في 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، قال السفير التركي لدى السودان عرفان نذير أوغلو، خلال كلمة ألقاها في ندوة افتراضية تحت عنوان “التعاون في مجال المساعدات الإنسانية والإنمائية في إفريقيا”، إن أولوية بلاده في إفريقيا تتمثّل بتنميتها.
أكّد السفير التركي على وجوب تنويع المساعدات وتوجيهها إلى مناطق مختلفة، منوِّهًا أن بلاده قطعت شوطًا كبيرًا مع ما أنجزته في القارة السمراء خلال الـ 20 عامًا الماضية، مختتمًا حديثه بالقول إن “تركيا لها موقف خاص وتسعى وراء الخير في القارة. أولويتنا هي تنمية القارة. نحن الآن فيها مع جميع مؤسساتنا”.
ويعدّ الوقف إحدى أبرز الأدوات التي تسعى من خلالها الدولة التركية لتعميق حضورها الإنساني، ليس داخل إفريقيا فحسب، بل في مختلف دول العالم، ويقود مسيرتها في هذا المضمار “وقف الديانة التركي”، تلك المؤسسة التي نجحت أن تمتدَّ إلى أكثر من 108 دولة حول العالم وفي شتى المناطق.
وتجاوزَ حجم المساعدات التي يقدمها هذا الوقف التابع لرئاسة الشؤون الدينية في تركيا حاجز الـ 111 مليون و600 ألف دولار، منذ تأسيسه عام 1975 وحتى العام الحالي، بحسب البيان الصادر عن المدير العام لوقف الديانة، محمد صواش بولاط، الذي أوضحَ أن الوقف يوصل المساعدات إلى مختلف المناطق التي يوجد فيها مظلومون ومحتاجون.
رسالة ومنهج
منذ وضع حجر الأساس التأسيسي لوقف الديانة في 13 مارس/ آذار عام 1975، حملَ المؤسِّسون وعلى رأسهم رئيس الوقف -آنذاك- لطفي دوغان، شعار “الإنسان أولًا”، هذا الشعار الذي تُرجم إلى إجراءات وممارسات خيرية واجتماعية كانت لها ظلالها الوارفة على الملايين من المحتاجين في شتى بقاع الأرض.
وعلى مدار أكثر من 40 عامًا خطا فيها الوقف خطوات حثيثة نحو تعزيز قِيَم السلام والأمن وتقوية الترابط الديني والاجتماعي في المجتمع، داخل تركيا وخارجها، استطاع خلالها أن يفرض نفسه كأحد أبرز اللاعبين المؤثرين في الخارطة الإنسانية الدولية، لا سيما في المناطق شديدة العوز والاحتياج.
للوقف عين ثاقبة، وقرون استشعار شديدة الدقة، تحدِّد وبشكل محوري “من” الأكثر احتياجًا، و”أين” يكون التواجد، بصرف النظر عن اعتبارات أخرى، سياسية كانت أو دينية، لذا نجحت في تحقيق أهدافها بنسبة كبيرة، ومعها حظيت بشعبية جارفة بين شعوب إفريقيا الأكثر عوزًا.
ومن تقديم المنح الدراسية وفتح الباب على مصراعَيه أمام استقبال الطلاب من كافة ربوع العالم، خاصة دول إفريقيا، إلى المساعدات الخيرية خلال شهر رمضان والأعياد، مرورًا بتدشين البنية التحتية للمرافق العامة لكثير من الشعوب، ومعها تحفيظ القرآن وتخريج أجيال من العلماء ورجال الدين والدعاة، وصولًا إلى تقديم يد العون والإنقاذ خلال الكوارث والأزمات الطبيعية وغيرها، كان وقف الديانة التركي يسير نحو الغاية التي أُسِّس من أجلها: تنمية الإنسان والارتقاء بمستواه.
إفريقيا.. بؤرة الاهتمام الأبرز
اتّساقًا مع رسالة الوقف، كانت إفريقيا بؤرة الاهتمام الأولى كونها القارّة الأكثر فقرًا، والشعب الأكثر احتياجًا، لذا كان التحرك في أدغال القارّة ومناطقها النائية وبؤرها المهملة هدفًا استراتيجيًّا لتحقيق الغاية الأكبر، وهي إنقاذ ما يمكن إنقاذه لدى شعوب لا تمتلك بئر مياه للشرب ولا كسرة خبز لسدّ رمق صغارها.
التزمَ الوقف التركي في تحرُّكه الإفريقي بمسارَين متوازيَين، الأول هو المسار الدعوي الديني، المنطلق من الثوابت العقدية التي أُسِّس عليها هذا الكيان التابع لرئاسة الشؤون الدينية في البلاد، أما الثاني فهو المسار الإنساني الخيري الذي يستهدفُ كل محتاج، وهو المسار المجرَّد من أي ميول أو هوية ثقافية أو أيديولوجية، ولا يفرِّق بين مسلم وغير مسلم.
