خضع ما يُسمّى التصنيف -أو سينما النوع- لعدة تنويعات وتطورات تأثر من خلالها مفهوم النوع على مدار الزمن، ووفرت تلك التنويعات والتطورات مرونة طوّعت الصنف/ النوع ليشمل عدة أنواع أخرى، ليس ذلك فقط، بل سمحت لبعض المخرجين اقتباس روح صنف معيَّن أو نوعية محددة، وإزاحتها عن منطقتها الآمنة ودمجها مع ثيمات تنتمي إلى نوعية مختلفة تمامًا، بغرض استكشاف العالم نفسه لكن من وجهة نظر أخرى، وبشكل مختلف بعض الشيء عن الشكل التأسيسي للصنف ذاته، وهذا بالضرورة سيظهِر وجهًا مخفيًّا للعالم، وسيركّز على مناطق مجهولة لم تتناولها سينما النوع.
أفلام الغرب الأمريكي كمثال، هي أفلام تنتمي إلى سينما النوع، تمّ تناولها في أشكال ومعالجات كثيرة على مدار التاريخ السينمائي، كل معالجة وكل أفلمة لذلك النمط كان يمثِّل تطورًا في شكل النوع ذاته، بدايةً من الحقبة الذهبية للغرب الأمريكي لمخرجين مثل روبرت ألدريتش وبود بوتيكر، مرورًا بأفلام السباغيتي ويسترن (Spaghetti Western)، وثلاثية الدولارات الشهيرة للمخرج الملهِم سيرجيو ليون الذي أضاف كثيرًا إلى هذا التصنيف، وصولًا إلى أفلام لا يمكن اعتبارها أفلام غرب أمريكي إذا طبّقنا معايير المخرجين والأفلام المذكورة سابقًا.
إنها أفلام تشبه الغرب الأمريكي، بيد أنها ليست كذلك بالمعنى الكلي، إنما تحمل في بنيتها التأسيسية بعضًا من هذا العالم، مثل أفلام كلوي تشاو التي تحمل في داخلها روحًا جامحة، تعيد طرح فكرة استكشاف الغرب الأمريكي كجغرافيا، ولكن من خلال أقاصيص أشد خصوصية لأصحابها، وبعيدًا عن بطولات رعاة البقر كلوي تسمح للمكان أن يربّي صنفًا يحمل سمات عادية أو على النقيض صفات دخيلة وأجنبية على البيئة، ترصده بكاميرا أبطأ وروح أثقل.
ذلك النمو في سينما النوع ليس وليد حقبة معيَّنة أو مخرجين محدَّدين، إنما نتاج تراكمات سابقة، ومحاولات دفع وإزاحة للحصول على أكبر قدر من الحرية في تطوير اللغة السينمائية، لنتمكّن اليوم من إنتاج أفلام مثل “قوة الكلب” (The Power of the Dog)، الذي تناول شخصية راعي البقر ولكن من منظور شديد الخصوصية، مستكشفًا نسخة نادرة من نُسخ رعاة البقر.
يحاول الفيلم التعاطي مع جزئية داخلية، والتأسيس لها من خلال التركيز على موتيفات غير معهودة، بإيقاع أبطأ وأشد تكثيفًا من أفلام النوع التي تعتمد على الحركة، ولكن هذه الموتيفات لا تفصلها عن العالم القديم بشكل كلي، بل تحافظ على الموازنة، عبر خلق لغة بصرية تُبرز ما هو داخلي حسّي عبر الفعل الخارجي والبيئة المحيطة، التي تنتمي بصريًّا إلى سينما النوع بشكل صريح، وفي هذا تحرير للنص من قولبة فكرية وفتح المجال لمساحات أكبر داخل دائرة النوع نفسها.
هذا تقريبًا ما فعلته المخرجة العظيمة جين كامبيون، في فيلمها “قوة الكلب” الفائز بجائزة الأسد الفضّي لأفضل إخراج في مهرجان البندقية، بعد غياب عن السينما لأكثر من 10 سنوات، حيث طوّرت المخرجة فيلمها خلال السنوات السابقة لكي تتناول ثيمة قصصية مهمة وعصرية كنواة مركزية تحتضنها بيئة الغرب الأمريكي.
اقتبست المخرجة جين كامبيون فيلمها من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الأمريكي توماس سافاج، وتلك البنية الأدبية لم يكن من السهل أفلمتها خصوصًا بما تحويه من جغرافيا مكانية خاصة، وثقافة شعبية أمريكية فردانية، وهذا نراه خلال الصنعة البصرية للمخرجة التي مارستها بحرفية عالية كما المعتاد؛ لتحوِّل موقعًا صحراويًّا بإقليم أوتاغو في نيوزيلاندا إلى ولاية مونتانا بالأجزاء الغربية من الولايات المتحدة، وتحرص باهتمام على المعالم والإشارات التي تخصُّ الحقبة الزمانية التي تدور فيها القصة عام 1920.
