لمدة 6 أيام متواصلة، من الثلاثاء إلى الأحد، شهد مطار أتاتورك الواقع في الشطر الأوروبي من مدينة إسطنبول، زخمًا دوليًّا كبيرًا، حيث كانت السلطات التركية تنظِّم واحدًا من أهم الأحداث الكبرى في البلاد خلال السنوات القليلة الماضية.
يقول الخبراء إنه إذا أردنا وصف هذا المهرجان، تكنوفيست، المتخصص في الطيران والفضاء والتكنولوجيا، كما يُطلق عليه منظِّموه، بكلمات مفتاحيّة موجزة، فإنه مهرجان دولي، شبابي، تقني، تنافسي، مفتوح، مستدام، متنامٍ ومدعوم بقوة من الدولة التركية.
جاءت النسخة الرابعة من هذا المهرجان، كما رصدنا، مختلفة كثيرًا عن النسخ السابقة، من حيث الظروف والمنظِّمين والشخصيات المرموقة الحاضرة وما كُشف عن مستقبل المهرجان، وصولًا إلى المفاجآت التقنية الجديدة التي شهدتها هذه النسخة.
الاستقبال والافتتاح
رغم بداية المهرجان رسميًّا يوم 21 سبتمبر/ أيلول الحالي، كما تنصّ أجندة التنظيم، فإنه بدأ على أرض الواقع قبل ذلك ببعض الوقت، إذ زيّنت طائرات سلاح الجو التركي سماء إسطنبول والبوسفور بعروض جوية مثيرة قبل يوم من تدشين تلك النسخة، إيذانًا باقتراب انطلاق المهرجان.
فقد حلّقت في الأجواء التركية طائرات من طرازات مختلفة، مقاتلة ومروحيات ودون طيّار، قادها طيارون أتراك، بالأخص من فرق النجوم وسولو تورك والقفز المظلي، وهو ما خطف أنظار الجمهور من المهتمين وأبناء البلد والسياح الأجانب.
ورغم كونه مهرجانًا تركيًّا خالصًا من حيث الفكرة والتنظيم، إلا أن تلك النسخة تحديدًا شهدت حضورًا ملحوظًا من “إخوة الأتراك”، الآذر، سواء كان ذلك بعروض جوية ثنائية من سلاح الجو الأذربيجاني، أم بما أعلن عنه المنظِّمون عن مستقبل المهرجان وعلاقته بأذربيجان.
من ضمن المفاجآت المبكّرة التي تميزت بها هذه النسخة من تكنوفيست، أنَّ الرئيس التنفيذي للمهرجان كان نجم صناعة المسيّرات التركية خلال تلك الحقبة، مدير شركة “بايكار” المهندس سلجوق بيرقدار، الذي أعلنَ، مع افتتاح المهرجان، أنه سيشهد تحليق طائرات مقاتلة بطيار وأخرى دون طيار في الوقت نفسه.
زيارة أردوغان
يقدَّر حضور المهرجان في الساعات الأولى لافتتاحه بأكثر من 40 ألف شخص، من عشرات الجنسيات، وذلك رغم القيود الإجرائية التي فرضتها السلطات التركية على تلك النسخة، كما حدث مع النسخة السابقة أيضًا، من أجل تقليل فرص انتشار فيروس كورونا.
على عادته، كان الرئيس التركي رجب أردوغان أحد أبرز الحاضرين للمهرجان، المدعوم منه شخصيًّا ومؤسساتيًّا بقوة. صحيح أنه لم يحضر في الساعات الأولى للمهرجان، بسبب التزامات على جدوله الرئاسي، بما في ذلك كلمته باجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أنه خطف الأنظار بحضوره وزوجته إلى المهرجان عبر طائرة مروحية.
حدّدَ الرئيس التركي موضوعات معيّنة تطرّق إليها في كلمته التي أثنى خلالها على المهرجان ومنظميه، بما في ذلك خطط تركيا بعيدة المدى للتقدُّم حتى عام 2071، وكيف تطور المهرجان تنظيميًّا خلال 4 أعوام فقط، حتى بات حضوره يتجاوز الـ 200 ألف شخص، وتضاعفَ سقف جوائزه إلى 12 مليون ليرة، وهو 3 أضعاف المبلغ الذي بدأ به المهرجان عام 2018.
