قد يتفرّق التونسيون حول أسباب الانسداد السياسي وتداعياته، خاصة بعد قرار الرئيس قيس سعيّد تجميد البرلمان وإقالة الحكومة وتمديد الحالة الاستثنائية حتى “إشعار آخر”، إلّا أن لا أحد منهم سيختلف حول مدى عمق الأزمة المالية التي تعرفها البلاد عقب الانهيار الاقتصادي.
الواقع يقول إن تونس نجحت ما بعد الثورة في أن تكون مثالًا للانتقال السلمي للسلطة في المنطقة العربية في أكثر من امتحان، إلا أنها أخفقت إلى الآن في تجنيب البلاد الأزمات الاقتصادية المتتالية الناجمة عن الإرث الثقيل للأنظمة السابقة وضعف المنوال التنموي، فضلًا عن الفساد وانعدام الاستقرار بفعل العمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية، بالإضافة إلى تداعيات جائحة كورونا.
الأزمة الاقتصادية
تعرف تونس أزمة اقتصادية غير مسبوقة فاقمتها تداعيات جائحة كورونا، وعدم الاستقرار السياسي الذي تمرّ به البلاد، وتواصُل التدابير الاستثنائية التي أقرّها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز الماضي، لتصل إلى مستويات غير مسبوقة تجلّت حدّتها مع ظهور أحدث أرقام الدين المحلي المستحق على البلاد، وبلوغه مستويات حرجة تقترب من 90% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2020.
بحسب قانون المالية لعام 2021، كان الدين العام لتونس لا يتجاوز 43% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2009، ليصعد إلى 90% عام 2020، كما تُظهر نشرة الدين العمومي الصادرة عن وزارة المالية، في يونيو/ حزيران الماضي، أن الدين العام بلغ في ذلك الشهر 99.29 مليار دينار (35.58 مليار دولار).
يتوزّع هذا الرقم بين 62.01 مليار دينار (22.2 مليار دولار) ديونًا خارجية مستحقة على البلاد، و37.28 مليار دينار (13.36 مليار دولار) دينًا داخليًّا، وفي حال استمرار تصاعدها للفترة المقبلة، فإن تونس ستجدُ نفسها في خانة خطرة بالنسبة إلى تصنيف ديونها من جانب مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية، ما يعني صعوبة الحصول على تمويل جديد، على أساس أن البلد ذا “مخاطر مرتفعة”.
الوضع الاقتصادي والمالي الهشّ دفع الدائنين إلى التساؤل حول مدى قدرة تونس على الوفاء بتعهُّداتها في ظل الأزمة الخانقة، خصوصًا بعد أن خفّضت الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني “فيتش” التصنيف الائتماني طويل المدى لمصادر العملة الأجنبية في تونس من “ب” إلى “ب سلبي”، مع آفاق سلبية، وهو مؤشِّر من شأنه أن يعكس “مخاطر في مستوى توفُّر السيولة المالية محليًّا وخارجيًّا”.
في سياق ذي صلة، عجزت الحكومات التونسية السابقة عن تنفيذ خطط إصلاحية هيكلية في الاقتصاد والمنوال التنموي، ما جعل البلاد ترزح تحت رحمة صندوق النقد الدولي وشروطه المُشِطّة، فيما يمثل الاستقرار السياسي (انقلاب سعيّد) وتحديد المفاوض الرئيسي أمام الصندوق شرطًا أساسيًّا لاستكمال المفاوضات مع الصندوق بشأن برنامج تمويل بقيمة 4 مليارات دولار كانت حكومة المشيشي قد بدأته من مايو/ أيار الماضي.
طلب تونس لمبلغ قياسي يقدَّر بـ 4 مليارات دولار يعدّ القرض الرابع في السنوات العشر الأخيرة، ما يعني أن الوضع المالي لم يتحسّن وأن التعنُّت في تطبيق السياسة المالية والاقتصادية نفسها أوقعت البلاد في شراك الديون.