تدور القصة حول الأخوَين بيربانك، يعملان في تربية البقر، ولكن على النقيض يبدوان مختلفَين في كل شيء تقريبًا، سواء في الشكل أو في الطبع، ومن هنا يحدث صراع يبطن الحكاية من بدايتها، لأن الاختلاف في وجهات النظر سيحفِّز أفعالًا صدامية، ما يضع القصة في طور البناء التصاعدي منذ المشهد الأول.
يظهر الأخ الأكبر فيل (الممثل بيندكت كامبرباتش) كشخصية راعي بقر نمطية: بنية قوية، لسان حاد، عينان باردتان اتجاه الجمال الرقيق الذي يبدو من وجهة نظره ليس ذكوريًّا كفاية لإرضاء ذاته الذكورية، وهوية ذكورية تجعله يحتقر كل ما هو أنثوي بشكل عام؛ عكس أخيه جورج (الممثل جيسى بليمنز) ذي الطباع الهادئة، والجسد الأكثر رخاوة، والأشد هدوءًا، الذي يقدِّر الجمال الأنثوي ويتزوج من أرملة جميلة تمتلك فندقًا متواضعًا في أول مقابلة بينهما تقريبًا.
بعد زواج جورج من الأرملة روز (الممثلة كيرستين دانست)، يلزمها المكوث معه في منزله وإحضار ابنها بيتر للمكوث معهما في إجازاته المدرسية، ومع حضور الأنثى كجزء ضروري من اليومي، تتفاقم العقدة، وتبدأ أمارات الكراهية باجتياح فيل، الذي يقوم بدور الضد في المنزل وخارجه، ويتعمّد مضايقة الأم وابنها الشاب الهزيل بيتر (الممثل كودى سميث-ماكفي) الذي يمثّل على حد قوله الفتى المخنّث، أو كما كان يدعوه نانسي.
بيد أنه لا يبدو كشخص وغد خارج المنزل، بل يتبدّى كقائد وراعي بقر محترف يحاول أن يسير على نهج معلمه الغامض برونكو هنري، الذي لا يخلو مشهد واحد من ذكرى جمعتهم أو شيء تعلّمه منه يحكيه للصبية والشباب الذين يعملون تحت أمرته، لذا ظهور برونكو هنري كشبح من دون أي مرجعية بصرية تقريبًا إلا بعض الحاجيات التي خلّفها وراءه، يضيف للقصة بُعدًا شبه ميتافيزيقي، ويعطي انطباعًا عن وجود جانب رقيق في فيل، ومن هذا الجانب تبرق شرارة علاقة غريبة ومثيرة للسخرية على حد سواء، حين تتطور العلاقة بين الابن بيتر وراعي البقر المغوار فيل، ورغم أن كل شيء هادئ إلا أن الأمر يُنبئ بعاصفة قادمة للإطاحة بكل شيء.
وإذا دققنا النظر في تلك العلاقة، سنلاقي ثالوثًا يتعارك في مساحة لا تكفي إلا شخصَين فقط، ويحاول كل فردَين إزاحة الثالث حتى تستمرّ تلك العلاقة ذات الأغراض المريبة، والغريب أن كل فرد في تلك العلاقة يسير بمنهجية لا تتّفق مع السياق العام للعلاقة السوية، وهذا يظهر بوضح في ثنائيات تحضر فيها عقدة أوديب بوضوح أو تلوح من بعيد عقدة جوكاستا، كشكل من أشكال الهوس النفسي بالتملُّك، ومحاولة فرض السطوة شبه الأبوية بغرض الصالح العام للعلاقة.
تتبدّى العلاقة من وجهة نظر الأم في مثلث غير متكافئ (الأم روز – الابن بيتر – الوغد فيل)، وترى أن راعي البقر فيل يقوّي أواصر العلاقة مع ابنها بيتر بنيّة أذيتها هي في المقام الأول على زواجها بأخيه، ومع الوقت تظهر بوادر ذلك الهوس الذي تحدّثنا عنه، حين يبدأ بيتر بالخروج مع فيل في البيداء، حيث تضطرب حياة الأم روز، وهذا طبيعي لأنها تقع تحت ضغط وجود شخص وغد في المنزل الذي تعيش فيه، إلا أنه ليس مجرد شخص، بل أخا زوجها وله الدور الأعظم في إدارة العمل على الأرض، بجانب محاولاته في قلب الفتى على أمه كما تتصور هي.