تحدّث العالم التركي الحائز على نوبل عزيز سنجار عن ضرورة أن يتلافى الشباب الأتراك خطأه الشخصي الذي تمثل في اتصاله التقني مع بلاده في سنٍّ متأخرة
كان أردوغان وبيرقدار في مقدمة مستقبلي العالم التركي المرموق عزيز سنجار، الذي نال جائزة نوبل في العلوم عام 2015، بالتقاسم مع كل من بول مودريتش وتوماس لاندال، وهو عالم من مواليد ماردين عام 1946.
أخذ أردوغان بيد سنجار أمام الحضور، وتحدث العالم التركي الأمريكي عن ضرورة أن يتلافى الشباب الأتراك خطأه الشخصي الذي تمثّل في اتصاله التقني مع بلاده في سنٍّ متأخرة، مشدِّدًا على ضرورة أن ينتهزوا الطفرة العلمية الحاصلة في البلاد حاليًّا، كي ينفعوا أوطانهم، كما نالت المشاهد الحميمية بينه وبين بيرقدار استحسان الجميع.
ولكن يبدو أن هذا المشهد الحضاري لم يعجب البعض، حيث انتشر بالتزامن مع ذلك الموقف مقطعُ فيديو غير دقيق معنوَن بعنوان مضلِّل مفاده أن الرئيس التركي يهين سنجار عبر وضع يد العالم أسفل يده، وهو ما أظهر المشهد الحقيقي تضليله، فيما كُشف لاحقًا أن وراء انتشار ذلك المقطع المضلِّل قيادي في جماعة غولن، يقيم في الولايات المتحدة ويدعى إمرة أوسلو.
أبرز المفاجآت
ترتبط أبرز المفاجآت التي كُشف عنها خلال تلك النسخة بذلك المجال الذي برعَ فيه الأتراك بشكل ملحوظ خلال الأعوام الأخيرة، وهو مجال صناعة الطائرات المسيّرة، وما يتصل بها من مشتقات وصناعات داعمة.
أهم ما كشفَ عنه المنظِّمون بخصوص ذلك المجال كان النسخة الجديدة من طائرات بيرقدار، ذات القدرة على الإقلاع والهبوط العمودي، تمامًا مثل المروحيات والمقاتلة الشبحية الأمريكية من الجيل الخامس إف-35.
وفقًا للعرض التقديمي الذي تولّاه بيرقدار بنفسه، فإنَّ ميزة الإقلاع العمودي تلك قد زوِّدت بها هذه الطائرة كي تتلاءم مع المدرَّج الصغير في السفن والقطع البحرية، وهو ما تطلب أن تعمل هذه الطائرات بـ 4 محركات كهربائية، إلى جانب محرك احتراق داخلي يعمل بالبنزين.
شهد المهرجان إزاحة الستار عن تقنيات تركية بارزة بعيدًا عن مجال الطائرات المسيّرة، وإفساح المجال أمام الجمهور لمعاينتها لأول مرة، مثل السيارة التركية الكهربائية الجديدة
يمتلكُ تلك الطائرة ومثيلاتها عددٌ قليل جدًّا من دول العالم، ويمكن للنسخة التركية أن تعمل 12 ساعة متواصلة، على ارتفاع 19 ألف متر، بسرعة تصل إلى 45 عقدة، وقد صُمِّمت بشكل يجعلها أكبر من بيرقدار من الجيل الثاني وأصغر من أقنجي، ومن المفترض أن تدخل الإنتاج الكمّي العام القادم.
في السياق نفسه، كشفَ مسؤولو شركة “توساش” عن إنتاج محرك جديد من التربو ديزل، بقوة 230 حصانًا، من طراز PD222ST، كي يحل محل المحرك المستورَد الذي كان يعمل على الطائرة العنقاء (أنكا) والذي كانت قوته القصوى 155 حصانًا فقط، مع عقبات في الاستيراد وقوة أقل في الإقلاع ووزن أكبر.. ومن المقرَّر أن يدخل المحرك الجديد مرحلة الإنتاج الكمّي العام القادم أيضًا.
كما شهد المهرجان إزاحة الستار عن تقنيات تركية بارزة بعيدًا عن مجال الطائرات المسيّرة، وإفساح المجال أمام الجمهور لمعاينتها لأول مرة، مثل السيارة التركية الكهربائية الجديدة، إضافة إلى إحدى طائرات التدريب المدني المصنَّعة محليًّا والتي أُطلق عليها اسم “نسمة إسينسي”.
