تتعرّضُ النساء العاملات في مجال الصحة النفسية بشكل عام إلى تحديات وضغوطات كبيرة، تتمثّل بعدم ثقة الناس بالطب النفسي، وعدم الالتزام الكامل بالجلسات العلاجية، وضعف الوعي المجتمعي حول أهمية سلامة الصحة النفسية لدى الأفراد؛ وفي الحالة الفلسطينية فإن الأمر يتّخذُ منحى إضافيًّا، ممثَّلًا بوجود الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العنصرية التي تؤثر على كافة مناحي الحياة لا سيما النفسية.
إذن إن الجهد المطلوب من العاملات النفسيات كبير، يتفاوت من تقديم الخدمات النفسية هاتفيًّا (استشارة) إلى تقديم الخدمات النفسية عن طريق الجلسات المخصَّصة والتي تستمر ساعة كاملة في كثير من الأحيان، فوظيفة المعالِجة النفسية هي تقديم الخدمات النفسية والإرشادية وفق برامج متفاوتة تستمرُّ لـ 6 أشهر، عن طريق جلسات تفريغ نفسي بنشاطات مختلفة وفق الحالة الصحية.
يبحث هذا المقال أهمية تقديم خدمات نفسية للنساء العاملات في المجال النفسي، بمقولة ثانية: تقديم الدعم النفسي لمن تقدِّم الدعم؛ فقد تنسى المعالجة أنها تحتاج الدعم النفسي نتيجة الضغوط التي تواجهها يوميًّا في عملها، وعدم قدرتها على الفصل بين العمل والحياة الشخصية.
وفق الموقع الإلكتروني للصليب الأحمر الدولي، فإنه ينبغي تزويد طواقم الرعاية الصحية بالأدوات والمعدات، وبالدعم لتمكينهم من ضمان سلامتهم البدنية والعقلية، ومن الضروري مراعاة ذلك عند وضع استراتيجيات لحماية الرعاية الصحية، كما اعترفَ الهلال الأحمر العربي السوري بالدور الذي يمكن أن يؤدّيه الدعم النفسي-الاجتماعي في تحسين كيفية حماية موظفيه ومتطوِّعيه.
أشارت الأخصائية النفسية في فلسطين المحتلة، الدكتورة فضيلة العسود، عن عدم وجود وعي مؤسَّساتي حول أهمية مساعدة الأخصائيين النفسيين أثناء عملهم: “لا يوجد لدى المؤسسات الأهلية أو الحكومية أي برامج بخصوص التوعية وتقديم الخدمات النفسية للأخصائيين والمستشارين، فعلى العكس من ذلك نرى أن الدول المتقدمة لديها برامج تأهيلية وتفريغ نفسي للطواقم المختصة، فمثلًا توفِّر بعض المؤسسات إجازة سنوية ورحلات سفر لطاقمها، أو عقد حلقات الاستماع وغيرها”.
وترى أن الوضع الحالي في دول العالم نتيجة جائحة كوفيد-19 وما بعدها، عملَ على زيادة الضغوط النفسية لدى الناس، وانتشار الاكتئاب والعديد من الأمراض النفسية التي تستدعي تدخُّل طبي نفسي فيما أسمته الضيفة بـ”متلازمة ما بعد كورونا”، وتشير كذلك: “نحن بعد جائحة كورونا تعرّضنا لضغط كبير في العمل، فأنا على سبيل المثال أعمل في المجال الحكومي من الساعة الثامنة للثالثة، وبعد الانتهاء من ساعات الدوام أتطوَّع لمساعدة الناس سواء عن طريق الاتصال الهاتفي أو وسائل التواصل الاجتماعي، مما زاد الحمل عليّ، وأصبح فوق طاقتي”.
أما الأخصائية الاجتماعية شيماء رومل، تستخدم هي الأخرى أساليب تساعدها على الخروج من الحالة النفسية التي تعيشها جرّاء عملها في مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، حيث تعمل على تقديم خدمات إشراف فردي أو جماعي، وتنتقل في عملها إلى مناطق كثيرة (عيادات متنقلة).
