تشهد المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية شمال البلاد تشجيعًا على الاستثمار التجاري والصناعي بشكل واسع، وتسعى الإدارة المدنية المتمثلة بالمجالس المحلية إلى دعم التجّار والصناعيين، ومنحهم امتيازات متعددة للقيام بمشاريعهم الاستثمارية التي تحفظ لهم تحقيق الأرباح، وتشغيل نسبة جيدة من العاطلين عن العمل، فضلًا عن إمكانية تصريف البضائع والحصول على المواد الأولية.
يأتي ذلك عقب غياب المنطقة لسنوات متواصلة عن الأنشطة التجارية والصناعية المحلية، واقتصار العمل التجاري فيها على استيراد وتصدير للبضائع التركية والسورية، التي كانت تدخل المنطقة لتصدَّر نحو الأسواق سواء في مناطق سيطرة النظام أو مناطق سيطرة “قسد”، والتي خلقت ظروفًا تجارية استغلالية تتحكّم فيها فئة معيّنة من التجّار.
لمحة عن الواقع التجاري والصناعي سابقًا
يعتمد سكان الشمال السوري على الزراعة بالدرجة الأولى كمصدر دخل يعينهم على تأمين احتياجاتهم، مع وجود عدد ضخم من التجّار العاملين على مستوى تجارة المحاصيل الزراعية، بينهم تجّار يعملون في التجارة الداخلية وآخرون في التجارة الخارجية وتجارة الألبسة وغيرها من البضائع، مع غياب التصنيع المحلي.
ساهم انحسار المنطقة في حدود ضيقة في تردّي القطاع الزراعي وتجارة المحاصيل، تزامنَ مع نشوء لون جديد من التجارة، هي تجارة الأزمات أو الحرب، يعتمدُ فيها التجار على استغلال احتياجات المناطق وضخّ أنواع من البضائع واحتكار أخرى، وجعلها فرصة لتحقيق أرباح باهظة على حساب الأهالي، مع غياب تامّ لأي سلطة محلية تفرض أولويات المنطقة على التجار.
فعلى سبيل المثال، كان المنتَج الزراعي من البطاطا في ريف حلب يصل إلى العراق، أثناء سيطرة تنظيم “داعش” على شمال شرقي سوريا، ومع مرور الوقت أصبح لدى التجّار إمكانية التعاون مع التنظيم وإدخال مختلف أنواع البضائع والخضروات بأسعار خيالية، نظرًا إلى حاجة مناطق سيطرة التنظيم، ما أوجد فئة كبيرة من أصحاب رؤوس الأموال الجدد الذين بنوا أنفسهم على الظروف.
وشكّل غياب المعامل والمنشآت الصناعية الضخمة التي كانت تستقطب آلاف الأيدي العاملة من الأرياف إلى المدينة، ارتفاعًا في معدلات البطالة، إلى جانب انهيار الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وصعوبة تأمين المواد الأولية، وحتى تصريف البضائع كلها أثّرت بشكل سلبي، ما ساهمَ في تردّي القطاع التجاري.
تبدو الميزات التي تُمنَح للتجّار والصناعيين بمنزلة فرصة لمشاركة رؤوس الأموال السوريين المتواجدين على الأراضي التركية في الاستثمار، لا سيما أن المنطقة لا يوجد فيها ضرائب، مع انخفاض أجور الأيدي العاملة وإمكانية تسهيل عملية تسويق الإنتاج.
كانت تلك المصانع والمعامل توفِّر فرص عمل لآلاف العمال، إلا أن تعرُّضها للقصف وتغير السيطرة تسبّبَ في إيقافها أو عدم قدرة العمال والموظفين على مزاولة أعمالهم لأسباب أمنية، من ضمنها التعرُّض للاعتقال أو المساءلة لمجرد أن تكون من منطقة خارجة عن سيطرة حكومة النظام.