من جهة أخرى، إن وقف التفاوض مع صندوق النقد الدولي منعَ تونس أيضًا من الحصول على قروض خارجية من بقية المموِّلين الدوليين، لذلك حاولت الالتجاء إلى الاقتراض الداخلي، إلا أن البنوك المحلية رفضت منح الدولة قروضًا على المدى الطويل خوفًا من أن تجد نفسها عاجزة عن استرجاع مستحقّاتها، ما من شأنه أن يؤدّي بها إلى الإفلاس، وذلك في وقت تخلّى فيه البنك المركزي بعد استقلاله عن دوره كرافعة اقتصادية ومالية.
من المستبعد أن يستعيد الاقتصاد التونسي عافيته في الوقت الراهن، بسبب عدم إقرار الميزانية التكميلية لعام 2021، وإجراءات سعيّد التي من المرجَّح ألّا تحمل بين طياتها خيارات جريئة وإصلاحات تُنفَّذ في أسرع الآجال، خاصة أن كل تحركاته الأخيرة (حقوق السحب الخاص) في خانة الشعبوية والاستغلال السياسي.
تونس والسحب الخاص
أثار الأمر الرئاسي، مؤرَّخ في 14 سبتمبر/ أيلول 2021، الذي تمّت بموجبه الموافقة على إحالة المخصَّصات بنحو 522.550 مليون دينار من حقوق السحب الخاصة المسندة من صندوق النقد الدولي لفائدة تونس، والمقدَّرة بنحو 775.8 مليون دولار، بين وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار والبنك المركزي التونسي؛ عديد التساؤلات حول مآل هذه الأموال وقدرتها على مساعدة البلاد في تخطي الأزمة المالية الخانقة.
في هذا الصدد، قال الخبير الاقتصادي، محسن حسن، إنّ نصيب تونس من توزيع مخصصات حقوق السحب الخاصة التي ستشمل كل الدول الأعضاء بالصندوق، ستمكّن البلاد من توفير سيولة مالية وسيقلِّص من النقص الحاصل في احتياطات العملة الصعبة الموجودة في البنك المركزي، والحدّ من اعتماد تونس على الدين الخارجي.
في مقابل ذلك، أوضحَ المختص في الشأن الاقتصادي عز الدين سعيدان أن الأمر الرئاسي الصادر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، المتعلق بالموافقة على الإحالة لفائدة الدولة لمخصَّصات حقوق السحب الخاصة المسندة من صندوق النقد الدولي إلى الدولة التونسية، يساوي تقريبًا 700 مليون دولار، أو أقل بقليل من 2 مليار دينار، ستستعملها تونس في تسديد جزء من الدين الخارجي المستحق قبل نهاية السنة.
الغموض الذي اكتنفَ مسالك استغلال حقوق السحب الخاص وطرق استثمارها وتدويرها في الاقتصاد التونسي، دفع البعض للمراهنة على هذه المخصَّصات لامتصاص الاهتزازات المالية التي باتت تُهدِّد البلاد، خاصة أنه للشهر الثالث على التوالي الذي يُسجَّل فيه تأخير في تأمين أجور ورواتب الموظفين.
وتبلغ قيمة أجور الموظفين في تونس شهريًّا نحو 592 مليون دولار، كما تبلغ قيمة كتلة الأجور بالنسبة إلى الوظيفة العمومية 7.1 مليار دولار، أي بنسبة تقارب 38% من إجمالي الميزانية (18 مليار دولار)، وهي نسبة مرتفعة مقارنة ببقية دول العالم.
ما هي حقوق السحب الخاصة؟
في عام 1969، أحدثَ صندوق النقد الدولي احتياطيًّا دوليًّا اصطلحَ عليه “حق السحب الخاص” (SDR) ليكون مكملًا للاحتياطات الرسمية الخاصة بالبلدان الأعضاء، وتتحدد قيمته وفقًا لسلّة عملات متكوِّنة من الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي واليوان الصيني واليان الياباني والجنيه الإسترليني.
التوزيع العام لحقوق السحب الخاصة يُعدّ وسيلة لتكملة احتياطيات النقد الأجنبي الخاصة بالبلدان الأعضاء، تسمح لها بتقليص الاعتماد على الدين الداخلي أو الخارجي ذي التكلفة الأعلى من أجل بناء الاحتياطيات.
