكوت (المظال)”؛ اقتحم الأقصى 1135 مستوطنًا.
– في 2 يونيو/ حزيران 2019 بمناسبة “يوم توحيد القدس”؛ اقتحم الأقصى 1179 مستوطنًا.
– في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بمناسبة عيد “العُرْش أو سوكوت (المظال)”؛ اقتحم الأقصى 1167 مستوطنًا.
– في 30 يوليو/ تموز 2020 بمناسبة ذكرى “خراب المعبد”؛ اقتحم الأقصى 1100 مستوطن.
– في 1 أبريل/ نيسان 2021 بمناسبة “عيد الفصح اليهودي”؛ اقتحم الأقصى 927 مستوطنًا.
– في 18 يوليو/ تموز 2021 بمناسبة ذكرى “خراب المعبد”؛ اقتحم الأقصى 1520 مستوطنًا.
تُشير المحطات السابقة إلى أن الاحتلال عملَ على تحويل أي مناسبة يهودية إلى محطة تشهد اقتحامات حاشدة، وما يرافق هذه الاقتحامات من أداء الصلوات اليهودية، وتدنيس أجزاء متفرّقة من المسجد، والاعتداء المباشر على المكوِّن الإسلامي من حرّاس ومصلين ومرابطين.
محطات تأسيس “المعبد” معنويًّا
يشكّل أداء الطقوس اليهودية داخل المسجد الأقصى أبرز منجزات “منظمات المعبد”، خاصة في العامَين الماضيَين، فقد دفع فشل الاحتلال في تحقيق التقسيم الزماني والمكاني إلى تطبيق الطقوس المتعلقة بـ”المعبد”، وتحويل أدائها داخل المسجد الأقصى إلى أمر واقع، ليصبح قرينًا للاقتحامات شبه اليومية، وهي خطوة ستفتح الباب أمام المزيد من الاعتداءات، من حيث أوقات الاقتحامات أو الطقوس التي يمكن أن تتمَّ داخل المسجد.
ويمكن أن نسلّط الضوء على مدة “عيد العرش” ما بين 14 و20 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، بأنها واحدة من المحطات التي استطاعت فيها “منظمات المعبد” أداء طقوس توراتية علنًا، فقد كشف “مركز معلومات وادي حلوة” أن المئات من المستوطنين أدّوا صلواتهم وطقوسهم التوراتية في ساحات الأقصى، وخاصة بالقرب من باب الرحمة وفي منطقة باب القطانين، واستطاع أحد المستوطنين إدخال “قرابين نباتية/ ثمار العرش” إلى داخل المسجد، إضافةً إلى أدائه صلاة توراتية في منطقة باب الرحمة، وأدّت مجموعة أخرى من المستوطنين صلاة “شماي” في ساحات المسجد علنًا وبصوت مرتفع.
أما المحطة الثانية فكانت في 30 يوليو/ تموز 2020، اقتحمَ فيها الأقصى نحو 1100 مستوطن بالتزامن مع ذكرى “خراب المبعد”، وشهد المسجد أداء مجموعة من المتطرفين ما يُسمّى “السجود الملحمي” الكامل، وأشارت معلومات مقدسية إلى أن المتطرفين الذين أدّوا “السجود” ينتمون إلى حركة “العودة إلى جبل المعبد”، وخلال الاقتحام قدّمت مجموعات من المستوطنين شروحات تلمودية عن “المعبد”.
وكانت المحطة الثالثة في تطبيق الطقوس اليهودية علنيًّا، حيث نشر أعضاء في “منظمات المعبد” في 4 أبريل/ نيسان 2021 تضمّنت مقاطع مصوَّرة، تُظهر أداءهم صلوات جماعية علنية في محيط المسجد الأقصى بمشاركة حاخامات، وعلق أحد ناشطي “المعبد” بقوله: “لم يعد أحد يعترض، لا الشرطة ولا الأوقاف”، في إشارة إلى حماية شرطة الاحتلال للمستوطنين عند أدائهم الصلوات اليهودية، وعدم قدرة الأوقاف على مواجهة هذه الاعتداءات.