يقول عبد الرحمن عبد الرزاق، تاجر أكياس بلاستيكية، في حديثه لـ”نون بوست”: “استمرَّ القطاع التجاري بالتراجع، وساهمت العمليات العسكرية والجوية التي كانت تستهدف المنطقة باعتزال الآلاف من التجار ورؤوس الأموال، والهجرة خارج البلاد”.
وأضاف: “مع مرور الوقت أوجدت الظروف فئة جديدة من التجّار العاملين في استيراد وتجارة البضائع، وتسويقها بحسب الطلب عليها، مع غياب تام للسلطة المحلية التي يجب أن تعمل على تحديد أولويات العمل التجاري، ما جعل المنطقة تعيش في عشوائية التجارة المرتبطة بالاستغلال والاحتكار”.
وأوضح: “إمكانية التعافي من عشوائية التجارة صعبة للغاية، لأن الوضع الأمني حتى اللحظة غير مستقرّ، وهذا يعني مزيدًا من المخاوف التي قد تلجم التجار ورؤوس الأموال عن الاستثمار، وكذلك تنطبق مختلف المعاملات التجارية التي تضيع أتعابها بين رسوم هنا وإتاوات هناك على الحواجز”.
وتسببت الأوضاع الأمنية المتردية، وعدم استقرار وضع الشمال السوري، رغم الأمان النسبي الذي شهدته مؤخرًا؛ في حالة خوف لدى المستثمرين والتجار وأصحاب رؤوس الأموال، حيث يخشون ترك مشاريعهم الاستثمارية في حال تعرضت المنطقة لأي تهديد أمني لا يحمد عقباه.
مساعٍ وتشجيع على الاستثمار
تعمل المجالس المحلية في ريف حلب الشمالي على استقطاب التجار والصناعيين من رؤوس الأموال، وتنظيم عملهم ضمن مؤسسة رسمية، تحت مسمّى “غرفة التجارة والصناعة”، وتضمُّ معظم العاملين في القطاعَين الصناعي والتجاري، ويحصلون على بطاقة خاصة تمكّنهم من الدخول إلى الأراضي التركية، وتسمح لهم باستيراد البضائع والمنتجات لضخّها في أسواق الشمال السوري.
كما تتعاون غرف التجارة والصناعة في المجالس المحلية مع غرف التجارة والصناعة التابعة للولايات التركية الجنوبية التي تدير المنطقة، وهي ولايات غازي عنتاب وكليس وهاتاي، التي تسعى إلى تشجيع التجار على الاستثمار من خلال إيجاد بيئة تجارية وصناعية مناسبة لنجاح مشاريعهم.
غرفة التجارة والصناعة في مدينة مارع شمال حلب، أعلنت عن عروض جديدة لإنشاء المدينة الصناعية الشمالية الوسطى، التي تهدف إلى تحسين الواقع التجاري والصناعي للاستثمار وتنظيم أعمال التجّار، وذلك بالتعاون مع ولاية كليس التركية.
تضمّنت العروض المقدَّمة للمستثمرين شراء عقار بمساحة 250 مترًا مربّعًا بقيمة 5000 دولار أمريكي، مع منح إذن الدخول إلى الأراضي التركية، مع تحديد مدة أقصاها 6 أشهر للبدء في المشروع الصناعي، وسيتم تنظيم البناء بحسب المعايير التي تضعها إدارة المدينة الصناعية بإشراف مهندسين معماريين.
افتُتحت المنطقة الصناعية الأولى في مدينة الباب قبل أعوام، لكنها لم تلقَ الرواج الحالي رغم الأموال التي ضُخَّت للمشروع
يقول مدير غرفة التجارة في مدينة مارع، حسن حافظ، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “المدينة الصناعية مكوَّنة من 350 محضرًا، تم استثمار معظمها بعد العروض المقدمة، وتمَّ استقطاب مصنّعين ورؤوس أموال من سرمدا والراعي والباب وأعزاز، وأيضًا من المهجّرين إلى الشمال السوري، ومن أبرز المصانع المعلن عن إنشائها صناعة الألبان والأجبان، والأدوية والحديد والمنظفات والسيف والليف الخاصة بجلي الأواني والحصر والنسيج والأحذية والخياطة”.
