يبدو أن الحملة الانتخابية في ليبيا قد بدأت مبكّرًا، 3 أشهر قبل الموعد المضروب، رغم أن القاعدة الدستورية التي ستُجرى على أساسها لم تُعتمد بعد، ما جعل رئيس البرلمان الموالي لحفتر، عقيلة صالح، يعتمد قانونًا بشكل أحادي، ولجنة شكّلها بشكل فردي كذلك، قبل أن يسحب الثقة في جلسة غير قانونية من رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، في حرب شعواء لا تقلّ شراسةً عن حرب عضده الأيمن اللواء المتمرد خليفة حفتر التي خاضها قبل عامَين على طرابلس، وانتهت بـ”الانسحاب التكتيكي” المفروض من قوى أجنبية.
يسعى عقيلة حاليًّا إلى تفصيل القانون الانتخابي على مقاس حفتر، فلربّما يستطيع كسب معركة الانتخابات الرئاسية لينتصب على سدة الحكم بعد الفشل العسكري، ولربما يعود إلى الحرب مجددًا إذا فشل في الصندوق، فقانون عقيلة يسمح له بذلك، وهنا مكمن الخطورة، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فشعبية عقيلة في انخفاض مقابل شخصية رئيس الحكومة عبد الحميد بعد محاولات عزله، في معركة غير معلنة فرضَت على رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي التدخُّل بإطلاقه مبادرة من المنبر الأممي، لتهدئة الخواطر داخليًّا وطمأنة الخارج حتى لا يتم تفويت المحطة الانتخابية وتدارك ما قد يكون أعظم.
عضلات ما قبل الترشح.. الهجوم على الجنوب
لا شيء غير الانتصار سلميًّا أو بالقوة الخاشمة، أي بـ”خشم البندقة”، كما سمّاها الناطق باسم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، عند إعلان “الانسحاب التكتيكي” لقواته بعد الهزيمة العسكرية الثقيلة على أبواب العاصمة طرابلس. ويبدو حاليًّا أن حفتر يحاول العودة من نافذة الصندوق بعد خروجه مدحورًا من أبواب عاصمة بلاده، فهل أصبحت الحرب قدرًا عند حفتر وشرًّا لا بد منه عاجلًا أم آجلًا؟
لا يزال حفتر يتّبع سياسة الهروب إلى الأمام في تصريحاته ومناوراته العسكرية، غير آبهٍ بمنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي لا يزال يحتكره في الشرق، ضاربًا عرض الحائط بتفاهمات جنيف التي منحها لرئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، كذلك من خلال استعراضاته العسكرية وغزو قواته منتصف شهر يونيو/ حزيران المنقضي لعاصمة الجنوب الليبي سبها حتى الحدود الجنوبية، وما أثاره من أزمة مع الجارة الجزائر بعد إغلاقه بوابة حدودية كانت ستُفتح بعد جهود دبلوماسية لرئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، حتى إن قائد الأركان الجزائري سعيد شنقريحة هاجم حفتر في تلميح واضح للإعلام الجزائري.
وكانت كلمة شنقريحة، الذي آثر الإشراف بنفسه على المناورات، تهديدًا واضحًا موجَّهًا لحفتر ولمن يقترب من أراضيه، في رسالة شديدة اللهجة ولو دون ذكره بالاسم، إلا أن الإعلام الجزائري سمّى الأمور بمسمياتها.
أيام بعد تصريح الفريق شنقريحة.. حفتر يعلن انسحاب قواته من العاصمة طرابلس.. شاهدوا: pic.twitter.com/GCBNuHx4ZE
— EL BILAD – البلاد (@El_Bilade) July 4, 2021
وبغضّ النظر عن التوجهات الجزائرية للسياسة الداخلية، فإن استخبارات الجزائر وجيشها من القوّة بمكان، فتصريح الرئيس عبد المجيد تبون في 8 يونيو/ حزيران الماضي بأن “طرابلس كانت خطًّا أحمر” وذلك “وصل إلى من يهمّه الأمر”، في إشارة إلى حفتر، إضافة إلى تصريحات قائد أركانه سعيد شنقريحة نهاية الشهر نفسه، هي تأكيد للحفاترة (أنصار حفتر) على أن اقتحام قواته للجنوب وبوابة الدبداب مع الجزائر واستعراض عضلاته العسكرية، دليل إضافي على أحقاد حفتر على الجزائر التي رفضت الانخراط معه في حربه على طرابلس ضمن المحور الإماراتي المصري، لوعي منها بخطورة تواجد الإمارات في المنطقة المغاربية، ناهيك عن التواجد الروسي المخيف لتوسُّع مرتزقة “فاغنر” نحو دول الساحل والصحراء، وقد تبين ذلك للعيان بعد اغتيال الرئيس التشادي إدريس ديبي.
