بات السودان على وقع أزمة جديدة تضاف إلى سلسلة الأزمات التي يواجهها منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، غير أن الأزمة هذه المرة بين شركاء المرحلة الانتقالية الهشة، فقد تصاعد الخلاف بين المكونين، العسكري والمدني، على وقع الاحتجاجات التي تشعل المنطقة الشرقية منذ أكثر من أسبوع.
سجال إعلامي متبادل بين مسؤولي المكونين، في ظاهرة تعكس حجم الاحتقان المكبوت بينهما رغم المغازلات الكلامية التي يستعرضاها بين الحين والآخر لتقديم صورة مشرقة مغايرة للمشهد الذي يعاني من شروخات حادة ربما تذهب بالبلاد إلى مستنقع الفوضى وتعيده إلى ما قبل ديسمبر/كانون الأول 2018.
مخاوف عدة تخيم على المدنيين جراء نوايا الجنرالات المبيتة بشأن الانقلاب على الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها في أغسطس/آب 2019 بين تحالف قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري السوداني، التي بمقتضاها ستؤول الرئاسة إلى المكون المدني بعد انتهاء فترة المكون العسكري المقرر لها نهاية نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
استشعار الخطر دفع بعض القوى المدنية المشاركة في التحالف إلى التحذير من العودة للخلف مرة أخرى، داعية إلى استعادة الروح الثورية مرة أخرى، والدفاع عن مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول في مواجهة ما أسموه “مساعي العسكر لإجهاض عملية التحول الديمقراطي والاستئثار بالسلطة دون غيرهم”.
سجال وتبادل الاتهامات
تصاعدت وتيرة الخلاف بين العسكريين والمدنيين مؤخرًا جراء حزمة من المستجدات التي كشفت النقاب عن حجم الخلاف الكبير الذي ظهر للعلن رغم مساعي مداراة عورته، البداية كانت مع اعتراض المدنيين على دمج “فلول” النظام السابق إلى عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد.
تزامن ذلك مع الاحتجاجات التي تشعل المنطقة الشرقية منذ الجمعة 17 من سبتمبر/أيلول 2021 التي عزلت العاصمة عن موانئ البلاد، وأغلقت العديد من الطرق الرئيسية التي أصابت ولايات الشرق بالشلل التام، وسط المطالبة بإقالة الحكومة وتحذيرات من التصعيد حال عدم الاستجابة.
وتفاقم الوضع أكثر مع الإعلان عن محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها عدد من الضباط، في 21 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، وسط تباين في التصريحات بشأن الجهة التي تقف خلفها، بين اتهامات لجنرالات المجلس السيادي برئاسة عبد الفتاح البرهاني ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) وفلول الإنقاذ داخل المؤسسة العسكرية، في مقابل اتهامات عسكرية للمدنيين بتحمل مسؤولية تأزم الوضع بسبب الفشل في التعامل مع عدد من الملفات الحياتية، الأمر الذي زاد من حدة الاحتقان الشعبي.
أحدثت تلك الأجواء شرخًا جديدًا في جدار العلاقة بين المكونين، وهو ما وثقته الانتقادات اللاذعة التي وجهها البرهان ونائبه حميدتي لـ”السياسيين”، واتهمهم بالتسبب في وقوع محاولة الانقلاب الفاشلة، فقد اتهم رئيس المجلس السيادي “قوى سياسية بأن كل همّها هو القتال من أجل الكرسي”، وقال: “بعض القوى السياسية تتجاهل معاناة المواطن وتركز على الإساءة للقوات المسلحة، ولن نقبل بأن تتسلط علينا أي قوى سياسية وتوجه لنا الإساءات”.
البرهان خلال حفل تخريج دفعة من ضباط القوات الخاصة في القوات المسلحة بأم درمان، أكد أنه “لا يمكن أن تمضي البلاد إلى الأمام بواسطة جهة واحدة، فكلنا شركاء في حماية البلاد، ولا بد أن نتوحد، سياسيين وعسكريين لإنجاح الفترة الانتقالية حتى الوصول لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية”، منوهًا أن “شعارات الثورة ضاعت في الصراع على الكراسي والسلطة”، معلنًا أن “السلطة ستعمل على بناء الوطن مع القوى الوطنية المؤمنة بالانتقال الديمقراطي”.
