مع قرب إجراء الانتخابات المبكرة في العراق في 10 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، تواصل الكتل السياسية والفصائل المسلحة تحث الخطى نحو تأمين حظوظها الانتخابية، بعيدًا عن أي مفاجآت قد تفرزها صناديق الانتخاب، في ظل خشية كبيرة من تصاعد السخط الشعبي على سوء الإدارة والخدمات، إذ وجدت القوى الساعية للمشاركة في الانتخابات فرصةً جيدةً لإعادة توظيف القانون الانتخابي بالشكل الذي يزيد من فرص فوزها.
فكما هو معلوم فإن الانتخابات المقبلة ستجري وفق الدوائر المتعددة، عبر تقسيم المحافظة إلى عدة دوائر انتخابية، وعلى الرغم من أن هذا القانون يفسح المجال لمزيد من المنافسة الانتخابية، وتحديدًا المرشحين المستقلين، فإن هذه القاعدة الانتخابية على ما يبدو غير متوافقة مع الحالة العراقية، فالمرشح الذي يمتلك ثلاثية المال السياسي والسلاح والعشيرة، قد يقطع نصف الطريق نحو البرلمان المقبل.
هذا الواقع دفع بالكتل والفصائل التي قدمت مرشحيها للاشتراك في الحراك الانتخابي المقبل، نحو إجراء هندسة واضحة في الخريطة الانتخابية، عبر ممارسة العديد من السلوكيات التي تفرغ البيئة الانتخابية من سمة “المنافسة الانتخابية الصحية”، فقد ذهبت بعض الفصائل المسلحة نحو غلق دوائر انتخابية معينة لصالح مرشحين بعينهم، وكذلك ذهبت بعض العشائر نحو تحشيد المناطق التي تمتلك فيها انتشارًا عشائريًا واضحًا لدعم “ابن العشيرة”، إلى جانب سلوكيات أخرى، في مقابل منع المرشحين المستقلين حتى من ترويج دعايتهم الانتخابية في هذه المناطق.
تمثل عملية شراء البطاقات الانتخابية، أحد أبرز أوجه الهندسة الانتخابية في العراق، فقد دأبت العديد من الكتل والفصائل على شراء آلاف البطاقات الانتخابية، مقابل مبالغ مالية بسيطة، هذا إلى جانب تزوير بطاقات انتخابية أخرى من أجل استخدامها في يوم التصويت العام.
وفضلًا عما تقدم شهدت الفترة القليلة الماضية صراعًا بين الفصائل المسلحة لاقتسام أصوات مقاتلي الألوية التابعة للحشد فيما يعرف بالتصويت الخاص في أثناء الانتخابات، وتحديدًا بين كتل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وحركة عطاء التابعة لرئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، عبر قيام الأخير بعمليات نقل وتغيير لعدد من قادة الألوية التابعة للحشد، واستبدالهم بقادة آخرين مقربين له، وهو ما حصل في محافظات ديالى والأنبار، فضلًا عن إعادة 30 ألف منتسب من المفسوخة عقودهم إلى الخدمة في هيئة الحشد الشعبي.
تصاعدت حدة التراشق الانتخابي والرسائل المبطنة بطعم النار، مع قرب موعد الانتخابات، وسط تنافس سياسي محموم لاستقطاب أصوات الناخبين
وهنا يمكن القول إن أحد أبرز التحديات التي تواجهها البيئة الانتخابية اليوم، هي إشكالية الأمن الانتخابي وحصر السلاح بيد الدولة، ورغم الجهود التي تبذلها حكومة مصطفى الكاظمي في تهيئة بيئة آمنة للانتخابات، فإن اشتداد الصراع الانتخابي بين الفصائل المسلحة من جهة، وسطوة المال السياسي من جهة أخرى، قد تنعكس سلبًا على العملية الانتخابية والمشهد السياسي، وتحديدًا في مسألة قبول نتائج الانتخابات في الدوائر الانتخابية التي يتنافس فيها مرشحو الكتل والفصائل، ما قد يدفع البلاد نحو مزيد من الفوضى السياسية.
