لطالما كانت إثيوبيا أبرز الحلفاء التاريخيين في إفريقيا للولايات المتحدة لسنوات طويلة، حيث لم تشهد علاقات البلدَين توترًا يُذكر إلا في فترة العقيد الشيوعي منغستو هايلي مريام، الذي اختار التحالف مع الاتحاد السوفيتي، ولكن سرعان ما عادت إثيوبيا إلى تحالفها مع الولايات المتحدة بعد استيلاء جبهة تحرير تيغراي بقيادة رئيس الوزراء الأسبق مليس زناوي على السلطة عام 1991، عندها أصبحت إثيوبيا وكيلًا للمصالح الغربية وشريكًا قويًّا للولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب في إفريقيا عمومًا ومنطقة القرن الإفريقي خصوصًا.
لكنّ العلاقة بين الحليفَين التاريخيَّين تضعضعت مؤخرًا، حتى وصلت إلى إصدار الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل أيام أمر لتنفيذ عقوبات على إثيوبيا بسبب الصراع المتفاقم في إقليم تيغراي ومنه امتدّ إلى إقليمَين مجاورَين، إذ ذكرَ بيان الرئيس بايدن أن هذه الأزمة تهدِّد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، كما تهدِّد السلام والأمن والاستقرار في إثيوبيا ومنطقة القرن الإفريقي الكبرى.
سنناقش في هذا التقرير كيف تدهورت العلاقات بين البلدَين إلى هذه الدرجة من التوتر غير المسبوق، إلى جانب خيارات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للتعامل مع العقوبات الأمريكية -التي بدأت فعليًّاـ في ظل التعنُّت الذي أبداه رفضًا لقرار الرئيس بايدن، بل ردّ عليه ببيان مطوّل يشبه خطابات النشطاء السياسيين.
خطأ الانزلاق إلى الصراع
أشرنا في تقرير سابق بـ”نون بوست” بعد يومَين من اندلاع الصراع، إلى أن القرار الذي اتّخذه آبي أحمد بشنِّ الحرب كان أخطر قرار اتخذه على الإطلاق، إذ كان رئيس الوزراء الإثيوبي يتصور أنه يستطيع حسم المعركة والقضاء على جبهة تحرير تيغراي نهائيًّا خلال أيام معدودة، بعد أن تحالفَ مع رئيس النظام الإريتري إسياس أفورقي الذي يُعتقد أنه العقل المدبِّر لهذه الحرب، نظرًا إلى حالة العداء التاريخي بينه وبين قادة الجبهة.
بالفعل كان الجيشان الإثيوبي والإريتري يطوِّقان إقليم تيغراي من كل الاتجاهات قبل الهجوم الاستباقي الذي شنّته قوات تيغراي على القيادة الشمالية، والذي استغلّه آبي لتمرير قرار الحرب بحجّة أنه يتصدى لـ”مجرمين غدروا بالجيش”.
بالتأكيد هجوم جبهة تحرير تيغراي على قيادة الجيش كان تصرفًا خاطئًا، لكنّ آبي أحمد فعل ما هو أسوأ عندما دعا الجيش الإريتري لشنِّ هجوم على إقليم داخل دولته، كما ارتكب الجيشان مجازر وانتهاكات واسعة ضد المدنيين، خَلَصَ تقييم عدد من المنظمات الحقوقية إلى أنها انتهاكات ممنهَجة شملت استخدام الاغتصاب كسلاح حرب.
الانتصارات المفاجئة التي أحرزتها قوات تيغراي وعودة قادة الجبهة إلى مقلي، عقّدت حسابات رئيس الوزراء الإثيوبي
أفرزت هذه الانتهاكات غضبًا واسعًا لدى سكان الإقليم، جعل الآلاف من المدنيين ينضمّون إلى المقاومة ضد الجيشَين الإثيوبي والإريتري إضافة إلى الميليشيات العرقية المتحالفة معهما، حيث استحدث التحالف الجديد المسمّى بقوات دفاع تيغراي (TDF) بقيادة صادكان جبريتنساي، الجنرال السابق في الجيش الإثيوبي الذي اختلف مع رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي، وابتعد عن جبهة تحرير تيغراي منذ زمن طويل.