فعلى المسار الديني كانت هناك تحرُّكات ثلاثة، الأولى نشر الثقافة الإسلامية من خلال توزيع نسخ القرآن الكريم والكتب الدعوية على البلدان الإفريقية، وتشير الإحصاءات إلى أن الوقف وزّعَ أكثر من مليون مصحف في 80 دولة حول العالم، وذلك في إطار حملة “لتكن هديتي القرآن” التي انطلقت عام 2015.
وقد طُبعت المصاحف بـ 20 لغة مختلفة، تيسيرًا على أبناء الثقافات المتباينة، بحسب نائب رئيس مجلس أمناء الوقف، إحسان أجيق، الذي لفتَ إلى أنه “في إطار حملتنا لإدخال القرآن الكريم لكل بيت، حقّقنا أحلام مئات الآلاف من الأطفال والشباب الذين يحفظون القرآن على ألواح خشبية، في مختلف المناطق الجغرافية”.
أما التحرُّك الثاني على المسار الديني، فعمارة بيوت الله وتدشينها لمن هم بحاجة إلى مساجد، حيث أقامَ الوقف عشرات المساجد في إفريقيا، أبرزها المسجد الذي افتُتح في جيبوتي في فبراير/ شباط 2019، المبني على الطراز العثماني الكلاسيكي، على مساحة 10 آلاف متر ويتّسع لأكثر من 5 آلاف مصلٍّ في وقت واحد.
ويعدّ هذا المسجد المطلّ على شواطئ المحيط الهندي بالقرب من القصر الرئاسي في هذا البلد الإفريقي، إحدى أبرز التحف المعمارية في جيبوتي، ويشمل قبّة ورواقًا ومأذنتَين مزدوجتَين ومركزًا تعليميًّا يستوعب 400 شخص، وصالة مؤتمرات ومكتبة ومنشأة للفعاليات الاجتماعية، وهو ما أهّله لأن يتحول إلى قِبلة للمسلمين هناك من كل البلدان والمناطق المحيطة.
وثالث التحركات يتمحور في تأهيل الدعاة ورجال الدين من أبناء القارّة الإفريقية، حيث أقامَ الوقف دورات تدريبية مكثّفة لتأهيل الباحثين والعلماء للقيام بدورهم الدعوي في بلدانهم، كما فتحت تركيا أبوابها للراغبين في تعلُّم أمور الدين والفقه والعلوم الشرعية، حيث خرّجت المئات من الأفارقة الذين عادوا لبلادهم محمولين على الأكتاف بعدما باتوا مؤهّلين للعمل الدعوي.
أما المسار الإنساني فربما هو الأكثر حضورًا، ويعكس فحوى الرسالة السامية التي يسعى الوقف لتوصيلها من خلال نشاطاته المختلفة، والتي تركّزت على استهداف المناطق الأكثر احتياجًا في القارة الإفريقية لتقديم يد العون لمساعدة الإنسان هناك على الحياة الكريمة.
ففي النيجر يقدِّمُ الوقف المساعدات الغذائية لمئات الأسر في القرى الأكثر فقرًا، بعضها بأكلمها لا يوجد بها مسلم واحد، وتنشط تلك التحركات في المناسبات الدينية كالأعياد وشهر رمضان، حيث تنتشر الحقائب التي تحتوي على كميات مناسبة من الغذاء المتعارف عليه من قبل سكّان تلك القرى.
لا تتوقف المساعدات فقط عند العنصر الغذائي، حيث أقام الوقف العديد من آبار مياه الشرب بدعم المتبرّعين الأتراك، وأنقذ عشرات القرى التي كانت تفقد يوميًّا أطفالها جرّاء قلة المياه والطعام، ومن أشهر المتطوعين في توزيع المساعدات بالنيجر في صفوف وقف الديانة، الممثل التركي هاقان سريم الذي جسّد دور “غونقوت ألب” في المسلسل التاريخي الشهير “قيامة أرطغرل”، حسبما ذكرت وكالة “الأناضول“.
ومن النيجر إلى السنغال، حيث تدشين عشرات الآبار من المياه، وتقديم المساعدات الغذائية والعينية لمئات الأسر، بخلاف استهداف الفقراء بلحوم أضاحي العيد والتبرعات التي يقدمها رجال الأعمال الأتراك والمسلمين، والتي تلقى ترحيبًا كبيرًا لدى الشارع السنغالي.
الوضع يتشابه بصورة كبيرة في تشاد، حيث وفّر الوقف مياه الشرب لنحو 500 ألف مواطن في البلاد، من خلال عشرات الآبار التي حفرها بتبرعات فاعلي الخير الأتراك في السنوات الـ 6 الأخيرة، حسبما قال ممثل وقف الديانة التركي في تشاد عثمان ترك، في حديثه لـ “الأناضول“.