وفي رسالة لوم صريحة للمكون المدني اعتبر أن الجيش ترك “العمل التنفيذي للسياسيين، لكن المسألة انحرفت عن مسارها الصحيح”، وتابع “نعمل وحدنا من دون دعم من الحكومة المدنية، فلا توجد حكومة منتخبة، ونحن أوصياء رغم أنف الجميع على وحدة السودان وأمنه”، مختتمًا حديثه بكلمة قال فيها: “أقول للشركاء السياسيين يجب أن نعمل معًا من دون إقصاء أي طرف من شركاء الفترة الانتقالية، ولن نسمح لأحد بالاستئثار بالحكم في المرحلة الانتقالية”.
بدوره دخل حميدتي على خط السجال قائلًا: “بشكل واضح وصريح، أرى أن السبب في تكرار محاولات الانقلاب هم السياسيون الذين أعطوا الفرصة لقيام الانقلابات”، مغردًا على نفس اللحن البرهاني مضيفًا “السياسيون أهملوا المواطن وخدماته الأساسية وانشغلوا بالصراع على الكراسي والمناصب، ما خلق حالة من عدم الرضا والتململ وسط الشعب”.
تصريحات جنرالات المجلس السيادي والمكون العسكري بصفة عامة أثارت مخاوف الشارع السوداني بشأن الانقلاب على مكتسبات الثورة وإزاحة المدنيين عن المشهد الذي يبدو أن العسكر يخطط للاستيلاء عليه شكلًا ومضمونًا
وألمح الجنرال إلى أن محاولة الـ17 من سبتمبر/أيلول ليست الأولى، زاعمًا التصدي لعدد من المحاولات الانقلابية خلال الآونة الأخيرة، داعيًا إلى التخلي عن تخوين المؤسسات الوطنية، مؤكدًا “لا نحمل مطامع، ولا نسعى لمكاسب شخصية، ولا مخرج للسودان من أزمته إلا بتوحيد الكلمة ورفض محاولات الإقصاء”.
حميدتي في تصريحات لوكالة الأنباء السودانية أوضح “ما في زول يهددنا بالمجتمع الدولي، إحنا لنا معه (المجتمع الدولي) كلام.. هم قاعدين (يقصد المدنيين) يروجوا إن الناس ديل (العسكريين) دايرين يعملوا انقلاب.. عشان يستعطفوا الشعب والمجتمع الدولي”، رافضًا اتهامات القوى المدنية للعسكريين بالخصم من رصيدهم السياسي، قائلًا: “زول أنت حاميه وحارسه، معقول زول يقول إحنا خصمنا من رصيده السياسي.. والله ما في ترابيزة تاني نقعد إلا بالوفاق، فيه وفاق نقعد معاه، لكن ما في وفاق والله ما في ترابيزة نقعد معه اليوم”.
التصريحات الجنرالية أثارت حفيظة عدد من الساسة ورؤساء الأحزاب، فقد أكد حزب المؤتمر السوداني أنه “لا توجد جهة بعينها تعد وصية على السودان”، مؤكدًا في بيان له أن “الشعب وحده هو الذي يملك قراره”، معلنًا رفضه اتهامات رئيس مجلس السيادة للقوى السياسية، مؤكدًا أن تلك التصريحات خطيرة وغير مقبولة.
وكان عضو لجنة إزالة التمكين، المعنية باسترداد الأصول المالية للنظام السابق، وجدي صالح، في تصريحات سابقة له قال: “من يريد حماية الثورة والتحول الديمقراطي عليه اتخاذ خطوات عملية لإعادة هيكلة تلك المؤسسات وتفكيكها وتنقيتها من الكيزان فلول النظام المباد”، مضيفًا “وإلا دا بيبقى كلام ساي ما بيمشي على قوى الثورة والثوار. ألم نتفق على ذلك؟ يبدو أنهم لم يستوعبوا الدرس”.