وأضاف: “بدأت غرفة التجارة في مرحلة البناء، وتمَّ استثمار حوالي 85% من المحاضر لإنشاء المنطقة الصناعية، وتعمل غرفة التجارة على تكوين بيئة صناعية بمعايير متميزة، بتكاتف الجهود من قبل كل رؤوس الأموال والتجار المقيمين في المنطقة، وهناك مشاريع لتشغيلها وضمان نجاح استثمار التجار والصناعيين فيها”.
أما في مدينة الراعي يستعدّ المجلس المحلي لافتتاح المدينة الصناعية قريبًا، ومعظم المعامل والصناعات الموجودة فيها تندرج ضمن صناعة الأحذية والنسيج، كما منحت تركيا أصحاب المصانع إمكانية تسويق منتجاتهم بمختلف أنواعها داخل السوق التركي.
ويتوقع القائمون على المدينة الصناعية نجاحها بسبب التشجيع التركي للصناعيين والتجار في افتتاح منشآتهم وتسويق بضائعهم عبر الأراضي التركية، كما يضع التجار المحليون آمالًا قد تساهم في إتاحة الفرصة لهم للخوض في المجال الصناعي على مستوى جيد.
وفي السياق، افتُتحت المنطقة الصناعية الأولى في مدينة الباب قبل أعوام، لكنها لم تلقَ الرواج الحالي رغم الأموال التي ضُخَّت للمشروع، لأسباب متعددة من أبرزها عدم إلزام التجار بمدة معيَّنة لانطلاق مشاريعهم، والتهديدات الأمنية التي تتعرض لها المدينة، بسبب قربها من خطوط التماسّ مع قوات النظام و”قسد”.
ويشمل النشاط التجاري والصناعي مناطق أعزاز وعفرين وجرابلس وأخترين وإدلب، مع محاولات متواصلة من الجهات المدنية لإيجاد نشاط اقتصادي وتجاري في الشمال السوري، بدعم تركي.
كيف يتمُّ دعم التجارة والصناعة؟
مدير المكتب التجاري في المجلس المحلي لمدينة أعزاز، إبراهيم دربالة، رأى في حديث لـ”نون بوست” أن “الواقع التجاري والصناعي بريف حلب يعتبر جيدًا إلى حد ما” مشيرًا إلى أن المكتب “يسعى إلى تحقيق توازن مادي واقتصادي بين التجار والصناعيين والمستهلكين”.
وأضاف: “هناك ورش صغيرة متخصِّصة في نجارة الخشب والموبيليا والحديد، ومعامل عصر الزيتون، ولا توجد معامل كبيرة بمعنى الكلمة، إنما معامل خدمية، مثل صناعة الفوط وتغليف الحبوب ومعامل صناعة شيبس الأطفال ورب البندورة، ومعامل صناعة الأكياس البلاستيكية، ومعامل صناعة مواد التنظيف، وغيرها من الصناعات الخفيفة، لكن الظروف الحالية قد تساهم في نشاط جديد للعمل الصناعي، خاصة مع إمكانية تسويقها خارج المنطقة”.
ويعمل المكتب التجاري في مدينة أعزاز على إنشاء مدينة صناعية، طبقًا للمواصفات العالمية مجهَّزة بوحدة إطفاء وسور حماية وكاميرات مراقبة وبنية تحتية مؤهَّلة بشكل كامل، لتشجيع التجار والصناعيين والمستثمرين واستقطابهم مع تسهيلات تخصُّ الاستيراد والتصدير وميزات بالدخول إلى تركيا وإعفاءات ضريبية.
