على الشرق من مدينة نابلس الفلسطينية، أقصى شمال المحافظات الفلسطينية على حدود 1967 (الضفة الغربية المحتلة)، تقع قرية ما زالت تعيش حياة المعالم الأثرية، التي تزيّن أكثر من نصف مساحتها، ولم تتعرّض لأية تغييرات بشرية سواء بفعل الحروب أو بفعل التوسُّع العمراني، بل ما زالت هذه الأرض تعيش حياة الطبيعة بكهوفها وجبالها ومغاراتها.
إنها قرية بيت فوريك النابلسية التي يقدَّر عمرها بأكثر من 4000 عام، أي أنها حاضرة منذ ما قبل الميلاد بمئات السنين، وحسب ما وردَ في كتاب “تاريخ بيت فوريك” للدكتور محمد غلمي، فأصل اسمها “بيت الفينيق”، ويعني بيت العبادة للفينيقيين قديمًا، وكانت الملجأ الديني والروحي لهم، وقد تغيّر اسم القرية بتعدُّد اللغات واللهجات عبر التاريخ مع تجدُّد الأمم التي تعاقبت على احتلال الأرض الفلسطينية عبر العصور، حتى أصبحت بيت فوريك.
والفينيقيون هم أنفسهم الكنعانيون، وهم أول من سكنوا فلسطين المحتلة وبلاد الشام كشعب، حتى أصبحت بعض المدن الشامية تصنَّف بأنها أقدم مدن العالم لتاريخها المتعلق بالفينيقيين، مثل مدن نابلس وغزة وأريحا بفلسطين المحتلة، وبيروت اللبنانية، ودمشق السورية.
وقبل الحديث عن تاريخها يجب التنويه أن العصور القديمة في فلسطين المحتلة وبلاد الشام تتلخّص ما بين العصر الحجري الحديث أولًا من عام 3300 إلى عام 2000 ق.م، ثم العصرَين البرونزي والحديدي من عام 2000 إلى عام 700 ق.م، وقد عاصرَ الفينيقيون نهايات العصر الحجري الحديث والعصور اللاحقة بعدما جاؤوا لبلاد الشام بعد عام 2500 ق.م.
ومن قرية بيت فوريك بمدينة نابلس، هناك بعض الحُجج والتفاصيل التي تؤرِّخ العمر الافتراضي لهذه القرية وارتباطها بالعصور القديمة ما بين الحجري والبرونزي، وتنازع أكثر من 20 إمبراطورية عبر التاريخ عليها.
البلدة القديمة
وعند الحديث عن البلدة القديمة في كل مدينة وقرية فلسطينية، يقصد بها الموقع أو مركز القرية قديمًا التي يقيم فيها حاكمها أو التي تحتكرُ تواجد المعابد ومؤسسات الدولة والسكّان فيها، ويعود تاريخ البلدة القديمة في قرية بيت فوريك إلى ما بين العصرَين الحجري والبرونزي عام 3000 ق.م، وهي الفترة التي سبقت تواجُد الكنعانيين، أي عندما كان الناس يعتمدون على الأحجار والنحاس والسبائك المعدنية في حياتهم اليومية.
ووُجدت بهذه البلدة القديمة مقابر لهياكل عظمية من العصر الحجري، وُضعت بجانبها مجموعة من فَخّار الطعام والمياه، لاعتقادات قديمة بأن الميت بعد أن يُدفن يعود لممارسة حياة أخرى في قبره، إذ يتمّ وضع معه كل ما يحتاجه من أدوات المطبخ والطعام، وكذلك تمّ العثور على قلائد على شكل صرصار مختوم عليها بالنار تعويذات، لكي تُوضع على رقبة الميت لحمايته من الأرواح الشريرة في حياته الجديدة تحت التراب.
كما وُجدت هياكل أخرى لنساء وُضعت معها ما تمّ ذكره سابقًا بالإضافة إلى أوانٍ من الكحل والفَخّار التبخيرية المخصَّصة لتعطير المرأة سابقًا، وهياكل أخرى وُضعت معها أدوات قتالية عُرف منها الحربة التي كانت تُوضع مع موتى المحاربين والمقاتلين بفترة ما قبل الكنعانيين.
تعود البلدة القديمة المقامة فوق المغارات لتاريخ ما بين 90م و630م، خصوصًا بيت السيد سارة الشهير، بيت السيدة عيدة، حوش دار صلاح الشهير وبيت الحج عبد الله القديم.