وفق تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن حرب العصابات التي قادتها قوات تيغراي خلال الـ 7 أشهر الماضية أنهكت الجيش الإثيوبي والقوات المتحالفة معه، حتى جاء يونيو/ حزيران الماضي، الشهر الذي قلبت فيه قوات تيغراي الموازين، عندما شنّت عملية مُعاكسة بشكل مفاجئ نجحت خلالها في السيطرة على مقلي عاصمة الإقليم، ومعظم الأراضي التي خسرتها في نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي.
الانتصارات المفاجئة التي أحرزتها قوات تيغراي وعودة قادة الجبهة إلى مقلي، عقّدت حسابات رئيس الوزراء الإثيوبي، فأعلن في البداية عن وقف لإطلاق النار ثم ما لبث أن ألغاه حينما رفضته جبهة تحرير تيغراي، معلنةً عن شروط لإيقاف إطلاق النار منها انسحاب الجيش الإثيوبي وميليشيات أمهرة من منطقة غرب تيغراي، إلى جانب فكّ الحصار عن الإقليم والتحقيق في جرائم الحرب التي تمَّ ارتكابها.
سلاح الجوع والحصار
بعد الهزيمة التي تعرّض لها الجيش الإثيوبي وانسحاب القوات الإريترية من أغلب أنحاء الإقليم، استخدمت الحكومة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد سلاح الجوع والحصار الخانق ضد مواطني الإقليم، إذ فرضت قيودًا مشدَّدة على دخول المساعدات الإنسانية، وقامت سلطات أديس أبابا بقطع الاتصالات عن كل الإقليم منذ اليوم الثاني لدخول قوات تيغراي العاصمة مقلي.
أدى منع دخول المساعدات إلى موت عدد غير محدَّد من مواطني الإقليم، فقد ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” أنه في أحد المراكز الصحية الأسبوع الماضي، توفيت أمّ وطفلها حديث الولادة بسبب الجوع، وأكدت الوكالة الأمريكية في تقريرها تفشي المجاعة في تيغراي نتيجة الحصار الذي تفرضه القوات التابعة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
وقال مدير سابق لإحدى المستشفيات الرائدة في تيغراي، هايلوم كيبيدي، في تصريحات للوكالة، أنه أبلغ السلطات الإثيوبية أن الحصار سيؤدي إلى قتل الناس هنا في تيغراي، ليجيبوه بأنهم سينظرون في الأمر”، وأضاف: “لم يعد بإمكاني فعل شيء، أنا فقط أبكي”.
وإلى جانب المجاعة التي تفشّت في تيغراي، تتّهم الحكومة الإثيوبية قوات تيغراي بأنها تسبّبت هي الأخرى في مجاعة بالمناطق التي سيطرت عليها في إقليم أمهرة خاصة مناطق وولو، لكنّ المتحدث الرسمي باسم جبهة تحرير تيغراي يتّهم الحكومة الإثيوبية بأنها تتسبّب في منع دخول المساعدات.
تدرُّج في تطبيق العقوبات الأمريكية
بمجرد أن وصل الرئيس بايدن إلى السلطة انتهجت إدارته نهجًا مغايرًا عن نهج سلفه ترامب من الأزمة الإثيوبية، حيث لم تبذل إدارة ترامب أي جهد لإيقاف الصراع، بل كانت مواقف الإدارة في عهده شبه متطابقة مع وجهة نظر حكومة آبي أحمد، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي أدانت وزارة الخارجية الأمريكية الهجمات الصاروخية التي شنّتها جبهة تحرير تيغراي على العاصمة الإريترية أسمرة.
