أثار إعلان اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، الأربعاء 22 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، تخليه عن منصبه كقائد عام للميليشات التابعة له، وتكليفه لرئيس الأركان العامة الفريق عبد الرزاق الناظوري، بمهام منصبه، لمدة ثلاثة أشهر، الكثير من الجدل لدى الشارع الليبي وفتحت باب التكهنات بشأن دوافع هذا القرار.
ومن المقرر أن يترك حفتر منصبه ابتداءً من الخميس 24 من سبتمبر/أيلول 2021 وحتى 24 من يناير/كانون الثاني 2022، على أن تكون للناظوري، وهو من أهم الضباط المقربين من الجنرال الليبي، “جميع الصلاحيات المقررة بموجب القانون رقم 1 لسنة 2015 بشأن منصب القائد العام”، وفق نص القرار.
ورغم عدم إشارة القرار بشكل علني إلى أسباب تخلي حفتر عن منصبه، لكن كل الترجيحات تذهب إلى اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في 24 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، وذلك استنادًا إلى قانون الانتخابات المثير للجدل، الذي مُرر قبل أسبوعين فقط، ويسمح لـ”العسكري الترشح لمنصب الرئيس شرط التوقف عن العمل وممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بـ3 أشهر” وأنه “إذا لم يُنتخب فإنه يعود لسابق عمله”.
تتزامن تلك الخطوة مع الأزمة الدستورية المتوقع أن تشهدها البلاد في أعقاب قرار مجلس النواب الليبي بسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وهي الخطوة التي من شأنها تأجيج الخلافات السياسية في البلاد في توقيت حساس، قبل ثلاثة أشهر فقط على الموعد المحدد للانتخابات العامة.
حفتر وحلم الرئاسة
يأتي هذا التحرك في إطار مساعي الجنرال المنقلب لتحقيق حلمه في الوصول إلى سدة الحكم، وهو الحلم الذي بدأ في أعقاب الانشقاق عن العقيد الراحل معمر القذافي، نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إذ انضم حينها لبعض الكيانات المعارضة خارج البلاد كقائد لجناحها العسكري.
وفي أواخر حكم القذافي شارك حفتر في بعض حركات التمرد ضد النظام الليبي حينها، وبعد اندلاع الثورة الليبية في فبراير/شباط 2011، استغل الجنرال حالة الرفض الثوري الشعبي للقذافي لينضم إلى صفوف الثوار، حينها منح نفسه لقب “قائد القوات البرية” دون مسوغ قانوني لهذا المسمى.
ومع سقوط نظام العقيد غاب حفتر عن الأضواء حتى فبراير/شباط 2014 حين ظهر على شاشة قناة “العربية” السعودية ليعلن انقلابه على المؤتمر الوطني العام (البرلمان) والحكومة المعترف بها دوليًا، وطالب بتجميد الإعلان الدستوري، وبعد مرور شهرين فقط على هذا الظهور الإعلامي خرج الجنرال في بنغازي (شرق) معلنًا انطلاق عمليته العسكرية التي أسماها “عملية الكرامة”، وشملت العديد من مدن الشرق والجنوب، خاصة منطقة الهلال النفطي، في محاولة لإحكام السيطرة على موارد النفط في البلاد.
ومع مطلع أبريل/نيسان 2019 بدأ حفتر وميليشياته الزحف نحو العاصمة الليبية طرابلس، لكنه مني هناك بهزيمة نكراء، فقد لُقن درسًا قاسيًا في فنون القتال، كان سببًا في تراجع الكثير من القوى الإقليمية الداعمة له، ليغيب عن الأضواء فترة ليست بالطويلة، حيث بدأت البلاد في مرحلة المفاوضات لوضع مرحلة انتقالية عبر سلطة وحكومة مؤقتة تمهيدًا لانتخابات تجرى نهاية العام الحاليّ.
ورغم تراجعه كورقة سياسية في أيدي القوى الداعمة له إقليميًا ودوليًا، فإن حلم الرئاسة لم يغب عن مخيلة الجنرال الذي بدأ في تبني إستراتيجية تصعيدية على المستوى الميداني، هادفًا من خلالها لتسليط الأضواء عليه كرقم صعب في المعادلة السياسية لمستقبل البلاد المرتقب.
وبدأ اللواء المتقاعد حراكًا دبلوماسيًا لتعزيز فرص حضوره السياسي خلال الانتخابات المقبلة، فقام بعدد من الزيارات الخارجية أبرزها زيارتيه للقاهرة خلال أغسطس/آب الماضي وسبتمبر/أيلول الحاليّ رفقة رئيس البرلمان عقيلة صالح، وهما الزيارتان اللتان تأتيان في إطار الإعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية الليبية المقررة أواخر العام الحاليّ، بجانب بعض الملفات الأخرى.
