بعد أن مدّد قيس سعيد تدابيره الاستثنائية التي أعلنها في 25 يوليو/ تموز، وإعلانه مؤخرًا من سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية والشرارة الأولى للربيع العربي عن فرض تدابيره الانتقالية معلقًا العمل بالدستور، يعود الشارع التونسي إلى الحراك وسط تطلعات المعارضين بتشكيل قوّة ضغط قادرة على الوقوف في وجه الرئيس الساعي إلى تغيير النظام والانفراد المطلق بالحكم.
مظاهرات
تجمع بضع آلاف من التونسيين أمام المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة رافعين شعارات مناوئة لانقلاب الرئيس قيس سعيد واجراءاته الاستثنائية، داعين إلى التمسك بثوابت الثورة واستحقاقاتها وبدستور 2014، وذلك تلبية لدعوات أطلقها نشطاء وسياسيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف الضغط على الرئيس سعيد ودفعه إلى التراجع عن خطواته.
For the first time since Saied’s power grab on July 25th, a critical mass of people have gathered to protest his consolidation of power. #Tunisia pic.twitter.com/lHx8AEfjP1
— Erin Brown (@erinclarebrown) September 26, 2021
المظاهرة تُعد التحرك الثاني لمعارضي سعيد في الشارع بعد وقفة جرت يوم 18 أيلول/سبتمبر الجاري بدعم من عدة أحزاب رفضت خطوة الرئيس الذي يتولى السلطة التنفيذية والتشريعية بشكل كامل، عبر تنظيم مؤقت للسلطات العمومية.
من شارع الثورة، أين سقط نظام بن علي في 14 يناير 2011، هتف المحتجون وهتف المحتجون من أمام بناية المسرح البلدي “يسقط الانقلاب” و”ديقاج” و”يا تونسي ثور ثور الانقلاب خرق الدستور” و”الشعب يريد عزل الرئيس”، منددين بإقدام مناصري سعيد على حرق نسخ من الدستور وتمزيقه ومطالبين بتتبّعهم قضائيا وملاحقتهم.
المظاهرة سجلت حضور مختلف الفاعلين السياسيين كالقياديين في حركة النهضة سمير ديلو وعبد الحميد الجلاصي ونائب رئيس البرلمان سميرة الشواشي والنائب عياض اللومي ورضا بالحاج، ومحامين وحقوقيين وشخصيات وطنية كالعياشي الهمامي وأخرى تمثل المنظمات وجمعيات المجتمع المدني.
في سياقٍ متصل، أغلقت قوات الأمن التونسي المنافذ المؤدية إلى شارع بورقيبة أمام السيارات، فيما انتشرت عناصر الشرطة بكثافة وسط الشارع والمناطق القريبة منه، وذلك قبل ساعتين من انطلاق الوقفة الاحتجاجية التي دعا لتنفيذها حراك “مواطنون ضد الانقلاب”.
المحتجون اتهموا أجهزة الأمن ووزارة الداخلية بفرض حصار شامل على القادمين من المناطق الداخلية ومنعهم من الوصول إلى الشارع الرئيسي في العاصمة تونس، كما تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات تصور الإجراءات المشددة التي يفرضها الأمن على الحافلات القادمة من المحافظات الأخرى.
نجاح الشارع
يُراهن معارضو قيس سعيد في تونس على تشكل رأي عام رافض للانقلاب واجراءاته غير الدستورية من خلال النزول والضغط على الرئيس للتراجع عن خطوات تعليق الدستور واستبداله بالقوانين المنظمة للسلطة العمومية.
الرافضون يدركون أن للشارع تونسي كلمة الفصل في تغيير موازيين القوى وتوجيه دفة الأوضاع بما يخدم الصالح العام، حيث أثبتت التجربة قدرته على الضغط وفرض صوته في أكثر من مناسبة وخاصة بعد الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية، ما أنتج سياسة التوافق بين النهضة ونداء تونس التي جنبت البلاد السقوط في حرب أهلية.
أمّا حديثًا، فإن الشارع التونسي من شأنه أن يجمع الأحزاب على كلمة سواء وهي رفض الانقلاب وتدابيره التي تمهد لحكم فردي مطلق، وسيكون نقطة التقاء لجميع المعارضين بمختلف مرجعياتهم الإيديولوجية.