اللافت أن مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية آنذاك، تيبور ناجي، غرّد عبر تويتر قائلًا: “تدين الولايات المتحدة بشدة الهجمات غير المبررة من جانب الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على إريتريا يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني، ومساعيها (أي الجبهة) لتدويل النزاع في تيغراي”، ما يعكس تناغمًا تامًّا بين الخارجية الأمريكية آنذاك وموقف حكومة آبي التي كانت تنكر مشاركة القوات الإريترية في الحرب.
لكنّ تعامل إدارة بايدن جاء مختلفًا، إذ حثّت منذ البداية على وقف إطلاق النار ودعت إلى حلٍّ سلمي للأزمة، وهو ما رفضه آبي أحمد جملةً وتفصيلًا، عندها بدأت لهجة الولايات المتحدة في التغيُّر فقامت بربط الإفراج عن المساعدات التي حجبها الرئيس السابق ترامب عن إثيوبيا بسبب تعنُّتها في ملف سد النهضة، فربطتها الإدارة الجديدة بالتحسُّن في الوضع الإنساني بإقليم تيغراي.
وكجزء من جهوده لحلِّ الصراع، بعث الرئيس الأمريكي جو بايدن في مارس/ آذار الماضي السيناتور الديمقراطي كريس كونز لإيصال رسالة شخصية إلى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ويعتبر كونز من المقرّبين لإدارة بايدن، وهو عضو في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ.
إثر هذه الزيارة، طرأ تحول على الموقف العلني لأديس أبابا من مشاركة القوات الإريترية في الحرب، إذ اعترف آبي علنًا، ولأول مرة، بالدور الإريتري فيها، وقام برحلة خاصة بعدها إلى أسمرة في 26 مارس/ آذار 2021، معلنًا أن القوات الإريترية ستنسحب فورًا، وكررت الولايات المتحدة وجهات حقوقية دولية دعوتها الإريتريين إلى الانسحاب من الإقليم.
هذه العقوبات لم تؤثرعلى موقف أديس أبابا من الصراع إلا بقدرٍ ضئيلٍ، فقد استمرَّ الحصار المطبق على الإقليم
لاحقًا، قام وزير الخارجية الأمريكي بتعيين السفير السابق جيفري فيلتمان مبعوثًا خاصًّا إلى منقطة القرن الإفريقي، وأشار بيان تعيينه إلى الأزمات التي تعاني منها منطقة القرن الإفريقي، خاصة الوضع المتقلِّب في إثيوبيا، بسبب الصراع في إقليم تيغراي، وتصاعُد التوترات بين إثيوبيا والسودان، والنزاع حول سد النهضة الإثيوبي.
المبعوث الأمريكي سافر إلى إثيوبيا عدة مرات دون أن يحدث أي تغيير في الموقف الإثيوبي من الصراع، ونتيجة لذلك فرضت الولايات المتحدة على إثيوبيا وإريتريا في مايو/ أيار الماضي قيودًا وعقوبات اقتصادية، أظهرت مدى استياء واشنطن من تعامُل أديس أبابا مع ملف تيغراي، إلا أنه من اللافت أن إدارة بايدن لم توجِّه أصابع الاتهام بشكل مباشر إلى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بدلًا من ذلك اكتفت بفرض قيود على المساعدات والتعاون الاقتصادي والأمني مع إثيوبيا، وشملت القيود فرض حظر على التأشيرات لمسؤولين إثيوبيين حاليين وسابقين، وشمل القرار أيضًا مسؤولين في الحكومة الإريترية على صلة بالأزمة في تيغراي.
لكن هذه العقوبات -التي تعدّ تطورًا غير مسبوق في علاقات البلدَين- لم تؤثرعلى موقف أديس أبابا من الصراع إلا بقدرٍ ضئيلٍ، فقد استمرَّ الحصار المطبق على الإقليم، بما في ذلك منع دخول المساعدات والوقود والدواء، وهذا ما دفع كبار الأعضاء في الكونغرس بغرفتيه (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) إلى تكثيف الضغط والانتقادات بحق الإدارة الأمريكية، لحملها على اتخاذ خطوات أقوى من أجل حلّ الصراع ومحاسبة المتورِّطين في انتهاكات حقوق الإنسان.
