من شوارع الموصل إلى قلب دمشق ومنها إلى قاهرة المعز وعواصم شمال إفريقيا، رحلة تاريخية تمتد عبر مئات السنين، خاضها فن زخرفة المعادن والنقش عليها، أو ما يُعرَف باسم “التكفيت”، حتى بات أحد أضلاع الفن الإسلامي الأصيل الذي أثرى الحضارة الإنسانية لعقود طويلة.
ويكتسب هذا الفن أهميته كونه إنسانيًّا من الطراز الأول، لا دخل فيه لأي آلة، صغيرة كانت أو كبيرة، ولا يعترف بالتطورات التكنولوجية العصرية، فهو حرفة يدوية بامتياز، تشير إلى تزيين معدن أقل بمعدن أغلى منه، كأن يكفت النحاس بالفضة، والفضة بالذهب وهكذا.
استطاع هذا النوع من الفن أن يفرض نفسه على عواصم الشرق والغرب بلا استثناء لعدة قرون سابقة، وكان مطمعًا للكثير من الباحثين عن الثراء لما يتميز به من إقبال جماهيري كبير من كافة دول العالم.
ويحتاج هذا الفن إلى مهارة استثنائية، تجمع بين الكفاءة المهنية والرؤية الفنية الإبداعية، ويُطلَق على من يمتهن تلك المهنة “الألتونجي”، وهو مصطلح تركي مكوَّن من شقَّين: “ألتون” ومعناها النحاس، و”جي” علامة النسبة التركية للمهنة، وتتطلب إلى جانب الكفاءة المهنية لأصحابها مجموعة بسيطة من الأدوات التي في الغالب تكون عبارة عن طاولة ومطارق حديدية متعددة الأحجام ومطارق خشبية ومجموعة من الأزاميل والأقلام الحديدية.
استطاع هذا النوع من الفن أن يفرض نفسه على عواصم الشرق والغرب بلا استثناء لعدة قرون سابقة، وكان مطمعًا للكثير من الباحثين عن الثراء لما يتميز به من إقبال جماهيري كبير من كافة دول العالم، فكان قِبلة المُولَعين بالتراث والفن الإسلامي الكلاسيكي، الأمر الذي حوّله إلى سلعة رائجة تدرُّ الكثير من المال على أصحابها.
وعامًا تلو الآخر بدأ البساط يُسحَب من تحت أقدام هذا الفن، ورويدًا رويدًا تراجع حضوره وبدأ يعاني أصحابه من ضيق العيش نتيجة انخفاض الإقبال وانحسار البيع في قلة من المتمسّكين بالفن التراثي، ليواجه هذا الفن التاريخي شبح الاندثار وسط عدة مناشدات لإحيائه مرة أخرى بعدما تغولت التكنولوجيا بأدواتها الإقصائية الفجّة.
لوحات فنية على أوانٍ معدنية
تتميز تلك النقوش المحفورة على الأواني النحاسية بلونها البرّاق وملمسها الناعم ذي الثقوب الخشنة الغائرة أحيانًا، فيما تعكس بعمقها شديد الصفاء أشعة الشمس الصافية لترسم معها لوحة فنان مكتملة أركان الجمال والرقي والإبداع، حتى يخيل للناظر أنه بصدد أحد إبداعات بيكاسو أو دافنشي وليس خنجرًا أو سيفًا أو مباخر أو كراسي أو صواني وأطباق.
العملية تتضمن عدة خطوات يجب على الفنان الماهر الالتزام بها لإخراج عمله على أكمل وجه، البداية تكون باختيار شكل الإناء المطلوب النقش عليه وزخرفته، ثم الرسم عليه بأقلام نقش فولاذية (هناك أقلام ذات نوعية خاصة بهذا النوع من المهن) مستعينًا بمطرقة وسندان.
بعد ذلك يتم مسح الإناء حتى يعود لأصله الطبيعي، أملس لا ثقوب ولا أي نقوش عليه، ثم يتم عزل القطعة المراد الحفر عليها بمادة شمعية حتى لا تتأثر بالأحماض التي تذيب وتفسد النقوش، وعليه يتم الرسم بواسطة قلم حاد يحدِّد الشكل المطلوب، يعقبه تغطيس الإناء في حمض الآزوت الممدد، وذلك حتى تتشبّع الرسوم بتلك المادة.
من أبرز المتاحف التي تزخر بهذا المنتجات الفنية التراثية، متحف الفن الإسلامي في مصر، والذي يتضمن المئات من القطع المنقوش عليها بالذهب والفضة والمعادن الكريمة، والتي تعود إلى عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون.
