تنتشر في بعض المجتمعات العربية والدول المحيطة ظاهرة زواج البدل أو ما يطلق عليه بالعامية “واحدة بواحدة”، وهو الزواج القائم على تبادل الزوجات بين عائلتين من دون تكاليف مادية، يرى كثيرون أنه إهانة للمرأة ويتعامل معها كـ”سلعة تجارية” يمكن مقايضتها بسلعة أخرى دون الرجوع إليها، وهي ظاهرة خطيرة تقود في كثير من الحالات إلى العنف والقتل والانتحار.
زواج البدل أو “نكاح الشغار” بدأ عند العرب قديمًا في الجاهلية، وهو من الزيجات المنهيّ عنها في الإسلام، وقد روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ”، وروي الشيخان عن نافع عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الشغار، فقيل لنافع: ما الشغار؟ قال: “ينكح ابنة الرجل وينكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل وينكحه أخته بغير صداق”.
تقوم فكرة زواج البدل على مبدأ التبادل، فيزوِّج الأب ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، أو يزوِّجه أخته على أن يزوجه الآخر أخته، بحيث يسقط حق المرأتين بالمهر أو بالموافقة التامة على الزواج.
وتقرر بعض المذاهب الفقهية بطلان العقد أصلًا وفساد الزواج، فيما ترى مذاهب أخرى أنه يثبت لكل واحدة من المرأتين مهر مثيلاتها، أي متوسط المهر في منطقتها وبيئتها، وتحاول بعض العائلات التي تريد زواج المقايضة هذا، أن تحتال على فتاوى بطلان الزواج فتعقد عقدًا لكل زيجة بمهر منفصل، فيصح العقد شرعًا، لكن تبقى كل السلبيات الأخرى قائمة.
فإذا تم هذا الزواج بالقبول بين الطرفين، فإن مستقبل نجاح إحدى الزيجتين يظل مرهونًا بنجاح الأخرى، دون أي اعتبار أو النظر إلى عواقب الانفصال والطلاق بين الزوجين وتشتت الأبناء وتدمير العلاقات الاجتماعية بين العائلتين، وما قد يتطور إليه الأمر من عنف وضرب وصولًا للقتل والانتحار.
ورغم تراجع هذه الظاهرة كثيرًا، فإنها ما زالت تنتشر في بعض المجتمعات لا سيما المناطق النائية والفقيرة، وتظهر في كثير من مجتمعات الدول العربية ودول المحيط ومنها تركيا وصولًا إلى انتقال هذه الظاهرة مع ملايين اللاجئين الذين انتقلوا للعيش في أوروبا وتركوا بلدانهم بسبب الحروب التي انتشرت مؤخرًا فيها.
أسباب القبول والرفض
بشكل عام، يلقى زواج البدل رفضًا واسعًا في المجتمعات كافة، لأسباب مختلفة منها اعتبار كثيرين له أنه حرام شرعًا وغير جائز في الإسلام، وأنه يمتهن كرامة المرأة، ولأسباب التباعد في التناسب لتفادي الأمراض الوراثية والمشاكل الأسرية والعنف والإجبار والخشية من ضياع الحقوق.
يرى مؤيدون لهذا النوع من الزواج أنه يعبر عن تماسك العلاقات الاجتماعية ودليل على تقارب العائلات أو العشائر والتخفيف من الأعباء الاقتصادية للحياة
وإلى جانب الأسباب السابقة، فإن حالة الوعي الواسعة التي عمت المجتمعات وتعليم الفتيات، جعلتا من الصعوبة إقناع الفتاة بالقبول بزواج من هذا النوع يجعل منها سلعة تجارية ويحرمها من معظم حقوقها ويجعل زواجها رهينةً لنجاح زواج آخر، ولا شك أن ارتفاع حالات العنف ضد الفتيات هو نتيجة زيادة الوعي وحالة الرفض من قبلهن لهذا الزواج في بعض المجتمعات التي ما زالت تحاول فرضه.