تصاعد المخاوف
تصريحات جنرالات المجلس السيادي والمكون العسكري بصفة عامة أثارت مخاوف الشارع السوداني بشأن الانقلاب على مكتسبات الثورة وإزاحة المدنيين عن المشهد الذي يبدو أن العسكر يخطط للاستيلاء عليه شكلًا ومضمونًا وهو ما تعكسه العديد من المؤشرات.
تجاهل العسكر لاحتجاجات الشرق المندلعة منذ أكثر من عشرة أيام رغم ما تحمله من خطورة إستراتيجية، أثار قلق كثير من المتهمين بالشأن السوداني، وزاد من الشكوك بشأن نوايا المكون العسكري، لا سيما أن هذا الإقليم يتحكم في أكثر من 70% من حركة التجارة الخارجية للبلاد، هذا بخلاف تأثيرها في حركة نقل المواد النفطية التي تشكل المكون الأبرز لموازنة جنوب السودان، الأمر الذي كان يتطلب تدخلًا فوريًا وسريعًا لإنهاء تلك الفوضى، وهو ما لم يحدث.
هذا الموقف السلبي للعسكر إزاء الفوضى التي تحياها ولايات الشرق، مقارنة بردود الفعل حيال أي تحركات مشابهة في مناطق أخرى، دفعت البعض إلى رغبة المكون العسكري في إحداث تغيير في موقع رئاسة المجلس الانتقالي، بما يمهد نحو استمرارهم لفترة قادمة أطول، فمن المقرر أن يغادروا قمة الهرم السلطوي لصالح المدنيين، نوفمبر/تشرين الثاني، وفق الوثيقة الدستورية.
القيادي في قوى الحرية والتغيير، عادل خلف الله، ألمح في حديثه لـ”القدس العربي” إلى وجود علاقة بين حالة الانفلات الأمني التي تشهدها البلاد وموعد انتقال رئاسة مجلس السيادة، إلى المدنيين، هذا بخلاف التلويح إلى وجود أيادٍ خارجية متورطة في تأجيج الفوضى وزيادة حدة الاحتقان ضد الحكومة المدنية والقوى الثورية، وهو ما يصب في النهاية في صالح المكون العسكري.
مواكب الحكم المدني.. إنقاذ ما يمكن إنقاذه
الأجواء الملبدة بغيوم الفوضى وتجاهل التعامل معها عسكريًا، في مقابل التصريحات التصعيدية ضد المدنيين ومخطط زيادة الاحتقان الشعبي حيالهم، وتحميلهم – وحدهم – مسؤولية الإخفاق، كل هذا دفع العديد من القوى الثورية لاستشعار الخطر إزاء مستقبل البلاد الديمقراطي، إذ تلوح في الأفق مخطط عسكرة الدولة مرة أخرى.
“تجمع المهنيين السودانيين” دعا في بيان له على صفحته على فيسبوك، إلى تنظيم مليونية جماهيرية تحت مسمى “مواكب الحكم المدني” تنطلق بدءًا من 30 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، تهدف – من خلال مسماها – إلى الحفاظ على مكتسبات الثورة من حيث مدنية الدولة والانتقال الديمقراطي وإنهاء حكم العسكر.
التجمع استند في دعوته إلى “استشعارًا منا كقوى حماية الثورة ممثلة في لجان المقاومة والأجسام المطلبية والمهنية والحركات النسوية لضرورة استكمال مهام ثورة ديسمبر وتحقيق أهدافها وشعارها “حرية، سلام، وعدالة” وحتى نتمكن من بناء دولة الحقوق والمواطنة وإنفاذ العدالة يجب علينا جميعًا التوحد وترك الخلافات جانبًا لدعم التحول الديمقراطي وتفويت الفرصة على الانقلابين وفلول النظام البائد”.