وأهم الشواهد التي تدلُّ على عودة هذه القرية الفلسطينية للعصر الحجري، هي المغارات القديمة التي تقوم عليها مباني البلدة القديمة في بيت فوريك، أي أن هناك ممرات وعالمًا آخر أسفل هذه البلدة، بحيث أنها تشكّل أساسات للبلدة القديمة بشكل كامل، وقد بناها البشر في ذلك العصر كملاجئ للحماية من الأعداء أو التقلُّبات الجوية، وهذه المغارات كبيرة جدًّا، وهي عبارة عن عدة غرف حجرية، إذ تصلُ مساحة الغرفة الواحدة منها إلى أكثر من دونم (1000 متر مربّع).
أما فيما يخصّ العصور الوسطى التي جاءت بعد الميلاد مباشرة، وتحديدًا في فترة تواجد الإمبراطورية اليونانية في فلسطين المحتلة، وكذلك الإمبراطورية البيزنطية-الرومانية، لم يزيلوا شيئًا من هذه المغارات، بل صعدوا بجميع مبانيهم وبيوتهم التي أُقيمت فوق هذه المغارات، أي أن البلدة القديمة برمّة مبانيها ليست منصوبة على الأرض مباشرة، بل تأسست فوق المغارات، وتدخل إلى البلدة القديمة عن طريق مدخلها الرئيسي صعودًا من الطريق الجبلي.
وتعود البلدة القديمة المقامة فوق المغارات لتاريخ ما بين 90م و630م، خصوصًا بيت السيد سارة الشهير، بيت السيدة عيدة، حوش دار صلاح الشهير وبيت الحج عبد الله القديم.
خربة الشرابرة
تعود بشكل خالص للعهد البيزنطي-اليوناني، من عام 20م حتى عام 630م، ولكن فيها آثار كنعانية تعود للكنعانيين من العصرَي الحجري والبرونزي، وهي الوحيدة من نوعها في المنطقة متعلقة بالكنعانيين، أولها التوابيت الفخارية المملوءة بالهياكل العظمية، حيث يعدّ هذا أسلوب الكنعانيين قديمًا في دفن موتاهم بوضع الجثة داخل أواني فخارية مع بعض الاحتياجات من الطعام.
يقول الباحث في تاريخ مدينة نابلس، الدكتور محمد عودة: “أهم ما وُجد هناك من معالم أثرية، هي ساحة واسعة فيها أعمدة رخامية، ورشّح المؤرِّخون الفلسطينيون أنها محكمة بيزنطية قديمة، تمَّ تأسيسها في مغارة متّسعة تعود للعصر الحجري، وهذه المغارة يوجد بمنتصفها بالسقف حلقة حديدية وتحتها مباشرة حفرة عمقها نحو 17 مترًا، ما يدل على أنها “مشنقة”، لمعاقبة الجناة الذين يُحكم عليهم بالإعدام، والمغارة الحجرية ما زالت ماثلة حتى اليوم، وقد تعود للعصر الحجري، لأن بداخلها توابيت حجرية، وقد استغلَّ البيزنطيون هذا الفن المعماري القديم بعدهم بـ 2500 سنة، واستعملوا مكان المغارة القديمة لتنفيذ العقوبات فيها”.
خربة طانا القوقا
يقول الدكتور محمد عودة: “خربة طانا القوقا كانت مأهولة بالسكان في عام 1250 قبل الميلاد، وهي الفترة التي دخل فيها نبي الله يوشع بن نون لأرض فلسطين، وورد بالنصوص الإسلامية بأن الله أمر سيدنا موسى عليه السلام بقيادة جيش بني إسرائيل في مصر والدخول لفلسطين لمواجهة الكنعانيين وباقي طائفة بني إسرائيل الذين لم يتّبعوا دين موسى، ولكنه عندما توفي في الطريق، تولّى يوشع بن نون قيادة الجيش حتى دخل فلسطين، وكانت منطقة طانا القوقا نقطة تمركز جيشه الذي ظلَّ من خلالها يحمي بيت المقدس طيلة مُلْكِه، كونها كانت مفترق الطريق الرئيسي الذي يفصل الأردن عن فلسطين”.
ووردت في النصوص الإسلامية أيضًا قصة الحرب التي حصلت قديمًا بين الملك طالوت وجالوت، الذي استباح دماء بني إسرائيل، وقام الملك طالوت بتكليف سيدنا داوود الذي كان أحد جنوده المتطوعين، بقتل الطاغية الكنعاني جالوت، بعدما قلعَ عينه.