قبل الشروع في العقوبات، رأت الإدارة الأمريكية منح إثيوبيا فرصة أخيرة، حيث أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، الشهر الماضي، أن الرئيس جو بايدن دعا المبعوث الخاص للقرن الإفريقي فيلتمان إلى العودة إلى إثيوبيا في “مرحلة حرجة”.
وأعرب سوليفان عن أسفه على تويتر لأن “شهورًا من الحرب قد تسببت في معاناة وانقسام هائلَين في أمة عظيمة”، معتبرًا أن ذلك “لن يُعالَج من خلال مزيد من القتال”، داعيًا جميع الأطراف إلى المجيء “بشكل عاجل” إلى طاولة المفاوضات. وكالعادة لم تتجاوب حكومة آبي أحمد مع زيارة المبعوث الأمريكي.
حتى قبل المبعوث فيلتمان، قامت مديرة الوكالة الأميركية لمساعدات التنمية، سامانثا باور، بزيارة إلى أديس أبابا مطلع أغسطس/ آب، لكن آبي أحمد تهرّب من مقابلتها، إذ أبدت انزعاجها قبل الزيارة من أزمة المساعدات الإنسانية الحاصلة.
أمر تنفيذي بفرض عقوبات قاسية على الحليف القديم
بعد أن فشلت كل الجهود للضغط على آبي أحمد من أجل إيجاد حل سلمي للنزاع، لم يجد الرئيس الأمريكي مناصًا من الخيار الذي كان يسعى لتجنبه، وهو فرض المزيد من العقوبات على إثيوبيا.
فقد وقّع الأسبوع الماضي على أمر تنفيذي يؤسِّس لنظام عقوبات جديد، أذنَ بموجبه لوزارة الخزانة الأمريكية بالعمل مع وزارة الخارجية الأمريكية، لمحاسبة المسؤولين في الحكومة الإثيوبية والحكومة الإريترية وجبهة تحرير تيغراي وحكومة أمهرة الإقليمية، المسؤولة عن إطالة أمد النزاع أو متواطئة فيه أو عرقلة وصول المساعدات الإنسانية أو منع وقف إطلاق النار، مؤكدًا أن “وزارة الخزانة على استعداد لاتخاذ إجراءات بموجب هذا الأمر التنفيذي لفرض عقوبات تستهدف المسؤولين عن الأزمة المستمرة”.
بعد رفض آبي أحمد لقرار الرئيس بايدن، على عكس موقف جبهة تيغراي التي رحّبت به، من المتوقع أن يتّخذ وزير الخزانة الأمريكية إجراءات بحق مسؤولين إثيوبيين في الفترة القادمة قد تشمل حظر جميع الممتلكات للأشخاص/ الكيانات الخاضعين للعقوبات، داخل الولايات المتحدة، أو التي تقع في حيازة أو سيطرة أي شخص أمريكي.
كما سيتم حظر أي مؤسسة مالية أمريكية من تقديم قروض أو تقديم ائتمان للشخص/ الكيان الخاضع للعقوبات، وقد تشمل هذه الإجراءات مؤسسات إثيوبية كبيرة من البنك المركزي والخطوط الجوية الإثيوبية، التي وُجِّهت إليها اتهامات بالتورط في الصراع بنقلها للجنود والسلاح إلى مناطق الحرب.
وإلى جانب ذلك، قد يتم فرض أي من العقوبات الموصوفة على القادة العسكريين أو المسؤولين التنفيذيين الكبار، أو على الأشخاص الذين يؤدون وظائف مماثلة ولديهم سلطات مماثلة مثل القائد أو المسؤول أو المسؤول التنفيذي الأول أو المدير.