وبعد وقت ليس طويلًا من التغطيس، يتمّ إخراج الإناء من الحمض وغسله جيدًا ثم ملء تلك الفراغات المرسومة والمشبّعة بالأحماض بخيوط الذهب أو الفضة، لتأخذ مكانها الطبيعي وتصبح جزءًا لا يتجزّأ من الإناء، وتسمى تلك الطريقة بـ”التطعيم بالذهب والفضة”.
ومن الشروط الواجب توفرها في من يمتهن “التكفيت” أن يكون صبورًا، فبعض القطع ربما تستغرق شهورًا وربما سنوات حتى يتم إخراجها بالشكل المطلوب، ولذا فإن أثمان بعض تلك التحف قد يتجاوز عشرات الآلاف من الدولارات لمن يقدِّر هذا النوع من الفنون.
ومن أبرز المتاحف التي تزخر بهذه المنتجات الفنية التراثية، متحف الفن الإسلامي في مصر، والذي يتضمن المئات من القطع المنقوش عليها بالذهب والفضة والمعادن الكريمة، والتي تعود إلى عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وأبرزها كرسي المصحف المرسوم على شكل شمعدان أو مزهرية، هذا بخلاف بعض التحف النادرة المنسوبة إلى الصانع محمد بن سنقر البغدادي السنكري، وتعود إلى عام 728هـ/ 1327م.
من الموصل كانت البداية
رغم تعدد الروايات بشأن موطن هذا الفن، إلا أن الراجح منها يشير إلى أن نقطة الانطلاق كانت مدينة الموصل العراقية، والتي عرفت صناعة زخرفة المعادن ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي، وكانت مدن آشور ونينوى والحضر من المدن الرائدة في تلك الصناعة على مدار عقود طويلة، وفق الحفريات الأثرية التي عُثر عليها في تلك المناطق.
وتشير العديد من المصادر إلى أن الآشوريين كانوا يزيّنون أوانيهم وأدواتهم بالنحاس والذهب والفضة، كما ابتكروا أدوات جديدة في الزخرفة أضافوها إلى هذه الصناعة التقليدية، حتى صارت مدرسة الموصل في التطعيم قِبلة الصنّاع، يأخذون عن أساتذتها ويحذون حذوهم.
ونظرًا إلى ما تتمتّع به الصناعات الموصلية من إبداع وتميُّز، تنافسَ الملوك وأصحاب الذوق العالي في الشرق والغرب على اقتنائها، وتزيين موائدهم وجدرانهم وأواني طعامهم وشرابهم، وأصبحت الموصل خلال القرنين السادس والسابع الهجري المرجع الأبرز في تلك الصناعة، يقصدها العاشقون لها من كل حدب وصوب.
ووصلت صناعة زخرفة المعادن أوج قمتها مع حكم السلاجقة عام 1096، لا سيما خلال أيام حكم أسرة اتابك زنكي بين سنتَي 516-600هـ/ 1122-1262م، حيث اشتهرت تلك العائلة بتشجيعها ودعمها للفنون والصناعات، لا سيما صناعة التحف المعدنية التي تجلّت فيها مهاراتهم في أشكال التحف وزخرفتها.
وللزخرفة الموصلية سمات تميُّزها عن غيرها من البلدان الأخرى، فكانت تتميز بالإكثار من الرسوم الآدمية والحيوانية كما استخدام الخطوط المتنوعة والإبداعية في النقش والكتابة، كما كانت تمثِّل تلك الزخارف مظاهر الحياة والترف مثل مظاهر القنص والصيد واللعب بالكرة والصولجان ومظاهر فلكية وصور الحيوانات.
وتمرُّ التحفة المعدنية المراد زخرفتها في المدرسة الموصلية بـ 4 مراحل، الأولى مرحلة الصقل ويقوم عليها “صغار الصنّاع والمتدرِّبين”، ثم المرحلة الثانية وهي النقش عليها بأدوات النقش المتعارف عليها، وتُمنح هنا لـ”الأستاذ”، يليها مرحلة حفر النقوش والصور بأيدي “الحفّار” ثم المرحلة النهائية وهي ملء الحفر بالذهب والفضة وتلك من اختصاصات “المطعّم”.
ومن أشهر التحف المعدنية في الموصل هي القناديل والشمعدانات والمباخر وأدوات المناضد والطشوت والصواني والمزهريات، وهي مزيَّنة بزخارف نباتية وهندسية وتصاوير وكتابات بخطوط مختلفة، وكان يُكتب على تلك التحف أحيانًا اسم صانعها وموطنه وتاريخ العمل والشخص أو الجهة المصنوع لها هذا العمل.