ولفت ترك إلى أن الوقف يبني الآبار وسُبل الماء بالطرق الحديثة، قائلًا: “نقوم بالحفر لأمتار عميقة ومن ثم استخراج المياه”، مضيفًا للوكالة التركية: “كما نقوم ببناء سُبل الماء على الطراز العمراني العثماني ومن ثم نقدِّم المياه التي تمَّ جمعها في خزّانات ضخمة بسعة 14 طنًّا، لخدمة الشعب التشادي”، وتابع: “لا نحفر آبار قصيرة الأمد تنفد مياهها في غضون شهرَين أو 3، وإنما آبار مدى الحياة، كما نجري التحاليل والاختبارات على هذه المياه قبل تقديمها للشعب التشادي”.
وفي أوغندا، استطاع الوقف حفر مئات الآبار في 12 منطقة بالبلاد، من خلال مشروع الوقف الذي أطلق عليه “قطرة حياة”، ساهم من خلالها في حلّ أزمة شحّ المياه، وهي الأزمة الأخطر التي تهدِّد حياة الشعب الأوغندي، ووفق ممثّل الوقف في أوغندا إلياس بولوط فإن الآبار تقوم على سحب المياه من عمق أكثر من 80 مترًا، وليس من الطبقات السطحية، موضِّحًا أن إنتاجية هذه الآبار تستمرُّ 10 سنوات على الأقل، حسب تصريحات صحفية له.
وأوضحَ أن الأهالي هناك يثمّنون جهود الوقف بشكل لافت للنظر، إذ كانوا يحظون باستقبال حافل في كل منطقة يحفرون فيها بئرًا، وتابع قائلًا: “كانوا يضطرون سابقًا لنقل المياه إلى منازلهم وتركها لفترة من الوقت حتى تترشّح وتصفّى، وليست مياهًا صالحة للشرب، حيث تتضمّن الكثير من البكتيريا المسبِّبة للأمراض، ولذلك يدرك هؤلاء قيمة هذه الآبار جيدًا”.
ومن الطعام والشراب والمياه وتحفيظ القرآن والمشروعات الخيرية إلى إدخال البهجة على اليتامى من الأطفال، حيث حرص الوقف على تخصيص جزء من ميزانيته لإضفاء السعادة على وجوه الأطفال خلال الأعياد، وذلك عبر تقديم الملابس الجديدة لهم.
ففي إثيوبيا على سبيل المثال، يقوم الوقف بحملات خيرية في شهر رمضان وعيدَي الفطر والأضحى على مدار السنوات العشر الأخيرة دون توقف، وتشمل تلك الحملات تقديم ملابس وأحذية جديدة للأطفال، بجانب المساعدات النقدية التي تساعدهم على الاستمتاع في العيد.
الإنسان قبل السياسة
اللافت للنظر أن التحركات الخيرية للوقف التركي إزاء الشعوب الفقيرة في إفريقيا أو غيرها، تستهدفُ الإنسان في المقام الأول بعيدًا عن أي أهداف سياسية أخرى، وهو ما زاد من ثقة ومكانة وقف الديانة لدى شعوب القارة، الأمر الذي تعكسه وتوثِّقه عشرات الشهادات القادمة من تلك البؤر المستهدفة والتي تتناقلها وسائل الإعلام المختلقة.
بعض من المجتمعات التي يستهدفها الوقف بأنشطته الخيرية ربما تكون العلاقات السياسية بين النظام السياسي بها وأنقرة ليست بالتناغُم الكامل، ومع ذلك لم تتأثر التحركات بتلك العلاقة، وهو ما يؤكّد مضيها في تحقيق رسالة الوقف دون أي مؤثرات أو معايير أخرى تحدِّد قِبلة التوجهات.
وعلى مدار العقود الأربعة الأخيرة تحوّلَ وقف الديانة إلى إحدى أبرز أدوات القوى الناعمة التركية في إفريقيا، ليكمل استراتيجية الأيادي البيضاء التي اتّبعتها الدولة العثمانية قديمًا حيال شعوب العالم، وهو ما ظلَّ باقيًا حتى اليوم رغم مرور مئات السنين على انتهاء الخلافة العثمانية.
فمن مصر إلى ليبيا مرورًا بتونس والجزائر، ثم التعريج على وسط القارة حيث تشاد والنيجر ومنها إلى القرن الإفريقي شرقًا، كان الوقف التركي الدليل الأبقى على مآثر الحضارة العثمانية خلال القرون الماضية، ورغم الخلاف السياسي أحيانًا تبقى تلك الأعمال الخيرية الشاهد الأعلى مكانة على ما قدّمته الإمبراطورية العثمانية للحضارة الإنسانية العالمية.