وقد بدأت الإدارة الأمريكية بالفعل أولى عقوباتها على أديس أبابا، حيث أعلنَ مكتب الشؤون السياسية والعسكرية في وزارة الخارجية الأمريكية قبل يومَين عن قيود على المساعدات الأمنية التي كانت تقدَّم للحكومة الإثيوبية، كما أعلن المكتب عن استمرار الحظر المفروض على إريتريا.
تأثير العقوبات على إثيوبيا
بطبيعة الحال لن تتأثر إريتريا كثيرًا بهذه العقوبات، إذ إنها تعيش في عزلة خارجية تامة بفضل سياسة حاكمها منذ الاستقلال الديكتاتور إسياس أفورقي، أما إثيوبيا تعتمدُ بصورة كبيرة على الدعم الأمريكي والغربي الذي يشكّل نحو 45% من موازنتها السنوية، حيث تستورد سنويًّا بضائع بقيمة 14 مليار دولار، بينما تصدِّر بضائع بقيمة 3.4 مليار دولار فقط.
وبسبب الحرب في تيغراي وما يجاورها، يُتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي الإجمالي لإثيوبيا لهذا العام بشكل كبير من 6% عام 2020 إلى 2% فقط عام 2021، وهو أدنى مستوى منذ ما يقارب العقدَين، إذ كان الاقتصاد الإثيوبي قبل جائحة فيروس كورونا والحرب واحدًا من أسرع الاقتصادات نموًّا في المنطقة، حيث سجّل نموًّا بمعدل 10% سنويًّا في العقد حتى عام 2019، وفقًا للبنك الدولي.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد صرّح الأسبوع الماضي لـ”الجزيرة الإنجليزية” أن الصراع “استنزف ما يزيد على مليار دولار من خزينة البلاد”، كما أدّت الحرب إلى تضخُّم هائل في أسعار المواد الغذائية بفعل استنزاف احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، وخير دليل على ذلك هبوط سعر العملة الوطنية إلى 45.9 بيرًا إثيوبيًّا للدولار مقابل 35 بيرًا العام الماضي، هذا بالنسبة إلى السعر الرسمي في البنوك الذي لا يمكن للجمهور الحصول عليه، بينما يتراوح سعر الصرف في السوق السوداء بين 67 و68 بيرًا.
أما العقوبات الأمريكية الجديدة فتعني عمليًّا زيادة الأعباء على الموارد المالية لإثيوبيا التي تكافح للتعامل مع نفقات الحرب وتأثيرات جائحة كورونا، ما سيجبر رئيس الوزراء آبي أحمد على إعادة هيكلة الديون وهو ما شرعت فيه إدارته فعليًّا، خاصة أن إثيوبيا تعدّ أكبر مُتَلقٍّ للمساعدات الخارجية الأمريكية في إفريقيا، إذ تلقّت حوالي مليار دولار العام الماضي.
لذلك ستؤثر القيود القادمة بشكل رئيسي على التمويل المخصَّص لدعم ميزانية إثيوبيا، لا سيما إذا اتّجهت إدارة بايدن للطلب من البنك الدولي وصندوق النقد بتعليق تمويل مشاريع الحكومة الإثيوبية.
الخطر الأكبر على اقتصاد أديس أبابا يتمثّل في فرض عقوبات على البنك المركزي الإثيوبي وشركة الخطوط الجوية الإثيوبية، إذا لجأت إدارة بايدن إلى هذا الخيار -كما هو متوقع- فسيشكّل ضربة قاسية للاقتصاد الإثيوبي، خاصة إذا انضمّ الاتحاد الأوروبي إلى فرض قيود على الحكومة الإثيوبية لإجبارها على تقديم تنازلات تمهِّد للحل السلمي للصراع.