وقد أقرّت بعض المرجعيات التاريخية أن هذه المنطقة بالتحديد كانت موقع قلع عين جالوت، وكان ذلك عام 1000 ق.م، ولهذا السبب بعد ما يُقارب ألفَي سنة، سُمّيت المعركة التي انتصر فيها المسلمون بقيادة السلطان المملوكي سيف الدين قطز بمعركة عين جالوت عام 1260م، التي حطّمت أُسطورة المغول في العالم وقلعت شوكتهم، وكانت نهايتهم من خربة قانا القوقا الواقعة في قرية بيت فوريك، وسُميت معركة انتصار المسلمين بهذا الاسم لأنها وقعت في المنطقة نفسها التي قُلعت فيها عين الملك الكنعاني جالوت.
المغارة العرفاتية
يقول الدكتور عودة: “هي مغارة بيت فوريك الشهيرة، تعود للعصر اليوناني، بناها بعض المزارعين الفقراء الذين عُرفوا بترحالهم بحثًا عن مصدر رزقهم بالزراعة، فكانوا يقيمون بالمواسم في كل بقعة يتنقّلون إليها للزراعة حسب الطقس والأجواء المرتبطة بالموقع الجغرافي، كمبيت لهم خلال فترة خططهم الزراعية التي قد تستمرّ لثلاث سنوات”.
ولكن هذه المغارة اكتسبت اسمها حديثًا، وهي من أبرز معالم وتراثيات الثورة الفلسطينية المعاصرة، كون أن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اتّخذ منها نقطة انطلاق أول الأعمال الفدائية على الاحتلال الإسرائيلي، كونها تقع على الطريق الفاصل بين فلسطين المحتلة والمملكة الأردنية الهاشمية، ما يُسهِّل عليهم هروبهم للأردن حال كشفهم.
وكانت المخبأ السرّي للمقاتلين الفلسطينيين حينها، أبرزهم ياسر عرفات، وكذلك أحمد موسى سلامة، الذي يُعتبر أول شهيد في الثورة الفلسطينية عام 1965، بعد عملية تفجير نفق عيلبون في الداخل المحتل، حيث استشهد حينما حاول العودة لمغارته بصفتها القاعدة الوحيدة لانطلاقة المقاتلين حينها، وباغتياله انطلقت هذه الثورة، وقد انتشرت صور لياسر عرفات قديمًا من هذه المغارة مرتديًا كوفيته حينما كان شابًّا في بداية عمله الفدائي داخل فلسطين المحتلة، جعلت منه رمزًا لوطنه بشكل أبدي.
لارتباط هذه المغارة الواقعة في بلدة بيت فوريك على جبال نابلس بتاريخ العمل الفدائي الفلسطيني وبذاكرة عرفات، يقيم الفلسطينيون في كل عام على باب مدخلها ذكرى إحياء رحيل الزعيم ياسر عرفات.
ولعلّ جبال نابلس ومغارة بيت فوريك ظلت مؤثِّرة في ذاكرة عرفات حتى بعد عودته للوطن عام 1994 عقب اتفاقية أوسلو، التي نصّت بعقد اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشرط إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين على أرضهم.
ولهذا كان عرفات يرى في نابلس أنها “أم الثوار” التي تُسمّى بـ”مدينة جبل النار”، حيث كان دائم التشجيع لأهلها على القتال والصمود بعد انهيار اتفاقية وقف إطلاق النار بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، بعبارة “يا جبل ما يهزك ريح” يرددها طيلة فترة حصاره بمقرّ المقاطعة برام الله خلال الانتفاضة الثانية عام 2002، حيث تعرّضت نابلس وبيت فوريك لمعارك دموية إثر هذه الأحداث، وقد ظلَّ يرددها دومًا حتى اغتياله عام 2004، ما جعلَ هذه الجملة من “الثوابت الوطنية الفلسطينية” التي رُدِّدت في معظم البلاد العربية.
ولارتباط هذه المغارة الواقعة في بلدة بيت فوريك على جبال نابلس بتاريخ العمل الفدائي الفلسطيني وبذاكرة عرفات، يقيمُ الفلسطينيون في كل عام على باب مدخلها ذكرى إحياء رحيل الزعيم ياسر عرفات في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، أو ذكرى إحياء الثورة الفلسطينية المعاصرة في الفاتح من شهر يناير/ كانون الثاني من كل عام.