فالمعلوم، أنّ أغلب الأحزاب واتحاد الشغل باعتباره المنظمة النقابية الكبرى في البلاد، أعلنوا رفضهم لخطوة الرئيس بإلغاء العمل بمعظم الدستور، ووصفوا قراراته بالخروج على الشرعية، فيما أعلنت أربعة أحزاب “تحالفًا ديمقراطيًا” من أجل “مواجهة انقلاب قيس سعيّد”، مبدية انفتاحها على “جميع القوى السياسية والشخصيات الوطنية التي تعارض الانقلاب في إطار الدستور والقانون وبالوسائل السلمية وحدها لا غير”.
أربعة أحزاب تونسية تهب إلى إصدار بيان تدعو فيه إلى مقاومة “خطرٍ داهمٍ على الدولة و #الديمقراطية” … إلى ماذا دعت الأحزاب؟#تونس #قيس_سعيّد https://t.co/94vye96XKy
— DW عربية (@dw_arabic) September 23, 2021
وكانت أحزاب التيار الديمقراطي والحزب الجمهوري وآفاق تونس والتكتل قالت في بيان مشترك إن هذه الخطوة تكرس الانفراد المطلق بالحكم، ما يعني أنه من المرجح أن تكثف هذه الأحزاب من تحركاتها التصعيدية على الأرض رغم أنّها لا تمثل قوة على الساحة السياسية باستثناء التيار الذي كان مقربًا من الرئيس قيس سعيد.
الأحزاب لم تكون الجهة الوحيدة التي تعمل على جس نبض الشارع وموازين القوى الشعبية، فاتحاد الشغل بدوره سيعمل على قراءة المظاهرة الأخيرة لبلورة موقفه من الأزمة ومجرياتها، خاصة وأنّ حذر سابقًا في بيان، من مخاطر حصر السلطات في يد الرئيس قيس سعيّد وقال إن احتكاره لتعديل الدستور والقانون الانتخابي “خطر على الديمقراطية”.
المنظمة النقابية شدّت أيضًا على أن تعديل الدستور والقانون الانتخابي شأن “يخص جميع مكونات المجتمع من هياكل الدولة ومنظمات وجمعيات وأحزاب وشخصيات وطنية”، رافضة احتكار رئيس الجمهورية التعديل، معتبرة ذلك “خطرا على الديمقراطية وعلى التشاركية”.
الاتحاد إلى الآن مازال يصر على أن الخروج من الأزمة الراهنة لن يكون إلا بالتشاور والتشارك والحوار على “قاعدة المبادئ الوطنية وسيادة تونس وخدمة شعبها والتجرد من المصالح الذاتية والفئوية”، في إشارة إلى مبادراته السابقة التي طرحها كخارطة طريق ورفضها سعيد في أكثر من مرة.
لعبة الشارع قد تستهوي قيادات الاتحاد التي لن ترضى أن تكون عجلة خامسة في الأزمة الراهنة وحلولها، وهي تدرك أيضا أن رفض سعيد وتعنته في قبول مبادرتها يعني أن رحاه قد تبتلع المنظمة الشغيلة بعد أن تجرف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
هذا الطرح تؤكده تصريحات قيادات المنظمة التي عبرت عن الاستياء من “تغييب رئيس الجمهورية للاتحاد العام التونسي للشغل، وتجاهل دوره الوطني منذ تأسيسه”، وأكّدت على أنّ إنقاذ البلاد لن يتم دون استشارة اتحاد الشغل والمنظمات الوطنية الأخرى، ودون الجلوس على طاولة الحوار والتشاركية بين جميع الأطراف، حتى وإن اختلفت في الآراء.
توسيع دائرة الحراك الشعبي ستعطي دفعة وجرعة جديدة للمنظمات من أجل مقاومة مشروع قيس سعيد، وذلك بعد أن أعلنت 18 منظمة حقوقية تونسية ودولية رفضها في بيان مشترك، قرارات الرئيس التونسي، التي عزز بموجبها صلاحياته في الدستور على حساب الحكومة والبرلمان، واعتبرتها انفرادًا بالحكم وانحرافًا غير مسبوق، وأشارت إلى أنه عكس القاعدة العامة لعلوية الدستور، بإعطائه المراسيم الرئاسية مرتبة قانونية أعلى من الدستور”، كما ندّدت بـالاستحواذ على السلطة في ظل غياب أي شكل من أشكال الضمانات.