في المقابل، يرى المؤيدون لهذا النوع من الزواج أنه يعبِّر عن تماسك العلاقات الاجتماعية ودليل على تقارب العائلات أو العشائر والتخفيف من الأعباء الاقتصادية للحياة ومساعدة العائلات الفقيرة على تزويج بناتها وأبنائها من خلال تبادل الزوجات من العائلتين من دون تكاليف باهظة.
عنف متزايد
تشير الإحصاءات الرسمية والحقوقية إلى الارتفاع المتواصل في ضحايا العنف المنزلي للزوجات من الأزواج في العالم العربي بشكل عام، وتُظهر الكثير من الإحصاءات أرقام جرائم قتل النساء، لكن من الصعب الحصول على إحصاءات دقيقة عن الأسباب التفصيلية المباشرة لجرائم قتل العنف وقتل النساء، ومنها زواج البدل الذي يُعتقد أنه أحد الأسباب التي تولِّد العنف الزوجي وصولًا للقتل.
ورغم عدم وجود هذه الإحصاءات الدقيقة، فإننا بين الفترة والأخرى نسمع قصة تفصيلية عن العنف والجرائم التي تقع على خلفية زواج البدل، حيث العنف الشديد أو القتل أو الطلاق القسري بين زوجين يعيشان بسعادة نتيجة فشل الشق الثاني من زواج البدل وغيرها من القصص الصعبة.
مؤخرًا، انتشرت على نطاق واسع قصة مقتل فتاة سورية صغيرة على يد والدها في منزل عائلتها المهاجرة من سوريا بولاية أورفا جنوب تركيا، وفي التفاصيل أن أبًا سوريًا أقدم على قتل ابنته المراهقة حرقًا نتيجة رفضها زواج البدل من صديقه، وذلك بعدما تعرضت لعنف جسدي شديد جدًا.
ومنذ أسابيع فقط، انتشرت في قطاع غزة المحاصر تفاصيل قصة مقتل الفتاة “أ. ب” (18 عامًا)، فقد توفيت الفتاة الحامل بالشهر الثاني بعدما تعرضت لضرب مبرح جدًا على يد زوجها، أدى إلى تهتُّك أكثر من 70% من أعضائها الداخلية، وذلك بعدما وقفت بقوة أمام مخطط تزويج شقيقتها لشقيق زوجها خشية تعرضها لنفس العنف والاضطهاد الذي تعرضت له، وبعدها تم إبلاغ والدي الفتاة بنقل ابنتهما للمستشفى، فعثرا عليها في ثلاجات الموتى وعليها آثار ضرب وكسور شديدة.
ظلم قد يؤدي إلى الانتحار
لا يبدو أن هذه الظاهرة السلبية محصورة في بعض المجتمعات العربية، وإنما توجد في بعض المجتمعات الصغيرة جنوب وشرق تركيا، وحاول فيلم “بيرديل” تجسيد الظاهرة بقصة مؤلمة جدًّا.
تبدأ قصة الفيلم حين أحبَّ شاب فقير فتاةً ولم يجد نفقات المهر للتقدم إليها، فقام بالاتفاق مع عائلته وعائلة تلك الفتاة بتزويجه الفتاة مقابل تزويج أخته لأخ تلك الفتاة التي تعيش مع أخيها وأختها وأبيها.
ناقش الفيلم ظلم الأب وتحيزه لابنه الشاب عندما رفضت أخته زواج البدل، لكنه أجبرها على الزواج بحجة أنه ابنه الوحيد ويريد حفيدًا يحمل اسم العائلة، ويبين الفيلم الآثار المترتبة على زواج البدل التي بدأت بمعاناة الفتاة مع حماتها وصعوبة الانسجام ومعاملتها كخادمة، ومن ثم تجهض طفلها بسبب الضرب المبرح والمستمر من زوجها.
من ناحية أخرى تحاول الفتاة اللجوء لبيت أبيها والاحتماء به، لكن والدها وشقيقها لا يقبلانها حتى لا يخسرا زواج أخيها وزوجته الحامل أيضًا، وفي كل مرة يعيدونها لبيت زوجها، وفي يوم من الأيام استيقظت العائلتان على خبر انتحار الفتاة المجبرة على الزواج، ورغم ما حصل تستمر حماتها في إثارة الفوضى بسبب موتها وخسارة كنتها دون مقابل زواج البدل، وتضع عائلة الضحية أمام خيارين: إما دفع بدل مادي لانتحار ابنتهم وإما تزويج أخت الضحية القاصر لزوج أختها، وهو ما رفضته العائلة لتستمر الأحداث المأساوية حتى آخر الفيلم.
