في خطوة غير متوقعة، كلّف الرئيس التونسي قيس سعيّد لأول مرّة في تاريخ البلاد امرأة هي نجلاء بودن رمضان، وهي أكاديمية في ميدان الجيولوجيا متحصلة على دكتوراه من جامعة باريس، كانت مسؤولة سابقة في وزارة التعليم العالي مكلَّفة بتنفيذ مشاريع البنك الدولي في تونس وليس لها انتماء سياسي.
المكلفة حديثًا من قبل قيس سعيّد مطالَبة الآن بـ”تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن”، وفقًا للتدابير الاستثنائية التي أعلنتها الرئاسة التونسية، وهي مهمة تتطلب منها التواصل بشكل مثالي مع الرئيس، حيث أعلن سعيّد الذي أثار بقراراته مخاوف الداخل والخارج من انفراده بالسلطة، في وقت سابق، أنّ الحكومة ستكون تحت إشرافه تتلقى أوامره مباشرة.
سيرة ذاتية
نجلاء بودن رمضان المكلفة من قبل الرئيس التونسي قيس سعّد تبلغ من العمر 63 عامًا (1958) من محافظة القيروان (الوسط الغربي)، وهي أستاذة تعليم عالي في المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس مختصّة في علوم الجيولوجيا ومتحصلة على شهادة الدكتوراه في الجيولوجيا سنة 1987 من المدرسة الوطنية العليا للمناجم بباريس.
تشغل بودن قبل تعيينها رئيسة للحكومة التونسية خطّة مكلفة بتنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، تمّ تعيينها مديرة عامة مكلفة بالجودة بوزارة التعليم العالي عام 2011، كما شغلت منصب رئيسة وحدة تصرُّف بحسب الأهداف لإنجاز مشروع إصلاح التعليم العالي، وكُلِّفت بمهمة بديوان وزير التعليم العالي السابق شهاب بودن عام 2015.
بهذا التكليف، ستكون نجلاء بودن رمضان هي أول امرأة تتولّى منصب رئيسة حكومة في تاريخ تونس والمنطقة العربية، ما يعني أنّه تتويج لنضالات التونسيات على مدى عقود من أجل المواطنة الكاملة والمساواة في الفرص من أجل الوصول إلى مواقع القرار والمشاركة في إدارة الشأن العام.
تكليف سعيّد والمهمة
جاء في منشور عبر صفحة الرئاسة التونسية على فيسبوك أنه “عملاً بأحكام الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرَّخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بتدابير استثنائية وخاصة على الفصل 16 منه، كلّف رئيس الجمهورية قيس سعيّد، اليوم الأربعاء، 29 سبتمبر 2021، السيدة نجلاء بودن حرم رمضان بتشكيل حكومة، على أن يتم ذلك في أقرب الآجال”.
يأتي تكليف قيس سعيّد لنجلاء بودن رمضان بترؤُّس الحكومة الجديدة بعد شهرَين من عزل الرئيس للحكومة السابقة وتجميد أنشطة البرلمان، قبل أن يستأثر بالسلطة التنفيذية والتشريعية هذا الشهر بعد أن ألغى أغلب أجزاء الدستور معلنًا أنه سيحكم بمراسيم، في خطوة وصفها خصومه بأنها انقلاب على الدستور والشرعية الانتخابية.
كما يأتي التعيين في وقت تتصاعد فيه الضغوط المحلية والدولية على الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي بات يسيطر على كل السلطات، وأزمة اقتصادية خانقة بعد تراجع جميع مؤشرات الإنتاج والتنمية وكذلك الاستثمار.
لذلك، طلب الرئيس التونسي من المهندسة نجلاء بودن رئيسة الوزراء تونس أن تكون أولوية حكومتها مكافحة الفساد وإعادة الأمل للتونسيين، وقال في خطاب التكليف أنه يتعيّن عليها الإسراع في اقتراح أعضاء الحكومة معتبرًا أن تونس أضاعت وقتًا طويلًا.
وسيتعيّن على الحكومة الجديدة التحرك بسرعة كبيرة للحصول على الدعم المالي للميزانية وتسديد الديون الخارجية، بعد أن أدى استئثار سعيّد بالسلطة في يوليو/ تموز إلى تعليق المحادثات مع صندوق النقد الدولي حول قرض بقيمة 4 مليارات دولار.