وتابع: “يقدِّم المكتب التجاري جميع التسهيلات للتجار لاستثمار أموالهم وإيجاد بيئة مناسبة للحركة الاقتصادية، من خلال توفير الأمن والسلامة في المنطقة، بالإضافة إلى فتح مصارف تضمن تنقُّل العملة وإيجاد مدينة صناعية تستقطب رؤوس الأموال”.
وأشار إلى أن المواد الخام الأولية يتمُّ استيرادها من تركيا، كما يتمُّ تصدير بعض المنتجات الزراعية إلى تركيا وحتى ربما غيرها، بينما يعاني القطاع التجاري من إغلاق المعابر الفاصلة بين النظام و”قسد” والمعارضة، ما يعرقل عملية التصريف الإنتاجي.
ما مزايا الاستثمار في الشمال السوري؟
يخشى معظم التجار وأصحاب رؤوس الأموال من استثمار أموالهم في الداخل السوري لأسباب متعددة، موضوعية بمجملها، من أبرزها عدم استقرار المنطقة أمنيًّا، لكن العديد من المزايا تساهم في نجاح الاستثمار في الشمال السوري لفترة محدودة، باعتبار أن هذا الاقتصاد خدمي وليس إنتاجي، وتُعتبَر منافع الاقتصاد الخدمي منخفضة نسبيًّا مقارنة بالإنتاجي.
يقول الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، في حديثه لـ”نون بوست”: “من المزايا التي تشجّع على الاستثمار، توافُر اليد العاملة ورخص الأجور، ما يعني أرباح مرتفعة للمستثمرين، وهذا الأمر ينعكس إيجابًا على نقطة التعادل من خلال انخفاض قيمتها، وبالتالي ارتفاع هامش الأمان في هذه الاستثمارات، إضافة إلى انخفاض مخاطر المنافسة، وتوافُر الطلب من خلال الطلب الداخلي في الشمال السوري، والطلب من خلال التصدير إلى تركيا، ناهيك عن وجود مستلزمات الاستثمار لا سيما في مجال الصناعات التحويلية”.
وأضاف: “في حال تنشيط الحركة الاستثمارية في الشمال السوري، فالمنفعة ستتحقق على عدة جهات، منها تركيا، فالاستقرار الاقتصادي في الشمال السوري من صالح تركيا، لا سيما من ناحية تجهيز البيئة الاقتصادية لاستقبال اللاجئين السوريين في حال تمَّ إعادتهم إلى سوريا”.
الشمال السوري بحاجة إلى مشاريع تجارية وصناعية يتوفر فيها إمكانية تأمين المواد الأولية ومكان التسويق، من أجل أن يرقى إلى مستوى مشروع تجاري مستدام.
واعتبر أن هذا الأمر أمامه عقبات أهمها ضبابية مستقبل الشمال السوري، خاصة أن استقراره على المدى الطويل مرهون بالتفاهمات الدولية والإقليمية، وخاصة التركية والروسية والأمريكية، كما أن غياب الجهاز المصرفي الفاعل يشكّل عقبة، فالاستثمارات تحتاج إلى خدمات مصرفية فعّالة.
لذلك تبدو الميزات التي تُمنَح للتجّار والصناعيين بمنزلة فرصة لمشاركة رؤوس الأموال السوريين المتواجدين على الأراضي التركية في الاستثمار، لا سيما أن المنطقة لا يوجد فيها ضرائب، مع انخفاض أجور الأيدي العاملة وإمكانية تسهيل عملية تسويق الإنتاج.
فعليًّا، الشمال السوري بحاجة إلى مشاريع تجارية وصناعية يتوفَّر فيها إمكانية تأمين المواد الأولية ومكان التسويق، من أجل أن يُرقى إلى مستوى مشروع تجاري مستدام، وهذا يعني منح العشرات من العاطلين عن العمل وظائف قد تكون مستدامة تغنيهم عن الحاجة، لذلك يعوّل الأهالي على المنشآت الصناعية، التي ستخلق واقعًا مختلفًا تمامًا عمّا يعيشونه في الوقت الحالي.