انتهاك للحقوق كافة
يفتح زواج البدل، الذي يُعتبر بحد ذاته انتهاكًا لحقوق المرأة التي أقرها الدين والقانون واللوائح الحقوقية، الباب واسعًا أمام حزمة كبيرة جدًا من الانتهاكات التي تولد العنف وانعدام الخيارات أمام الفتيات ودفعهن نحو الانتحار، وهو ما يدفع الكثيرين للتحذير من خطورة الظاهرة والمطالبة بضرورة تجريم هذا النوع من الزواج.
فمن حيث المبدأ، يحرم هذا الشكل من الزواج الفتاة الحق في الاختيار والقبول، وهو حق كفله الدين والشرع والقانون والأعراف كافة، إذ يفرض على الفتاة الزواج وغالبًا بسنٍ صغيرة لتكون مجرد أداة لتلبية رغبة أشخاص آخرين سواء شقيقها أم والدها، ويتخلل ذلك عامل الإجبار تحت التهديد في كثير من الأحيان.
يرتبط زواج البدل في كثير من الأحيان بتزويج الفتيات تحت السن القانونية، ما يعني الحرمان من التعليم واصطدام الفتاة بالأعباء الثقيلة والمسؤوليات الكبيرة التي تفوق عمرها، ما ينتج عنها مشكلات صحية واجتماعية وآثار نفسية
كما يحرم زواج البدل الحقوق التي كفلها الدين والمجتمع للعروس من حيث حقوق المهر الذي يهدف إلى حماية حقوقها المالية، ويجعل (زواج البدل) من سعادة الفتاة ونجاح زواجها رهينة لنجاح واستمرار الزواج الثاني، فالزواج في البداية بُنيَ على “البدل” و”المقايضة”، وفي كثير من الأحوال تتعرض الفتاة للعنف أو الطلاق أو الكثير من الإجراءات الصعبة كرد على ما جرى في الزواج الآخر.
كما أن زواج البدل ارتبط في كثير من الأحيان بتزويج الفتيات تحت السن القانونية، ما يعني الحرمان من التعليم واصطدام الفتاة بالأعباء الثقيلة والمسؤوليات الكبيرة التي تفوق عمرها، الأمر الذي ينتج عنه مشكلات صحية واجتماعية وآثار نفسية قد لا تستطيع البوح بها خوفًا من الطلاق.
عنف متصاعد
تشير أحدث البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، أن امرأة واحدة من كل 3 نساء، أي قرابة 736 مليون امرأة، تتعرض في أثناء حياتها للعنف البدني أو الجنسي من الزوج أو للعنف الجنسي من غير الزوج، وهو عدد لم يتغير تقريبًا طوال العقد الماضي.
وتبين المنظمة أن العنف ضد النساء آفة متجذِّرة في كل الثقافات والبلدان، ازدادت في السنتين الأخيرتَين بسبب جائحة كورونا وإجبار الملايين على المكوث في منازلهم، ما زاد من حدة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية معًا.
وعادة ما يبدأ هذا العنف مبكرًا، فتكون واحدة من كل 4 نساء شابات (تتراوح أعمارهن بين 15 و24 عامًا) ممن ارتبطن بعلاقة، قد تعرضن لعنف الشركاء ببلوغهن منتصف العشرينيات من عمرهن.
بالمحصلة.. يجب وضع حد للانتهاكات المتصاعدة ضد النساء حول العالم خاصة في المجتمعات العربية، عبر سن قوانين صارمة تجرم العنف وتغلظ العقوبة ضد المعتدين، إلى جانب حظر زواج البدل وغيره من أشكال الزواج القسري التي تحرم الفتيات في سن صغيرة من التعليم والحق في اختيار الزوج والكثير من الحقوق الأخرى.