ولم تكتفِ “منظمات المعبد” بما حقّقته فقط، بل أعلنت صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي في 2 أبريل/ نيسان 2021 أن “صلاة اليهود في الأقصى أصبحت مسموحة”، في محاولة لتحقيق مكاسب على أرض الواقع، ودعوة المزيد من المستوطنين إلى المشاركة في هذه الصلوات العلنية.
هذا التمادي من قبل أذرع الاحتلال ومحاولاتها فرض الطقوس اليهودية داخل المسجد الأقصى، ومحاولاتها تطبيق “العبادات المتعلِّقة بالمعبد” في أوقات الاقتحامات الحالية، تستدعي وقفة جادة لا تقلّ عن الوقفة التي جرت في وجه اقتحام الأقصى في 10 مايو/ أيار 2021، التي أدّت إلى اشتعال الهبّة الفلسطينية الشاملة ومعركة “سيف القدس”.
أما المحطة الرابعة، وهي الأخطر، فهي اقتحامات الأقصى بالتزامن مع “عيد الغفران”، وقد مهّدت لها المنظمات المتطرِّفة بإعلان الشراكة مع شرطة الاحتلال حول أداء الصلوات اليهودية العلنية، وأداء عنصر في شرطة الاحتلال برفقة أحد أعضاء المنظمات المتطرفة صلوات يهودية داخل مركز الشرطة، ومن ثم دعوة المنظمات المتطرفة تكريس ساحات المسجد الأقصى لتدريس التوراة، ثم عملت على تنفيذ الطقوس التوراتية.
وفي 16 سبتمبر/ أيلول 2021 شهدَ الأقصى أداء الحاخام إلياهو ويبر، رئيس مدرسة “جبل المعبد”، طقوس “خدمة التابوت” التوراتية داخل الأقصى، وهي أهم الطقوس اليهودية لا تؤدّى إلا في “يوم الغفران”، وكشفت مقاطع مصوَّرة سجّلها حرّاس الأقصى أن المستوطنين أدّوا الطقوس مرتدين “ملابس التوبة البيضاء”، ولم ينقصهم سوى تقديم القربان الحي، وجرت هذه الطقوس أثناء اقتحامهم المنطقة الواقعة شمال صحن مصلى الصخرة.
وفي اليوم نفسه تعمّد مستوطنون متطرفون أداء صلوات جماعية بصوت مرتفع، وتضمّنت الصلوات النفخ بالبوق في وقت صلاة المغرب في الكنيس المقام في الطبقة الثانية من المدرسة التنكزية المطلة على ساحات المسجد الأقصى، وبحسب متخصصين في الشأن المقدسي، تتعمّد “منظمات المعبد” أداء الصلوات اليهودية داخل الأقصى وقربه، في سياق فرضها لأمر واقع في مختلف أوقات اليوم والليل.
في الختام، هذا التمادي من قبل أذرع الاحتلال ومحاولاتها فرض الطقوس اليهودية داخل المسجد الأقصى، ومحاولاتها تطبيق “العبادات المتعلقة بالمعبد” في أوقات الاقتحامات الحالية، تستدعي وقفة جادة لا تقلّ عن الوقفة التي جرت في وجه اقتحام الأقصى في 10 مايو/ أيار 2021، التي أدّت إلى اشتعال الهبّة الفلسطينية الشاملة ومعركة “سيف القدس”.
إذًا، نموذج المواجهة وتدفيع الاحتلال الثمن ماثل أمامنا، وهو نموذج استطاع ردع الاحتلال وأوقف اقتحامات الأقصى مدة من الزمن، وهو النموذج الذي يجب إعادة استحضاره حاليًّا لوقف تمادي أذرع الاحتلال في تطبيق الطقوس اليهودية، وقطع استباحتها للمسجد الأقصى، فشهية الاحتلال لتحقيق المزيد من المكاسب لا يمكن التنبّؤ بها، فما يمكن وصفه اليوم بأنه مفاجئ وتقوم به أذرع الاحتلال لـ”المرة الأولى” سيتحول غدًا إلى سياسة دائمة، وإحدى ركائز اقتحامات الأقصى إن لم يكن السيطرة عليه لا قدّر الله.