كما أشارت إلى أن المركز التي تعمل به يوفِّر للعاملين في المجال النفسي تدريبات حول كيفية تعامل الأخصائيات النفسيات مع الحالات المختلفة، ويتم توفير جلسات إرشاد للعاملات يتحدّثن فيها عن كل ما يزعجهن في العمل.
مساحة خاصة
تتبنّى المعالجة النفسية في كثير من الأحيان إجراءات أو تكتيكات معيّنة حتى لا تبقى حبيسة العمل والتفكير المستمر في الحالات: “عندما أنغمس كثيرًا في العمل أطلب إجازة لأيام قليلة، وإذا أُتيح لي السفر سأسافر. لا بد من تحسين الحالة النفسية ومعرفة الحاجات النفسية، عندما أتعب أحتاج إلى مساحة خاصة، وأعتذر من الناس، حتى لا أتأثر وأشعر بضغط نفسي نتيجة سماع المشكلات”، تقول شيماء.
وتكمل: “صحيح أن الأخصائية الاجتماعية تستمع إلى قصص الناس، تساعدهم وترشدهم، لكنها في الوقت ذاته تحتاج أيضًا إلى من يسمعها ويوجِّهها، نلجأ إلى الحديث مع الأهل والأصدقاء الثقة لنفرِّغ لهم عن مشاكلنا وهمومنا، كما أنني أحب قراءة الكتب والرسم”.
أما المسؤولة الإعلامية في نادي الأسير الفلسطيني، أماني سراحنة، تبيّن أن عملها لا يقتصر على ساعات الدوام الرسمية، بل يستمر معها طيلة اليوم، وبسبب خصوصية عملها فهي تستمع إلى مئات القصص والشهادات للأسرى الفلسطينين داخل سجون الاحتلال، التي تبيّن معاناتهم في التعذيب أو في الاعتقال وكافة الممارسات العنصرية التي تتبعها سلطات “مصلحة السجون”.
“طبيعة عملي إنسانية ووطنية وأخلاقية، وأسعى دائمًا لأن أعطي هذه القضية الكثير، لذلك تبقى القصص عالقة في الذهن لأيام، من الصعب أن أنسى أو أترك القصص الإنسانية”، تقول أماني.
عملنا يحتّم علينا أن نضعَ البُعد الأخلاقي والوطني أمام أعيننا، فهناك مسؤولية وطنية جراء عملنا مع الأسرى الفلسطينيين، ونلتزمُ بنشر الحقائق عنهم وإيصال الرسائل إلى عائلاتهم وذويهم، كما تقول أماني: “إن المتابعة الكثيفة لأخبار الأسرى وقصصهم يؤثِّر على نفسية الفرد وعلى جسمه، ففي كثير من المرات لا يستطيع الفصل بين العمل والحياة الشخصية، وفي أحيان كثيرة يطغى العمل على الحياة الاجتماعية، لا أستطيع أن أغلق هاتف العمل، أستقبل المكالمات طيلة اليوم”.
مضيفة: “هناك أحداث مستجدّة تستوجب المتابعة 24 ساعة على مدار اليوم، مثل أخبار الأسرى المضربين عن الطعام، أحداث القمع والتنكيل بحق الأسرى، فهذه الأخبار المستعجَلة لا بد من متابعتها في أي وقت”.
وتؤكد ثانيةً على عدم وجود وعي مؤسساتي يدعم العاملين في مجال الصحة النفسية والإرشادية، فأي شخص يريد خدمة إرشادية أو نفسية يتوجّه إلى عيادة خاصة وعلى نفقته الخاصة، كما تقول أماني إن هناك العديد من الوسائل التي تساعدها على التفريغ النفسي مثل الرسم والكتابة.
مردفةً: “طبيعة عملي إنسانية ووطنية وأخلاقية، وأسعى دائمًا لأن أعطي هذه القضية الكثير، لذلك تبقى القصص عالقة في الذهن لأيام، من الصعب أن أنسى أو أترك القصص الإنسانية”، كما تؤكد أن الأمر مختلف بين شخص وآخر، إلا أن أحد صراعاتها في العمل هو أن تُبقي على الجانب الإنساني خلال عملها.