على هامش الحدث
في الأساس، تعدّ هذه اللقاءات فرصةً مثالية للتشبيك بين أطراف مختلفة كثيرة معنية بهذا المجال، كالدولة والشباب، والخبرات المحلية والأجنبية، كما يحرص المنظِّمون في مثل تلك الأحداث على أن تتزامن بعض الأحداث المهمة مع أجندة المهرجان كي يكسب الحدث مزيدًا من الزخم والاهتمام.
ينطبق ذلك تمامًا على معرض الاختراعات الدولي الذي كان يُقام بشكل مستقلّ بدايةً من عام 2016، ثم صار يُقام بالتزامن مع مهرجان تكنوفيست، والذي ينظّمه مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية التركي، وقد شهد المعرض في هذه النسخة 254 اختراعًا، قدمت 20 دولة أجنبية أكثر من 70 اختراعًا منها.
يلخص وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي فلسفة ذلك الحدث في عبارات قائلًا إن أحد أبرز أهدافه هو أن يرى المجتمع التركي بعينه ما توصلت إليه البلاد تقنيًّا
كما حصد فريق تركي المركز الثالث في “قمة ريادة الأعمال الدولية”، بجائزة تقدَّر بـ 5 آلاف دولار، بعد كل من الفريق الباكستاني الذي جاء في المركز الثاني حاصلًا على جائزة تقدَّر بـ 10 آلاف دولار، وبعد الفريق التشيكي الذي حلَّ أولًا باختراع يُدعى Colobra في المركز الأول، بجائزة تقدَّر بـ 20 ألف دولار.
ومن ضمن الأحداث المميزة التي وقعت على هامش المهرجان، كان ذلك البروتوكول المشترَك بين كل من غوغل تركيا من جهة ووقف الريادة ومركز T3 للريادة التركية من جهة أخرى، من أجل تأسيس أكاديمية تتولى تدريب ألفَي شاب تركي على تطوير الألعاب والتطبيقات الحديثة في 400 ساعة تدريبية.
ماركة عالمية
يلخّص مصطفى وارنك، وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي، فلسفة ذلك الحدث في عبارات قائلًا إن أحد أبرز أهدافه هو أن يرى المجتمع التركي بعينه ما توصلت إليه البلاد تقنيًّا، مشيرًا إلى أن المسابقات الشبابية التقنية هي الركيزة الأهم لإقامة المهرجان.
إحدى العبارات التي تكررت كثيرًا على لسان مسؤولي المهرجان، أنه بعد النجاح الذي تحقق خلال الأعوام الأخيرة، في وقت قصير، فإن المستهدَف هو أن يصير هذا الحدث عالميًّا بكل معنى الكلمة، بما في ذلك أن يُنظَّم تكنوفيست خارج الديار التركية، بداية من الحليفة أذربيجان.
“مثلما تزيّن طائراتنا المسيّرة عناوين الصحف العالمية، يجب أن يكون تكنوفيست في المرتبة الأولى على أجندة الإعلام العالمي”، قال الرئيس التركي رجب أردوغان، ووزير الصناعة مصطفى وارنك.
كل ما يحدث ليس كافيًا، لأن تركيا لم تعد تستهدف الإنقاذ، وإنما تعمل على بناء أمة قوية عظيمة، والطريق الرئيسي من أجل هذا الهدف هو امتلاك موارد بشرية متقدمة
وفي مفارقة لافتة، قال فؤاد أوكتاي، نائب الرئيس التركي، إن بلاده تستهدف التركيز على المجالات المدنية أكثر خلال الفترة القادمة، بعد أن حققت نجاحًا مشهودًا في مجال الصناعات العسكرية، فتركيا، وفق أوكتاي، تقلب المعادلات.
ومع ذلك، إن كل ما يحدث ليس كافيًا، لأن تركيا لم تعد تستهدف الإنقاذ، وإنما تعمل على بناء أمة قوية عظيمة، والطريق الرئيسي من أجل هذا الهدف هو امتلاك موارد بشرية متقدمة، ولذلك تستثمر الدولة في تكنوفيست، وفقًا لنصِّ كلام الرئيس التركي.