في رواية Ready Player One للمؤلف إرنست كلاين، الذي تمّ تحويله إلى فيلم سينمائي بالاسم نفسه عام 2018، يهرب بطل الفيلم اليتيم المراهق من حياته القاتمة المليئة بالمصاعب في العالم الحقيقي إلى عالم آخر افتراضي بالكامل، حيث يضع الصبي سماعة أذنيه، يرتدي نظارات الواقع الافتراضي ويهرب إلى عالم افتراضي ثلاثي، يُطلق عليه اسم OASIS.
تقول الشخصية الرئيسية في المقطع الدعائي: “يأتي الناس إلى OASIS من أجل كل الأشياء التي يمكنهم القيام بها، لكنهم يستطيعون أن يكونوا الشخصية التي يريدونها والبقاء عليها”.
ويقول عدد من الرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا المستوحاة من الخيال العلمي، إنه في يوم من الأيام قريبًا سنخرج جميعًا بعالم واقع افتراضي تفاعلي، مكتمِل بالألعاب والمغامرات والتسوق وعروض من عالم آخر، تمامًا مثل الشخصيات في الفيلم.
ما هو “الميتافيرس”؟
مصطلح Metaverse مشتق من كلمتَين: Meta وتعني “ما بعد”، وVerse وهي كلمة مشتقة من Universe أي الكون، وتعني الكلمة “عالمًا آخر موازيًا”، يمكن الدخول إليه من خلال نظارات خاصة أشبه بالـ VR، ويكون الداخلون إليه ممثَّلين بشخصيات أفاتار ثلاثية الأبعاد، وتتيح المؤثرات الإلكترونية فيه إمكانية التفاعل بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي، ويمنح سلاسة في انتقال الصور الموجودة في العالم الحقيقي. تكمن الفكرة بوجود إنترنت تتواجد فيه بدل النظر إليه، وسيمكّن هذا الاختراع شخصًا يعيش على بُعد آلاف الأميال، أن يكون موجودًا معك في الغرفة نفسها.
من الناحية النظرية، يمكن تسجيل الدخول إلى “الميتافيرس” بشكل مشابه لتسجيل الدخول إلى الإنترنت، أنت فقط تستخدم نظارات مثبّتة على الرأس، وشكلًا من أشكال تتبّع الحركة، مثل معصم فيسبوك للتحكُّم بالأشياء.
لكي يكتمل المشروع، لا يمكن لأي شركة بمفردها أن تمتلك “الميتافيرس” على غرار الطريقة التي لا يمتلك بها أحد الإنترنت، لكن قد تحاول الشركات احتكار أركان معيَّنة فيه، تمامًا كما تهيمن مجموعة من شركات التكنولوجيا الكبيرة على المحتوى عبر الإنترنت اليوم، ويمكن للشركات القيام بذلك بشكل مشابه لكيفية جني الأموال من التطبيقات عبر خدمات الاشتراك وعربات التسوق والإعلانات.
يضيف ليبسكيند: “يجب أن يكون الميتافيرس عبارة عن مجموعة من التقنيات والخلفيات والواجهات التجريبية التي تُلعَب جميعها بشكل جيد معًا”.
يقول دينيس وايت، مؤسِّس شركة بلانك إكس آر للتكنولوجيا: “سيكون هناك لاعبون أقوياء بالتأكيد”، ويضيف: “بمجرد أن تتمكّن من ارتداء نظارات الواقع المعزَّز الجديدة الخاصة بك، وترى فجأة الشخصيات تتجول في ذلك العالم، عندها ستعرف أنك داخل “الميتافيرس””.
مع وجود العديد من الأجهزة التي تقدِّمها شركات مختلفة، من غير الواضح كيف يمكن أن تتحرك الشخصيات بينها. إحدى النظريات هي أن “الميتافيرس” سوف يلتقط إشارات من متصفّحات الويب. قال دانيال ليبسكيند، الرئيس التنفيذي لشركة توبيا، وهي منصة دردشة فيديو: “تمامًا كما يمكنك التبديل بين مواقع الويب على هاتفك الذكي، فقد تقفز شخصيتك الافتراضية بين الأنظمة الأساسية التي تمَّ إنشاؤها لتكون متوافقة مع بعضها البعض وشاملة”، ويضيف: “يجب أن يكون “الميتافيرس” عبارة عن مجموعة من التقنيات والخلفيات والواجهات التجريبية التي تلعب جميعها بشكل جيد معًا”.
فيروس كورونا يعجّل بالعملية
قال ماثيو بول، المدير التنفيذي السابق لشركة أمازون: “إن الوباء الحالي قد يلهم المزيد من الأفكار المساهِمة في مشروع “الميتافيرس”، حيث لفتت الأزمة بالفعل الانتباه إلى المحاولات الأخرى لإنشاء مجتمعات “ميتافيرس” أصغر ومركّزة”. وبحسب “بي بي سي”، تعمل كنيسة في الواقع الافتراضي يقودها راعي كنيسة كبيرة في ولاية بنسيلفانيا منذ عدة سنوات حتى الآن، ولكنها اكتسبت اهتمام وسائل الإعلام مؤخرًا بسبب جائحة فيروس كورونا.
قال بول إن الاعتماد الحالي للاقتصاد الاجتماعي والرأسمالي على الإنترنت فقط خلال جائحة فيروس كورونا، قد سلّط الضوء فقط على إخفاقات الإنترنت الحالية، وما يجب على “ميتافيرس” القيام به. تستمر المواقع الكبيرة مثل أمازون وفيسبوك وغوغل في السيطرة على النشاط عبر الإنترنت، كما تفعل خدمات البث الأكبر مثل يوتيوب ونتفليكس، لكن كل موقع يتطلب عضويته الخاصة وله أنظمة بيئية منفصلة.