كل هذه الاستعراضات يهدف حفتر من ورائها إلى الترويج لصورته بعد انكساره، وهي محاولة لإعادة ترميم صورة “الجيش القوي” الذي يقوده “رجل ليبيا القوي”، كما كانت تسميه بعض الدوائر الغربية كفرنسا وروسيا، ظنًّا منها أنه سيوحّد البلاد بعد منحه كل الوقت لضمِّ كامل الإقليم الغربي.
وبعد أن كان موضع شكّ، فإن تخلّي حفتر مؤخّرًا عن منصب القيادة العامة لقواته، جاء استعدادًا منه للترشح بزيّ مدني وخلع بزته العسكرية لرئاسة ليبيا، على أساس “ما لا يُدرَك بالعسكرة قد يُدرَك بالصندوق”، خاصة إذا تفرّقت أصوات المنطقة الغربية على أكثر من مرشح.
“قانون عقيلة”.. عودة حفتر بالصندوق
بينما اعتقد البعض أن حفتر، الذي قاد أطول انقلاب عسكري عبر التاريخ استمرَّ لـ 7 سنوات، قد أنهى مغامراته العسكرية منذ عام 2014 إلى حدود عام 2020 بهزيمته على أسوار طرابلس، إلا أنه تبيّن من خلال إصدار رئيس مجلس النواب عقيلة صالح قانون الانتخابات وقانون ترشح رئيس الدولة، بشكل منفرد ودون تمريره على التصويت، أن ذلك القانون مُفصّل تمامًا على مقاس حفتر ليمكّنه من الترشح للرئاسة وانتخابه بشكل مباشر، دون استشارة المجلس الأعلى للدولة في تعدٍّ على تفاهمات جنيف.
بل أكثر من ذلك، فإن المادة 12 تشير إلى إمكانية عودة حفتر إلى قيادة الجيش مرة أخرى في حال خسارته الرهان الانتخابي (المادة: “يعدّ كل مواطن سواء مدنيًّا أو عسكريًّا متوقفًا عن العمل عند ترشحه للرئاسة، وإذا لم يُنتخب فإنه يعود لعمله وتُصرف له مستحقاته”)، وهذا أمر حيك بليل، حيث قد يقود حفتر هجومًا جديدًا على طرابلس بعد أن كان قد استعاد الجنوب كما أشرنا سابقًا، واقترب إليها أكثر، بل يعود أكثر حماسة ونهمًا على الحرب انتقامًا لهزيمته الانتخابية.
#الانتخابات وفق قانون #عقيلة_صالح: لو استطاع #حفتر تزوير الانتخابات في مناطق سيطرته لصالحه، وحصل على حصته من صوت الناخب بالمنطقة الغربية دون مضايقة.
فهل سيحكم من #طرابلس مدينة ضحاياه، أم من الرجمة؟ وكيف سيتعامل هو ومليشياته القبلية المملوكة له، مع كل من عارض ارهاب الكرامة بمنشور! pic.twitter.com/NJneKjOkrQ
— Dr. Farag DARDOUR M د. فرج دردور (@FaragDardour) September 26, 2021
كذلك، في حال فاز (خاصة أن معظم الدوائر الانتخابية في نفوذ حفتر، ما يطرح مسألة التزوير)، فيمكن أن يُشهر سيف الانقلاب من جديد من مقرّه بالرّجمة، ويعلن مواصلة حربه، كيف لا وهو رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، من هنا يمكن فهم الدعوات الحالية من المجلس الأعلى للدولة الداعية إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى ما بعد الانتخابات التشريعية، التي طالبت بالحفاظ على موعدها في 24 ديسمبر/ كانون ثاني القادم، أي إلى ما بعد إقرار دستور دائم.
وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى فوز عقيلة صالح في صورة ترشحه بالرئاسة، الذي اكتفى حاليًّا بقوله إنه سيُبدي موقفه منها لاحقًا، فإن كسبَ الاستحقاق فقد يدعم حفتر في حربه كما دعمه سابقًا ونصّبه قائدًا عامًّا للجيش، وإن خسر فإنه سيعمل من مدينته طبرق على عرقلة برامح الحكومة المنتظرة، وبالتالي لن يكون وفق “قانون عقيلة” أي رئيس مستقبلي لدولة ليبيا دون رضاء حفتر وعقيلة.
وأمام هكذا وضع، لن يتوقف الجدل بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وهو ما كان وراء تدخل المجلس الرئاسي.