وأضاف “المحاولات اليائسة من فلول النظام البائد وبمباركة قادة المجلس العسكري ما هي إلا تمهيد لما هو قادم وتدق ناقوس خطر إفشال الفترة الانتقالية بأيدي المتربصين”، محملًا السلطة القائمة بمكونيها العسكري والمدني، مسؤولية تفاقم الأزمة القائمة، “ووضع الفترة الانتقالية في المحك والابتعاد عن أهداف الثورة، والفشل في تحقيق إصلاح اقتصادي يكون هدفه تحسين الأوضاع المعيشية وتوفير حياة كريمة للشعب السوداني”.
الموقعون على البيان أكدوا دعمهم الكامل لعملية التحول الديمقراطي في السودان وصولًا إلى انتخابات حرة ونزيهة يرتضيها الشعب السوداني، رافضين محاولة العودة إلى الشمولية عبر الانقلاب العسكري أو سواه، رافعين عدد من المطالب أبرزها: – استكمال هياكل السلطة الانتقالية وتكوين مجلس تشريعي ثوري حقيقي حتى يتم عن طريقه إجازة كل القوانين المطلوبة تحقيقًا لمبدأ (حكم الشعب بالشعب)، هيكلة القوات النظامية حيث أدى تأخير هذه المهمة إلى الفشل في التصدي لأزمة السيولة الأمنية المفتعلة، – إصلاح المنظومة العدلية وتكوين المحكمة الدستورية، إلغاء مجلس شركاء الفترة الانتقالية، مؤكدين “لن ننتكي ما لم يتم تنفيذ المطالب كاملة ولن نقبل بأي وعود تخديرية بتنفيذها”.
بعيدًا عن مخطط عسكرة الدولة وعودة عقارب الحياة السياسية للخلف مرة أخرى، فإن المكون المدني يتحمل جزءًا كبيرًا مما وصلت إليه الأوضاع من تردٍ، إذ يعاني تحالف قوى الحرية والتغيير، ممثل المدنيين بالسلطة الانتقالية، من تشرذمات وشروخات كبيرة، أدت إلى تقديم العديد من القوى المنضوية في التحالف لاستقالتها، ما أسفر عن إضعافه في مواجهة المكون العسكري.
الرهان على وعي الشعب السوداني في مقاومة الحكم العسكري الشمولي من جانب ودعم المجتمع المدني للانتقال الديمقراطي المدني من جانب آخر، رهان لا يمكن التعويل عليه في الحالة السودانية التي تعاني من تشرذمات عدة
محاولة الانقلاب الفاشلة جاءت بمثابة جرس إنذار للقوى المدنية لإعادة النظر في تموضعها الحاليّ وضرورة طي صفحة الخلافات البينية لاستعادة اللحمة مرة أخرى والعمل بروح واحدة نحو تعزيز الرصيد الشعبي الذي يتناقص شيئًا فشيئًا خلال الفترة الماضية، من أجل التصدي لأي محاولات خارجية كانت أو داخلية لإجهاض مكتسبات الثورة التي رفعت شعار المدنية والديمقراطية كعنوان بارز لها في مواجهة دولة العسكر النظامية.
الرهان على وعي الشعب السوداني في مقاومة الحكم العسكري الشمولي من جانب ودعم المجتمع المدني للانتقال الديمقراطي المدني من جانب آخر، رهان لا يمكن التعويل عليه في الحالة السودانية التي تعاني من تشرذمات عدة وتموضعات متباينة في ظل تعدد الأجندات العابثة في الداخل.
وفي الأخير.. كان الشارع صاحب الكلمة العليا في الإطاحة بنظام البشير، كما كان له القول الفصل في إنجاح الثورة في تحقيق مطالبها، وهو الأداة ذاتها التي يلعب عليها المكون العسكري حاليًّا لسحب البساط من تحت أقدام الحكومة المدنية، استغلالًا لحالة الفجوة التي تتسع يومًا بعد الآخر بينه والقوى الثورية.. فهل يعي المدنيون الدرس جيدًا قبل فوات الأوان؟