العديد من المؤرِّخين وثّقوا احتضان الموصل لهذا الفن والتميز فيها، حتى صارت المدرسة الموصلية في الزخرفة قِبلة للمتعلمين من كل مكان، كما قال القزويني حين أشار إلى دقّة أهل الموصل في صناعاتهم: “وأهلها أهل تدقيق في الصناعات”، وفيها أيضًا قال الرحّالة المغربي ابن سعيد خلال زيارته للعراق سنة 648هـ/ 1250م: “إن مدينة الموصل كانت فيها صنائع جمّة لا سيما أواني النحاس المطعّم التي كان يُحمل منها إلى الملوك”.
هناك العديد من المقومات التي ساعدت الموصل على ريادة تلك الصناعة في المنطقة، منها توفُّر المواد الأولية اللازمة كالنحاس وغيره، سواء داخل المدينة أو استيراده من مدن قريبة يكثر فيها هذا المعدن، هذا بخلاف تشجيع رجال الدولة لتلك الصناعة وإجزال العطاء لأصحابها وتذليل كافة العقبات، إضافة إلى ما كان يتمتّع به الموصليون من مهارات وكفاءات عالية.
ومع سقوط الموصل على أيدي المغول عام 1258م، مُنيت تلك الصناعة -كغيرها من الصناعات الأخرى- بضربة موجعة، ففرَّ أصحابها بحياتهم إلى الشام ومصر، حيث نقلوا خبراتهم في هذا المجال إلى بقية الشعوب العربية التي نهلت من المدرسة الموصلية قدر الإمكان، فتحوّلت إلى قلاع كبيرة في فن “التكفيت”.
مرورًا بدمشق
من أشهر الفنانيين العراقيين الذين نقلوا خبراتهم إلى سوريا بعد الفرار من المغول، الفنان النقّاش حسين بن محمد الموصلي وأبناؤه، حيث وضعوا اللبنة الأولى نحو تأسيس صناعة زخرفة المعادن في الشام، فبرع ابن محمد في زخرفة الأواني المعدنية للملوك الأيوبيين، ومن هذه التحف المعدنية إبريق من النحاس صُنع في دمشق، كُتب عليه “عز مولانا السلطان الملك الناصر… نقش حسين بن محمد الموصلي بدمشق، سنة سبع وخمسين وستمائة”.
تميّزَ السوريون بزخرفة الأواني والقطع النحاسية بجانب إجادة النقش على السيوف والخناجر، وتطعيمها بالذهب والفضة والمعادن الثمينة، ونتيجة لتلك الحرفة التراثية اكتسب السيف الدمشقي شهرة عالمية كبيرة نظرًا إلى المعدن المصنوع منه وهو الفولاذ الأسود والأبيض، ذو الكربون العالي والأقل، بجانب الرسم والتصميم الرائع للسيف الذي يسهّل عملية القتال، حيث له حد قاطع وظهر سميك.
وللسوريين أسطورة يستمدّون منها تميزهم في صناعة السيوف، تلك التي تشير إلى أن الإله حدد (أحد آلهة سوريا القديمة، إله الطقس والعواصف والأمطار) كان يضرب بعض القساة بالبرق فكان يترك ذلك البرق بعض نترات الحديد نتيجة الضرب، فكان الصنّاع يستخدمون تلك النترات في صناعة السيف وخلطها بتركيبات سحرية غامضة لا يعرفها إلّا كبير الصنّاع الذي كان يُعرَف باسم “شيخ الكار”.
وتحتلُّ صناعة زخرفة المعادن مكانة كبيرة لدى الدمشقيين الذين نجحوا في الإضافة إلى أصول الصناعة الموصلية ليواصلوا تفوقهم حتى اليوم، فبينما تعاني تلك الصناعة من موت إكلينيكي في موطنها الأصلي، لا تزال تقاوم من أجل البقاء في شوارع وميادين دمشق رغم التحديات التي تواجهها والتي أدّت بين الحين والآخر إلى هروب الكثير من أبناء المهنة لقاهرة المعز.
وصولًا إلى القاهرة
من المزارات المميزة للقاهرة المحروسة منطقة الدراسة، حيث الحسين والأزهر وخان الخليلي والغورية، وحيث تكتسي تلك المناطق بالأواني النحاسية المزخرفة، والقطع المعدنية بارعة الجمال التي تجذب الأنظار، وباتت قِبلة للكثير من السائحين من قارّتَي آسيا وأوروبا على وجه التحديد.