تجميل الصورة المشوهة
في الـ8 من الشهر الحاليّ، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عبر تقرير لها أن حفتر دفع قرابة مليون دولار للتعاقد مع شركتين تابعتين للمساعد السابق للرئيس بيل كلينتون، لاني ديفيس، والنائب الجمهوري السابق روبرت ليفينغستون، للضغط على إدارة الرئيس جو بايدن للحصول على دعم سياسي وتجميل الصورة المشوهة كجنرال دموي منقلب.
وأضاف التقرير “ديفيس وليفينغستون يحاولان ترتيب اجتماعات مع المسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والكونغرس قبل الانتخابات الوطنية الليبية المقرر إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول المقبل”، وفقًا لوثائق وزارة العدل الأمريكية التي اطلعت عليها الصحيفة.
ومن الأولويات المنوطة بالشركتين – بحسب الصحيفة – تحرير حفتر من لقب “أمير الحرب” الذي التصق به، لافتة إلى أن الجنرال المنقلب وظف جماعات ضغط أخرى لتمثيله في واشنطن في السنوات الأخيرة إبان حكم الرئيس السابق دونالد ترامب الذي اتصل بحفتر للتعبير عن دعمه لرؤيته لليبيا، في محادثة رتبها مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون.
القراءة الأولية للقانون الممرر على وجه السرعة من البرلمان، تعكس نية واصحة لدى رفيق حفتر، رئيس المجلس عقيلة صالح، (الذي رافقه في زيارته للقاهرة قبل أيام) لتفصيل قانون على مقاس الجنرال المنقلب
وفي الجهة الأخرى أوضحت شركتا ديفيس وليفينغستون في بيان مشترك أن عملهما “يقتصر على التعبير عن دعم خليفة حفتر لانتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة”، منوهة أن مستشاري حفتر نفوا بشكل قاطع المزاعم الواردة في الدعاوى القضائية الأمريكية، وهو ما دفعهما لتمثيله في أمريكا.
وردًا على تقرير “وول ستريت جورنال” نشرت مجلة “ناشونال إنترست” الأمريكية، مقالًا للكاتبين ساشا توبيريتش وديبرا كاغان (الأول نائب الرئيس التنفيذي لشبكة القيادة عبر الأطلسي، والثانية مستشارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش) شددا فيه على ضرورة أن تعاقب إدارة بايدن اللواء الليبي المتقاعد، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، بسبب دوره المدمر في ليبيا.
المقال استعرض جرائم حفتر بداية من مشاركته في انقلاب 1969 الذي أتى بمعمر القذافي إلى السلطة، وأن أول ظهور دولي له كان بعد أن خسرت ليبيا حربها مع تشاد عام 1987، مرورًا بانقلابه على اتفاق الصخيرات الموقع في 2015، وصولًا إلى حملته الفاشلة على طرابلس التي أدت إلى نزوح 200 ألف شخص، وأسفرت عن مقابر جماعية في ترهونة، وزادت من انقسام ليبيا المنقسمة بالفعل.
قانون على المقاس
نية حفتر خوض الانتخابات الرئاسية ستدخل البلاد في جدل دستوري كبير بشأن تضارب التشريعات المحددة لإجراءات الانتخابات الرئاسية، فهناك قانونان لتنظيم تلك العملية، الأول صادر عن مجلس النواب (البرلمان) الذي يرأسه صالح، رفيق الجنرال المتقاعد، ويسمح للعسكريين بالترشح دون قيد، بشرط تخليهم عن مناصبهم بشكل مؤقت لمدة ثلاثة أشهر.
وفي الجهة الأخرى هناك قانون آخر صادر عن المجلس الأعلى للدولة يشترط على العسكريين الراغبين في الترشح مضي عامين على الأقل على انتهاء مدة خدمتهم للترشح، بجانب منع الحاصلين على جنسية أجنبية من الترشح سواء للانتخابات الرئاسية أم البرلمانية، علمًا بأن حفتر يحمل الجنسية الأمريكية بجانب الليبية.
القراءة الأولية للقانون الممرر على وجه السرعة من البرلمان، تعكس نية واصحة لدى رفيق حفتر، رئيس المجلس عقيلة صالح، (الذي رافقه في زيارته للقاهرة قبل أيام) لتفصيل قانون على مقاس الجنرال المنقلب، لخوض الانتخابات بشكل قانوني، في مواجهة التيار الرافض لترشيح أي عسكري للمرحلة المقبلة.
القانون يعاني من شكوك دستورية من حيث الشكل والمضمون، بحسب الكاتب التونسي سمير حمدي، فشكلًا تجاوز القانون موافقة المجلس الأعلى للدولة (بمثابة الغرفة الثانية للبرلمان)، هذا بخلاف مخالفته لشرط تصويت 120 نائبًا بالموافقة عليه، وهو ما لم يحدث من الناحية الفعلية، ما يعني ضمنيًا تجاوز منطق التوافق السياسي الذي تتأسس عليه المرحلة الحاليّة في ليبيا.