خيارات إثيوبيا للتعامل مع الموقف الأمريكي؟
يحاول رئيس الوزراء آبي أحمد في خطاباته وتدويناته التذكير بالبطولات التاريخية للإثيوبيين في مواجهة الوصاية والاستعمار الغربيَّين، ولهذا نلاحظ النبرة العالية في الرفض المشفوعة بالكبرياء، وكذلك التظاهرات الشعبوية المناهضة للولايات المتحدة التي نظّمها مناصروه في العاصمة أديس أبابا، ما أعاد إلى الأذهان تجربة نظام البشير في حشد التظاهرات المعادية للغرب أثناء فترة حكمه للسودان.
ولكن ربما فات على آبي أحمد ومناصريه الاصطفاف الواضح لمعظم القوى الدولية في رفض سلوك الحكومة الإثيوبية في تيغراي، عدا الصين وروسيا اللتين أعاقتا إصدار قرار في مجلس الأمن بشأن الحرب بالإقليم.
كذلك تسبّبت مشاركة القوات الإريترية في الحرب وارتكابها للفظائع ضد المدنيين في إقليم تيغراي في صدمة عنيفة، خاصة وسط المثقفين الذين يتابعون وسائل الإعلام المستقلة، بعكس جزء لا يستهان به من الشعب الذي لا يشاهد الإعلام الخارجي المستقلّ بسبب حاجز اللغة، فهؤلاء يتحكم فيهم الإعلام الحكومي الناطق باللغة الأمهرية، وهو إعلام دعائي يقوم على شيطنة الخصوم ومحاولة قلب الحقائق لتجميل صورة الحكومة وتلطيخ سمعة أعدائها بعيدًا عن المهنية والإنصاف.
يبقى السؤال الأهم: كيف سيكون موقف حلفائه الحاليين “نخبة قومية الأمهرة” الذين يسيطرون على معظم المناصب العليا في الجيش والمخابرات وغيرها، إذا ما قرّر تقديم تنازلات من أجل السلام وحلّ الصراع الدامي عن طريق التفاوض؟
وفي كل الأحوال يُرجَّح أن رهان آبي أحمد على الصمود في وجه العقوبات والاستمرار في القتال ضد قوات تيغراي بضغطٍ من حلفائه “نخبة قومية الأمهرة”، لن يستمرَّ طويلًا بفعل الاستنزاف الاقتصادي وإنهاك الجيش والميليشيات المتحالفة معه بسبب الخبرة والمهارة التي تمتلكها قوات التيغراي، حيث توغّلت في إقليمَين مجاورَين هما عفر وأمهرة، فحتى إذا استجمع الجيش الإثيوبي قوته وعاد إلى تيغراي فإنه سيواجه حرب استنزاف طويلة الأمد كما حدث في المرة الأولى.
ووسط الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن الإثيوبي بسبب التضخُّم وارتفاع الأسعار كما أشرنا بالأعلى، فإن الرهان على التحالف مع روسيا والصين لن يحلّ مشكلة أديس أبابا، فهاتان الدولتان تعانيان من العقوبات الأمريكية والأوروبية، ولا تستطيعان تقديم ولا 10% من الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإثيوبيا.
على الأرجح ستضطر إثيوبيا إلى التجاوب مع المطالب الأميركية والدولية بشأن أزمة تيغراي، ولكن ربما يحتاج حزب الرخاء الحاكم لبعض الوقت من أجل ترتيب الأوضاع داخليًّا والبحث عن مخرج لا يُعرَف طبيعته بعد أن راهنَ آبي أحمد بكل ما يملك على الإطاحة بشركائه القدامى في السلطة وفي النضال ضد نظام منغيستو، فلم يترك آبي لنفسه مجالًا لخطّ الرجعة إذا ما ساءت الأمور.
يبقى السؤال الأهم: كيف سيكون موقف حلفائه الحاليين “نخبة قومية الأمهرة” الذين يسيطرون على معظم المناصب العليا في الجيش والمخابرات وغيرها، إذا ما قرّر تقديم تنازلات من أجل السلام وحلّ الصراع الدامي عن طريق التفاوض؟