يضيف بول: “في الوقت الحالي، يعمل العالم الرقمي بشكل أساسي كما لو أن كل مطعم وبار تذهب إليه يتطلب بطاقة هوية مختلفة، وله عملة مختلفة، ويتطلب قواعد اللباس الخاصة به وله وحداته الخاصة”.
الثورة الإلكترونية الرابعة
تُعدّ هذه التقنية ثورة رابعة في مجال الإلكترونيات بعد الحاسوب والإنترنت والهواتف الذكية، يقول الكثير من الخبراء إن هذا المشروع هو المستقبل الرقمي الحقيقي، مستقبل مليء بالتحديات والفرص، وسيغيّر الكثير من المفاهيم على عدة مستويات:
– الاقتصاد
ستحتاج الشركات إلى تحويل استراتيجيات التسويق الخاصة بها من عمليات شراء الإعلانات عبر الإنترنت إلى الموجودة في اقتصاد افتراضي مشترك، كما ستحتاج إلى إجراء أبحاث السوق على عملائها الجدد في “الميتافيرس”: كيف يتصرف الناس وما هي تفضيلاتهم هناك. يمكن أن تكون مختلفة تمامًا عن الطريقة التي يتصرفون بها وما الذي يتسوقون من أجله في الحياة الواقعية، أضف إلى ذلك خدمات الروبوت للمستهلك، حيث يكوّن المساعدون الافتراضيون والروبوتات علاقة مع المستهلك، ويبدأ كل شيء بأن يكون منطقيًّا.
– التسوق
التسوق عبر الإنترنت موجود في “الميتافيرس”، لكنه أكثر من مجرد تجربة رقمية للملابس التي يمكن للناس شراءها في الحياة الواقعية، حيث الموضة الافتراضية، “جلود” الأفاتار، والعقارات الافتراضية (الإسكان، السيارات.. إلخ) سيكون لها قيمتها الخاصة في هذا العالم، وسيتعيّن على الشركات تصميم علامات تجارية لأشخاص مختلفين في مراحل مختلفة من الثروة. قد يكون لدى الأشخاص الذين يستثمرون بكثافة في “الميتافيرس” أعمالهم وممتلكاتهم الخاصة، وبالتالي فرص شراكة مع شركات غير موجودة في الواقع المادي.
– الجانب الاجتماعي
مثل العالم الحقيقي، يجب أن يكون لدى منظمات الإدارة الجماعية وعي بالثقافة داخل ذلك العالم، يمكن أن يكون للملابس الرقمية أو بناء العالم أو التسويق تأثير حقيقي على العلامات التجارية. في ديسمبر/ كانون الأول 2019، تمَّ إصدار خيارات الملابس في لعبة GTA V التي بدت مشابهة لما كان يرتديه المتظاهرون في هونغ كونغ، حيث نزل لاعبون يرتدون زيَّ متظاهري هونغ كونغ إلى شوارع لوس سانتوس الخيالية، وقاموا مرتدين ملابس سوداء بقبّعات صفراء وأقنعة واقية من الغازات بأعمال شغب في اللعبة، ثم لاحظ ذلك اللاعبون الصينيون، ولبسوا شخصياتهم كشرطة، وقاوموا اللاعبين الذين كانوا يرتدون زي المتظاهرين.
في “الميتافيرس” لن يتجول الناس بشكل فردي، سيكون لديهم صداقات وعلاقات مع شخصيات غير قابلة للعب أو صور ثلاثية الأبعاد أو أشخاص آخرين، ما سيؤثِّر على قراراتهم. ستحتاج العلامات التجارية إلى الاستمرار في التكيُّف مع أنماط اللعب والتفاعل في العلاقات، لن يتمكن العملاء فقط من التحدث إلى العلامات التجارية مثل وسائل التواصل الاجتماعي، بل سيكونون قادرين على التفاعل معها في شكل ثلاثي الأبعاد.
تأثيرات كبيرة
من خلال إمكاناتها الهائلة، ستؤدي هذه التقنية إلى تأثيرات كبيرة لا بد أنها ستنعكس على الواقع الحقيقي بشكل من الأشكال، حيث إمكانية وجود عالم -حتى لو كان افتراضيًّا- يمكن فعل أي شي فيه، سيؤثِّر بشكل كبير على التصرفات الفردية، وسيطرح أسئلة عديدة حول نوع الحياة التي يمكن أن يعيشها جيل يعيش حياتَين منفصلتَين، إحداهما غير محكومة بقانون، والأخرى محكومة بقوانين العالم الواقعي. هناك أسئلة أخرى حول إمكانية استخدام هذه التقنيات من قبل العصابات المسلحة أو المتطرفة، وقدرة الجهات الرسمية على مراقبة الأنشطة الحاصلة هناك.
من المؤكد أن المشروع سيزيد سيطرة الشركات الخاصة على حياة المواطنين العاديين، فمنذ ظهور الإنترنت والهواتف الذكية والجهات الحكومية تفقد تأثيرها أكثر فأكثر لصالح القطاع الخاص، وقد أعادت جائحة كورونا الأمور إلى نصابها قليلًا في هذا الجانب، لكن في الجانب المقابل سيسرّع الفيروس اللجوء إلى البدائل الرقمية كأداة دائمة في الاقتصاد والتكنولوجيا، و”الميتافيرس” إحدى تلك الأدوات التي تعمل عليها الشركات بالفعل. فهل نشهد قريبًا عالمًا جديدًا لا حكومات فيه؟