تاريخيًّا، قام الصندوق بتوزيع 9.3 مليار وحدة على دفعات سنوية في الفترة 1970-1972، و12.1 مليار وحدة على دفعات سنوية في الفترة 1979-1981، ثم وزّع 161.2 مليار وحدة في 28 أغسطس/ آب 2009، عقب الأزمة المالية التي اجتاحت العالم عام 2008.
أمّا في عام 2021، فخصّصَ الصندوق حوالي 275 مليار دولار (حوالي 193 مليار وحدة حقوق سحب خاصة) من الإصدار الجديد على الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، بما في ذلك البلدان منخفضة الدخل من أصل 650 مليار دولار تمَّ توزيعها.
وكانت المديرة العامة للصندوق، كريستالينا غورغييفا، قد وصفت الخطوة بأنها “قرار تاريخي، فهذا أكبر توزيع لمخصصات حقوق السحب الخاصة في تاريخ الصندوق، وهو بمثابة حقنة لقاح في ذراع الاقتصاد العالمي أثناء أزمة غير مسبوقة (جائحة كورونا)”.
تصريحات مظلِّلة
في تصريح خاص لـ”نون بوست”، قالت الباحثة في الاقتصاد، جنات بن عبد الله، إن التعاطي الإعلامي مع المؤشرات الاقتصادية يسوده كثير من التظليل والمغالطات، مشيرة إلى أن مؤسسات الدولة الرسمية لم تعطِ توضيحات بشأن طريقة صرف مبالغ حقوق السحب الخاصة التي تحصّلت عليها من صندوق النقد الدولي.
أشارت الباحثة أيضًا إلى المغالطات التي يسوقها بعض الخبراء من أن تونس قادرة على صرف هذا المبلغ وضخّه في الدورة الاقتصادية أو استغلاله في خلاص أجور الموظفين، مؤكّدة أنه في أقصى الحالات سيتمّ استغلاله لدعم مخزون البلاد من العملة الصعبة.
في سياق متّصل، فإنّ حصول تونس على حصتها من حقوق السحب الخاصة لم يكن بمجهود من الرئيس قيس سعيّد كما يروِّج له البعض لأغراض سياسية، فصندوق النقد الدولي طرحَ هذه الآلية لدعم الدول على مجابهة تداعيات جائحة كورونا، والتي تهدف إلى إنشاء أصول خارجية لمساعدة البلدان الهشّة التي تفتقر إلى القدرات مثل البلدان المتقدمة القادرة على طباعة العملة الصعبة في أوقات الأزمات.
فدولة مثل تونس لا يُمكنها طباعة سوى الدينار المحلي الذي لا يستخدَم في دفع ثمن الواردات (بالدولار)، لذلك أنشأ صندوق النقد الدولي عملة فوق وطنية يوزِّعها على جميع الدول الأعضاء وفقًا لثقلها الاقتصادي، وبالتالي إن حقوق السحب ليست عملة يمكن تبادل معناها بين الجهات الفاعلة الاقتصادية بل مع البنوك المركزية، ما يعني أن حصة تونس ستبقى في البنك المركزي (مستقل) ولن تُضخّ في الدورة الاقتصادية.
أمّا طرق صرفها، فيمكن للبنك المركزي التونسي تحويلها إلى نقود عن طريق بيعها إلى البنوك المركزية الأخرى مقابل الدولار أو اليورو، عبر آلية يقدمها صندوق النقد الدولي لتسهيل هذه التبادلات، كما يمكنه استخدامها في سداد اعتمادات صندوق النقد الدولي.
يذكر أن البنك المركزي احتفظ بحقوق السحب الخاصة عام 2009، عندما طرح صندوق النقد الدولي هذه الآلية بمبلغ أقل بمرّتَين لمجابهة تأثيرات الأزمة المالية العالمية لعام 2008، حتى عام 2014 عندما بدأ بيعها بين عامَي 2014 و2016 بسبب الضغط على احتياطاته والحاجة إلى التمويل الخارجي.
الأزمة الراهنة التي تعيشها البلاد تتطلب استقرارًا سياسيًّا بدرجة أولى، وإصلاحات عميقة وموجعة يقودها رئيس حكومة ذو خلفية اقتصادية وكفاءة، قادر على طرح بديل تنموي نهضوي يقطع مع التبعية والمديونية، ودون ذلك فإن تونس ستعرفُ إفلاسًا وشيكًا.