رغم أن حفتر لم يعد تلك الورقة الرابحة بأيدي القوى الداعمة له قديمًا، لكنه على كل حال أداة طيعة يمكن توظيفها في أي وقت لخدمة أجندة القاهرة وأبو ظبي معًا
أما على المستوى الإجرائي، فالنصوص التي تضمنها القانون مثيرة للجدل وتعيد البلاد للمربع رقم واحد مرة أخرى، أبرزها تلك المادة التي تنص على أنه “يمكن لشخصٍ عسكري الترشّح لمنصب الرئيس شرط التوقف عن العمل وممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر”، وأنه “إذا لم يُنتخب فإنه يعود لسابق عمله”.
ووفق الكاتب التونسي، فإن “من صاغ المادة تعمد أن تكون مفصّلة على مقاس قائد مليشيات الكرامة خليفة حفتر، الذي أعلن بوضوح سعيه إلى بلوغ منصب الرئاسة، في ظل تحالفه مع قوى إقليمية داعمة له. ومعروف أن رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح هو أحد تابعي حفتر، وحليف سياسي مقرّب منه”، وفي الوقت ذاته فالقانون يحافظ على بقاء جسم مسلح خارج سلطة الدولة، في إشارة إلى ميليشات حفتر.
علاوة على ذلك فإن التفاصيل والشروط التي تضمنها القانون الذي مرره صالح تشير إلى أن الانتخابات لن تكون حلًا للمشهد الليبي قدر ما يمكن أن تزيد من الواقع المتأزم، ففي حالة إخفاق حفتر في الانتخابات سيعود إلى رئاسة ميليشياته مرة أخرى، ما يعني البقاء على هذا الكيان غير الشرعي الذي يهدد أمن واستقرار البلاد من خلال فرض نفوذه على المنطقة الشرقية وبعض مناطق الجنوب، لتبقى الأوضاع على ما هي عليه الآن.
استجداء الدعم
يسابق حفتر الزمن لأجل كسب الدعم المفقود من حلفائه القدامى، لذا كانت الزيارات المتكررة لمصر والاتصالات المتبادلة مع القادة والمسؤولين بالسعودية والإمارات، فضلًا عن اتصالاته بالإليزيه، بجانب مساعيه لتعزيز نفوذه داخل الدائرة المقربة من الإدارة الأمريكية.
يلعب الجنرال المتقاعد على وتر الأجندة المصرية الإماراتية في ليبيا وتوظيف ورقة الأمن القومي المصري لتحقيق أهدافه التوسعية نحو السيطرة على مقاليد الحكم، خاصة بعد نجاح الوجود التركي في إحداث التوازن خلال الآونة الأخيرة، عبر دعم حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، وهو ما تمثل في الهزيمة النكراء خلال معركة طرابلس.
ورغم أن حفتر لم يعد تلك الورقة الرابحة بأيدي القوى الداعمة له قديمًا، لكنه على كل حال أداة طيعة يمكن توظيفها في أي وقت لخدمة أجندة القاهرة وأبو ظبي معًا، رغم الخلاف بينهما مؤخرًا في الاعتماد عليه كرجل المرحلة المقبلة بعد المستجدات السياسية والعسكرية التي شهدتها البلاد خلال الآونة الأخيرة، فيما تصاعدت بعض الأسماء الأخرى البديلة له في تلك المرحلة.
يذكر أنه منذ صيف 2014 كانت مصر والسعودية والإمارات وفرنسا على رأس الدول الداعمة لحفتر في “عملية الكرامة” المزعومة، مستغلة حالة الفراغ السياسي الذي كانت تحياه البلاد في ذلك الوقت، إذ تنوعت أشكال الدعم بين مشاركات عسكرية مباشرة، وأخرى استشارية وثالثة استخباراتية لوجستية.
لكن تطورات الأحداث بعد اتزان معادلة القوى نسبيًا، والاتفاق على مسار سياسي لمرحلة انتقالية عبر حكومة وسلطة مؤقتة تمهيدًا لانتخابات نهاية العام، ساهمت بشكل كبير في تراجع هذا الحلف عن دعم حفتر، أو على الأقل تجميد هذا الدعم لحين انجلاء الغبار وانكشاف الصورة بشكل أوضح، وهو ما اتضح خلال الأيام الماضية حين بدأ الجنرال يفرض نفسه كلاعب أساسي في الملعب السياسي، راغبًا في استعادة الدعم الإقليمي له مرة أخرى.
لم يتم حسم خوض حفتر للانتخابات الرئاسية بعد، غير أن السُحب التي تغلف الأجواء الحاليّة تشير إلى حالة من الضبابية في المشهد مع احتمالية هطول أتربة فوضوية وسط جدل دستوري محتمل بسبب النزاع بين البرلمان والحكومة، الأمر الذي يجعل من المبكر تقييم الحالة الراهنة في ظل الأبواب المفتوحة على مصراعيها لكل الاحتمالات، التي من بينها العودة للمربع صفر مرة أخرى.