حملات سابقة لأوانها.. ووساطة الرئاسي
بدأت الأمور تأخذ منحى جديدًا من جميع الأطراف السياسية في الشرق والغرب الليبي، آخذة شكلًا جديًّا مع قرب الانتخابات، وربما إفراز مشهد سياسي جديد، وقد ظهر إلى السطح ما يشبه حملات انتخابية سابقة لأوانها.
ومع إقرار عقيلة لقانون الانتخابات بتلك الطريقة التعسُّفية، تمامًا مثلما أعلن سحب الثقة من رئيس الحكومة في جلسة غير مكتملة النصاب القانوني ومن دون استشارة المجلس الأعلى للدولة، في مشهد أقرب بحملة انتخابية مبكّرة وغير قانونية كذلك.
وقد سعى عقيلة إلى ذلك مدفوعًا بارتفاع أسهم رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة لدى عامة الناس، خاصة بعد إقراره موازنة مالية لعديد الشبان في إطار برامج تيسير الزواج وتسهيلات للحصول على سكن، وبرامج إعمار أخرى مثّلت إنجازًا كبيرًا لهم في ظرف 6 أشهر فقط لم ينجزها غيره في عقد من عمر ثورة فبراير.
كُلّها إنجازات انعكست سلبًا على شعبيّة عقيلة ومحوره المتحكّم في الشرق، ما ساهم في ظهور أصوات داعمة للدبيية في عُقر ديار حفتر، ما قد يمثل خطورة على برنامجه الانتخابي ومسقبله السياسي.
سحب #عقيلة الثقة من حكومة #الدبيبة اليوم واصداره لقانون انتخابات رئاسية قبلها، هي خطوات غير قانونية يريد بها خلط الاوراق ومنع اي انتخابات في ديسمبر.
عقيلة ليس لديه اي نية في ترك مجلس النواب الا اذا اصبح رئيس #ليبيا، والارتفاع السريع في شعبية الدبيبة مؤخرا ازعجه فاتخذ هذه الخطوات.
— Guma El-Gamaty (@Guma_el_gamaty) September 21, 2021
ليس هذا فحسب، بل توسعت الحملة إلى ظهور شخصيات سياسية أخرى اختفت منذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لتعود حاليًّا للظهور وإعلان مواقفها السياسية، فظهر نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، والشخصان أبديا تقارُبًا مع حفتر وعقيلة، سواء حاليًّا أو حتى خلال التنافس على رئاسة حكومة الوحدة الوطنية.
وأمام هذه الحرب السياسية غير المعلنة، والجدل الذي قد يعصف بالعملية الانتخابية، أطلق رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي مبادرة خلال أعمال الجمعية الأممية الـ 76 الأخيرة، حيث دعا إلى مقاربة للحفاظ على المحطة المهمة نهاية العام الحالي، تقوم على استبعاد كل الوجوه السياسية المعروفة طيلة السنوات السابقة من الترشُّح للانتخابات المقبلة.
أي على سبيل المثال يتم إقصاء عقيلة صالح وخليفة حفتر وخالد المشري وفتحي باشاغا وعلي زيدان وعارف النايض وعبد الرحمان السويحلي وأحمد معيتيق؛ هنا ولو كانت المبادرة حلًّا مناسبًا لكثيرين سئموا الحرابة، فإن أسئلة ملحّة أيضًا لا بد من طرحها، فمن سيحدِّد هذه الأسماء؟ وهل ترضى بإقصائها من المشهد مثل حفتر مثلًا؟ ثم إذا كان السيد المنفي يستطيع فرض مبادرته، فلماذا لم يتدخل ويفرض تمرير مشروع الميزانية المعطَّل؟
وعليه يبدو أن هذه المبادرة في حاجة إلى تطبيق على أرض الواقع عبر ضغوطات كبيرة من القوى المتدخلة في الشأن الليبي، من قبيل الاجتماع الدولي المبرمج عقده في ليبيا شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم ضمن مبادرة دعم استقرار ليبيا، وتحت العنوان نفسه صوّت أخيرًا مجلس النواب الأميركي على اعتماد قانون دعم الاستقرار في ليبيا، في خطوة مهمّة من حليف قوي استطاع فرض الهدنة في البلاد، بعد التدخل التركي، والروسي خاصة الذي بات يقضّ مضاجع الأميركيين في المنطقة.
وأخيرًا، إن مثل هذه الضغوطات ستمثل محفّزًا وضامنًا لكل الأطراف على المُضي قدمًا نحو الانتخابات، لا سيما إذا تمَّ تفعيل العقوبات ضد المعرقلين كما ينصّ القانون.