جولة واحدة داخل تلك المناطق تشعرك كأنك تسير فوق أرض مفروشة بالقطع المعدنية التي تتناسق فيما بينها، بصورة تحمل الناظر على جناح السرعة في جولة مكّوكية للعهد المملوكي وما قبله، حيث العصر الذهبي للفن الإسلامي، واللوحات المتناثرة على جنبات الطريق تأسر معها الأفئدة والعيون.
ويعمل بتلك الصناعة عدد ليس بالكثير من العائلات التي ورثتها أبًا عن جد، من أشهرها “عائلة آل الحسين”، والتي تعمل بتلك الحرفة منذ أكثر من 200 عام، نجحوا خلالها في تقديم صورة مشرقة عن الإبداع المصري في هذا المجال، ما جعلَ مؤسِّس مبادرة “يالا على الورشة”، مصطفى كامل، الاستعانة ببعض منهم في “معرض فنون النحاس” الذي نظّمه بيت السناري الأثري بحي السيدة زينب بالقاهرة، التابع لمكتبة الإسكندرية، في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
ويعدّ الأجانب والعرب خاصة من أوروبا ودول الخليج الزبائن الأكثر إقبالًا على تلك المنتجات اليدوية، بسبب أنهم “اللي بيفهموا فيه ويقدروا”، بحسب الفنان عمرو حسين عبد المقصود، أحد صنّاع الزخرفة والمنتمي إلى عائلة آل الحسين، والذي وهبَ ابنه ذا الـ 10 أعوام لدراسة وإتقان فنون الحرفة، معلِّلًا ذلك بأن “الصنعة دي لو مفضلناش نعلمها لأولادنا هتختفي، لأن حرفينها يتعدوا على الصوابع” وفق تصريحاته لصحيفة “الشروق” المصرية.
كانت تلك الحرفة إحدى أبرز الحِرَف “الغنية” في مصر قبل عقود، حيث كانت تدرُّ أموالًا كثيرة على العاملين بها، لكن في السنوات الأخيرة تراجعت بصورة كبيرة، ما أدّى إلى عزوف البعض عنها، ولم يتبقَّ منها إلا القلّة القليلة التي تعتمدُ على زبائنها من الخارج كل عام، فيما يمكث معظمهم بقية العام لا تتعدّى مبيعاتهم 10% ممّا كانت عليه قبل 20 عامًا على سبيل المثال.
التكنولوجيا وإنقاذ المهنة
ظلت صناعة زخرفة المعادن والنقش عليها على مدار عقود طويلة مضت أحد أبرز الفنون التي حافظت على الهوية العربية والإسلامية، وكانت سمتًا مهمًّا لمآثر الحضارة الإسلامية وعمارتها التي تجاوزت البنايات إلى الأواني والمستلزمات المنزلية والصناعات المعدنية اليدوية.
ولأنها صناعة يدوية خالصة، استمدت قدسيتها من نقائها اليدوي، وتأثّرت كثيرًا بالتطورات التكنولوجية الحديثة التي ما تركت مجالًا إلا واقتحمته، حيث استطاعت تلك التطورات سحب البساط تدريجيًّا من تحت تلك الحرفة التراثية، فكان التلاعُب بالنقوش والأشكال المرسومة على القطع المعدنية بأحدث الأساليب المبهرة خنجرًا في ظهر المهنة الأصلية وأبنائها.
ومع مرور الوقت تقزّمت تلك الصناعة التي لم يتبقَّ منها إلا المؤمنون بها، العاشقون لها، ممن امتهنوها حبًّا أكثر من كونها وظيفة للتربُّح، فكانوا كالقابضين على الجمر في ظل تلك التحديات التي تواجههم وأبرزها ارتفاع أسعار المواد التي تدخل في تلك الصناعات بجانب تراجع نسب الإقبال ومن ثم عملية البيع والشراء، بخلاف تغول الصناعات المبنية على التطورات التكنولوجية بأسعار أرخص بكثير من نظيراتها اليدوية.
عدة مناشدات وصرخات مدوية أطلقها أبناء فن “التكفيت” في مصر والعراق وسوريا والمغرب وغيرها من الدول المهتمة بهذا الفن، للتدخُّل الفوري العاجل من الحكومات والمنظمات المعنية بالتراث لدعم تلك المهنة التي تواجه شبح الاندثار، والإبقاء عليها كونها إحدى العلامات المميِّزة للفن الإسلامي ومظهرًا مشرّفًا لما قدمته الحضارة الإسلامية لمنظومة التراث والفن العالمي بصفة عامة.