حراك خارجي
على الصعيد الخارجي، فإن تأثيرات الشارع التونسي ستتجاوز الحدود الجغرافية للبلاد وسترسل مؤشرات قوية أن إجراءات الرئيس قيس سعيد ليست مقبولة لدى عموم الشعب وأن أنصار الانقلاب ليسوا إلا زمرة لا يمثلون أغلبية تذكر.
تأثير الشارع وجد صداه لدى الإعلام الغربي الذي بدأ يدرك أن خطوة سعيد انقلاب صرف على الثورة واستحقاقاتها وهي نتاج هاجس شخصي مغلف بشعبوية قد تقود تونس إلى الهاوية وقد تعصف بالمسار الانتقالي على هشاشته، حيث أوردت صحيفة لوموند الفرنسية افتتاحية بعنوان: ” تونس في مواجهة الانجراف الاستبدادي لرئيسها قيس سعيد”.
Enquête | La Tunisie face à la dérive autocratique de son président, Kaïs Saïed https://t.co/DG7FRZJyeR
— Le Monde Live (@lemondelive) September 25, 2021
مراسل لوموند فريدريك روبين”، أوضح أن قيس سعيد، ذلك “الرجل اللغز” أدخل تونس منذ انقلابه قبل شهرين في مسارات سلطة الفرد المحفوفة بالمخاطر، ضاربا بقواعد العمل السياسي عرض الحائط ومفلتا بذلك من الأنماط والنظم المتفق عليها.
على الجانب ذاته، فإن تأثيرات الشارع ستلقى صداها لدى صناع القرار الدوليين خاصة في أوروبا وأمريكا وستعزز من قراءتهم وتصوراتهم للأزمة التونسية، وتزيد من مخاوفهم كالتي أعلن عنها سابقًا المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، حيث عبّر عن قلق الولايات المتحدة الأمريكية من أن “الإجراءات الانتقالية مستمرة دون أجل محدد”، وفق تعبيره.
المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: نشعر بالقلق من استمرار التدابير الاستثنائية في تونس وندعو الرئيس إلى وضع خطة ذات جدول زمني واضح #قلق #الخارجية_الأمريكية #خطة #التدابير_الاستثنائية #نيد_برايس #جدول_زمني https://t.co/lsreQ72HXP
— Nessmatv (@Nessmatv) September 25, 2021
وأكد، وفق ما جاء في بيان للسفارة الأمريكية بتونس على صفحتها بموقع التواصل فيسبوك، أن “على الرئيس قيس سعيّد أن يعين رئيسًا للوزراء لتشكيل حكومة قادرة على تلبية تلك الاحتياجات الملحة”، داعيًا الرئيس لـ”صياغة خطة ذات جدول زمني واضح لعملية إصلاح شاملة للجميع تضمّ المجتمع المدني والأصوات السياسية المتنوعة”.
لذلك فالشارع يمكنه أن يدفع الموقف الأمريكي إلى التطوّر استكمالًا للرسائل التي بعثت بها واشنطن مرارًا عبر قنوات دبلوماسية مختلفة إلى تونس، تدعو سعيد إلى إنهاء الوضع الاستثنائي والتعجيل بتركيز حكومة جديدة وإعادة الديمقراطية البرلمانية.
كما يُعزز مطالب المشرعين الأمريكيين بضرورة دعوة سعيد إلى التراجع عن قراراته، خاصة بعد الرسالة المفتوحة التي وجهها عدد من أعضاء الكونغرس للإدارة الأمريكية مطالبين بتفعيل عقوبات إن اقتضى الأمر ضد الشخصيات التي اعتبروها مسؤولة عن انقلاب الرئيس قيس سعيد على الدستور.
راهن سعيد على نقمة الشارع التونسي على الطبقة السياسية التي يحملها مسؤولية الأزمات المتتالية التي تعصف بالبلاد، واستثمر في غضب الجماهير، لكنه أسقط من حساباته أن ذات الشعب تعلم من تجاربه السابقة أنواع وأساليب الدكتاتورية من الناعمة إلى الجافة وأدرك مؤخرًا أن الرئيس “المتوتر” لا ينتمي لكليهما.