قراءة في التعيين
بعيدًا عن القراءات الجندرية لتعيين نجلاء بودن رمضان على رأس الحكومة الجديدة، ومدى قدرة المرأة التونسية على التسيير والإدارة خاصة في ظل هذه الأزمة المعقّدة التي أفرزها الانسداد السياسي، فإنّ قرار سعيّد كان مفاجئًا وغير منتظر، حيث لم يدرج اسم بودن في قائمة المرشحين لهذا المنصب من قبل الدوائر الضيقة للرئيس.
ففي السابق، انحسرت التسريبات بين 3 شخصيات، وهم المتصدِّرون لبورصة الترشيحات الخاصة برئاسة الحكومة، حيث رجّحت المصادر أن يتمَّ تكليف مروان العباسي رئيس البنك المركزي ووزيرَي المالية السابقَين حكيم حمودة ونزار يعيش.
لذلك، إن تعيين نجلاء بودن رمضان أحدث صدمة كبيرة في الداخل التونسي وذلك لسببَين رئيسيَّين، أولهما أن بودن اسم من خارج الحقل السياسي لم يُعرَف عنها انخراط في الشأن العام أو انتساب لأحد الأحزاب، أما ثاني الأسباب فيتمثل في أن البلاد تعرف أزمة اقتصادية شديدة التعقيد، وهي بحاجة إلى شخصية اقتصادية قادرة على طرح بديل للسياسات القائمة ضمن خطة إنقاذ شاملة وحزمة قرارات رائدة.
من هذه الزاوية، يُمكن القول إن اختيار نجلاء بودن لهذا المنصب في هذا الظرف الحسّاس الذي تعيشه تونس من أزمة اقتصادية فاقمتها تداعيات جائحة كورونا، وعدم الاستقرار السياسي الناتج عن انسداد الأفق واستمرار حالة الاستثناء، يشير إلى أنّ التعيين يأتي متناسقًا مع محاولة الرئيس الاستئثار بالسلطة والتحكم في مجريات الأمور.
فنجلاء بودن شخصية تنتمي إلى المناخ الأكاديمي المفضَّل لدى قيس سعيّد، مثلها مثل مديرة ديوانه نادية عكاشة، ليستا من عالم السياسة ولم تكونا يومًا صوتًا نسويًّا قويًّا مؤثرًا في الحياة العامة، ما يعني أن بودن ستتولى منصبًا منزوع الصلاحيات، وستكون أقرب الى وزيرة أولى منها إلى رئيسة حكومة.
عمليًّا، اختيار قيس سعيّد لنجلاء بودن رمضان كان على أساس الولاء والثقة لا على التاريخ السياسي والنضالي أو الكفاءة، من حيث القدرة على تسيير وإدارة بلد يعرف أزمات مركّبة ومعقّدة إلى أبعد الحدود، وذلك دون استنقاص من السيرة الذاتية لرئيسة الحكومة الجديدة.
مع ذلك، وجب الإشارة إلى أنّ الرئيس يسعى من خلال تعيين نجلاء بودن رمضان على رأس الحكومة، الاستثمار في القضايا النسوية وقبول الديمقراطيين واليسار عامة لهذه الخطوة، كما يريد استثمارها خارجيًّا ببعث رسائل أن الرئيس منفتح وديمقراطي، والأهم من ذلك كله استثمار علاقات بودن المتميزة مع الجهات المانحة (البنك الدولي)، وهو السبب الأساسي الذي من الممكن أن يكون الرئيس استند عليه في قرار التعيين.
أمّا عن قدرة نجلاء بودن رمضان على قيادة المرحلة الحرجة في تونس، فمن خلال الإجراءات التي أعلنها قيس سعيّد في وقت سابق، يُمكن الجزم بأنها لن تخرج عن إرادة ساكن قرطاج ومشروعه الانقلابي، وستكون بمثابة وزير أول يأتمر بأمر رئيسه المباشر.
فالمرسوم 117 الذي أصدره الرئيس التونسي ينصُّ على أن تتكون الحكومة من رئيس ووزراء وكتّاب دولة يعيّنهم رئيس الجمهورية، وتتولى السهر على تنفيذ السياسات العامة للدولة طبقًا للتوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس البلاد، ما يعني أن الكلمة ستعود إلى سعيّد في كل الحالات.
أثار إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد تعيين نجلاء بودن رئيسة للحكومة الجديدة في البلاد، ردود فعل متباينة لدى أحزاب وسياسيين ومنظمات تونسية، فمنهم من أشاد بالقرار ومنهم من اعتبره هروبًا إلى الأمام واستكمالًا لحلقات الانقلاب، فيما يبقى التونسيون في انتظار الخطوة القادمة للرئيس “الغامض”.