في لحظات كثيرة نشعر أن جمال روز يستفزُّ فيل، فيحاول الهيمنة على الجو العام وصبغه بعنفوان ذكوري يهمّش حضور الجمال الأنثوي، بل يزيحه تمامًا عن الشكل الرئيسي للسرد البصري، ويقحم أدواته الذكورية بطريقة يحشدُ بها قوته، حتى تأثرت الأم بالضغط وألقت نفسها في أحضان زجاجات البيرة التي لم تنجح كثيرًا في إخفائها عن ابنها.
على الجانب الآخر، ينظر فيل إلى روز على أنها شيء لا يساوي القيمة التي يمنحها لها أخوه، ويرى العلاقة من منظور فوقي بعض الشيء عندما يشاهد روز تتجرّع زجاجات البيرة في خفية عن الناس، يشعر بلذّة انتصار لفكره وجسده وعالمه، ويثبت في عقله هشاشة المخلوقات الأنثوية، ما يعطيه ثقة أكبر في منهجيته، ويحاول هو الآخر أخذ الفتى إلى صفّه، ربما لأن الفتى في نظره غير مكتمل الرجولة، ومن الممكن إصلاحه إذا أبعده عن أمه.
الطرف الثالث في تلك العلاقة هو بيتر، الفتى الهشّ الرقيق الذي يدرس في مدرسة الطب، إنه محور الأحداث، ومدى تعاطيه مع الأفراد داخل العلاقة هو ما يعطيهم الشريعة في نبذ الآخر. بيتر هو فتى أمه المدلَّل، تأخذه دائمًا تحت جناحها، وتقرّبه منها قدر المستطاع، لوهلة ستظن أن تلك العلاقة هي علاقة أوديبية، فالابن يسير وفق إرشادات أمه، ويتطبّع بطباعها، وحتى جسده وطريقة مشيته فيهما الكثير من الأنثوية، كأنه صورة أمه ولكن في غلاف ذكوري.
والابن بالطبع يفعل ذلك برغبته، ولكن على الناحية الأخرى الأمّ في بعض المشاهد تلمّح لعلاقة تنطوي تحت عقدة جوكاستا، ولكن هذا مجرد تلميح ليس إلا، بيد أنه يعطي ثقلًا وتكثيفًا لتلك الثنائية، على عكس فيل الذي يحيط نفسه بكل ما هو ذكوري في سلوكياته وأفكاره، وهذا ليس غريبًا على مجتمع رعاة البقر، بل انعكاسًا لظروف بيئتهم القاسية ونشأتهم الخشنة ليستطيعوا العيش، لدرجة أن التحمُّم في حوض الاستحمام شيء مثير للسخرية ولا يليق براعي البقر، ولكن مع تطور علاقة بيتر وفيل نرى وجهًا آخر لفيل، جانبًا مخفيًّا تمامًا عن البشر، لا يعرفه إلا برونكو هنري الذي يتحول من رمز للخشونة والذكورية والسمات النمطية لراعي البقر، إلى مخلوق رقيق يقدِّر العاطفة ويبادل الحب.
ومن هنا تظهر بوادر القهر، ففيل يحيط نفسه بطبقات سخينة ليستطيع أن يعيش بالطريقة التي يحب، مستكشفًا الجسدي والروحي معًا، داخل دائرة ذكرى معمله برونكو هنري، بيد أنه على العكس يحشد أكبر قدر من السمات الرجولية أو ما يُسمّى الذكورية السامة (Toxic Masculinity)، ويحيط بها نفسه ويصوغ بها طبقاته الخارجية، ليواجه العالم بروح شخص ابن بيئته ويتشكّل كرمزٍ للذكورة بالنسبة إلى رجاله، ويبقي شعور الخزي والعار لنفسه، يمارسه وحيدًا في مخبأه على النهر أو في البيداء، بما يجد فيه من لذة ومن دناءة، بيد أنه في داخله شخص أكثر هشاشة من روز ومن بيتر، وهذا ظهر في عدة مشاهد بينه وبين بيتر، حتى مشهد النهاية يظهر فيه كشخص طيب ورحيم.
والشيء الجميل أننا لا نعرف ما حدث بينه وبين بيتر في الليل، هذه هي براعة المخرجة، إنها تحفِّز السرد ليوهم المتلقي أننا متجهين نحو نقطة معيَّنة، وفجأة يسحب البساط من تحت أرجلنا ويقطع المشهد، ويثير الكثير من الأسئلة بحيث يصنع فيلمًا موازيًا، وهذا ما يجعل الفيلم متفرِّدًا، لأنه يتناول موضوعًا شائكًا في حقبة ذكورية من منظور موضوعي، ويترك المُشاهد ليكمل كل شيء.
جين كامبيون تصنع الفرجة وتترك اللمحات والنظرات والإيماءات للمُشاهد حتى يكوِّن فكرته عن الفيلم، كل ما نعرفه في النهاية أن فيل شخص مقهور سيكولوجيًّا وجنسانيًّا بسبب النشأة والبيئة.