وفي ذات السياق، تصاعدت حدة التراشق الانتخابي والرسائل المبطنة بطعم النار، مع قرب موعد الانتخابات، وسط تنافس سياسي محموم لاستقطاب أصوات الناخبين، فقد شهدت مدن عراقية منذ أيام صراع سياسي كبير بلغ حد حرق الدعايات الانتخابية لبعض الأحزاب، وإتلاف إعلانات أخرى والتلاعب بأماكنها، وسط دعوات لتدخل حكومي وضبط إيقاع نشاط الكتل والفصائل وضمان نزاهة التنافس وحرية الترويج الانتخابي، فسيشارك في الانتخابات المقبلة أكثر من 3200 مرشح يتنافسون على الفوز بما مجموعه 329 مقعدًا برلمانيًا موزعًا على 83 دائرة انتخابية، وهؤلاء المرشحون يمثلون كل التوجهات السياسية وكل مناطق العراق من دون استثناء.
ورغم التحذيرات التي اطلقتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وقيادة العمليات المشتركة بشأن حماية الانتخابات المقبلة، فضلًا عن مدونة السلوك الانتخابي التي وقعتها القيادات والزعامات العراقية، لا يزال الأمن الانتخابي مهددًا، ففي الوقت الذي أعلنت فيه المفوضية فقدان أحد موظفيها وبحوزته حاسبة (كومبيوتر) تحمل بيانات انتخابية في بغداد، فإن قيادة العمليات المشتركة أعلنت من جهتها اتخاذها عقوبات صارمة بحق كل من يتلاعب أو يسيئ إلى العملية الانتخابية.
وقالت مفوضية الانتخابات إن أحد موظفيها المنسوب إلى مركز انتخابات اليوسفية 1125، الذي كلف بتحديث حاسبة القطع الخاصة بالمحافظة، فُقد بعد إنجاز عمله وبحوزته جهاز الكمبيوتر، وأجهزة الذاكرة الخاصة بالمركز، وأشارت إلى أنه “تم تبليغ كل الأجهزة الأمنية بذلك”.
البيئة الانتخابية في العراق تواجه تحديًا حقيقيًا متمثلًا بغياب التقاليد الانتخابية الصحية
وبالإضافة إلى كل ما تقدم، ذهب العديد من المرشحين إلى ممارسة عملية إقناع للناخبين تتعلق بالوعود الانتخابية، إلى جانب ما تم اتخاذه من إجراءات تتعلق بالسلوكيات التي تم الإشارة إليها أعلاه، خصوصًا فيما يتعلق بوعد الناخبين بدرجات وظيفية لا أساس قانوني لها.
وفي هذا السياق أكدت اللجنة المالية في البرلمان العراقي عدم مصداقية الوعود بالتعيين التي يطلقها المرشحون للانتخابات المقبلة، فقد قال عضو اللجنة جمال كوجر في تصريح له إن قانون الموازنة للعام الحاليّ لا يتضمن تخصيص درجات وظيفية، كما أن موازنة العام المقبل لم تقدم حتى الآن وعلى الأغلب لا تحتوي على تخصيصات للتعيينات، وأضاف أن الوعود بالتعيين التي يطلقها المرشحون غير مصداقية، وعلى السلطات التدخل لوقف تلك الممارسات غير القانونية.
يبدو واضحًا أن البيئة الانتخابية في العراق تواجه تحديًا حقيقيًا متمثلًا بغياب التقاليد الانتخابية الصحية، خصوصًا تلك التي تتعلق بأخلاقيات المنافسة الانتخابية وأرجحية البرامج المقدمة من المرشحين، فالتسابق الانتخابي نحو اكتساب أصوات الناخبين بطرق وممارسات انتخابية غير قانونية، يؤشر إلى أن الانتخابات المقبلة قد لا تؤسس لواقع سياسي مستقر في المرحلة المقبلة، إلى جانب كونها ممارسات ستفرغ العملية الانتخابية من محتواها الحقيقي في معالجة سلبيات المرحلة الماضية.