تحل اليوم الذكرى الثالثة لمقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، الذي غُدر به داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018، وسط أجواء من الضبابية تخيم على عدالة تلك القضية التي هزت الضمير الإنساني وأحدثت به شرخًا من الصعب أن يلتئم إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
المتورطون في تلك الجريمة نجحوا عبر إستراتيجية التسويف والمماطلة، مستغلين نفوذهم المالي والاقتصادي، في تغييب القضية عن دوائر القضاء الدولي، ساعدهم على ذلك المستجدات التي شهدتها الخريطة العالمية خلال العامين الماضيين التي كان لها تأثيرها السلبي في عرقلة العدالة المطلوبة لقضية مكتملة الأركان، معروف أبطالها بالأدلة والوثائق.
مطالبات بفتح تحقيقات دولية، مناشدات حقوقية بمعاقبة المجرمين أيًا كانت مناصبهم، ضغوط سياسية وبرلمانية هنا وهناك للانتصار العدالة، حملات إعلامية داعمة للقصاص للمعارض الذي دفع حياته ثمنًا لحلمه بديمقراطية حقيقية تحياها بلاده وبقية البلدان العربية، غير أن النتيجة النهائية: الحكم بالسجن على ثمانية مدانين لفترات تتراوح بين 7-20 عامًا.
وبعد مرور 3 سنوات على مقتل خاشقجي، تخللتها عشرات التحقيقات، متأرجحة في الأحكام من الإعدام للسجن، فيما يعربد المجرمون المدانون على مرأى ومسمع من الجميع دون أي حمرة خجل استنادًا للحكمة العربية “من أمن العقوبة أساء الأدب” بات الحديث عن عدالة قضائية تنتصر للمغدور به، رهانًا طويلًا، مشكوكًا فيه وفي نتائجه على أرض الواقع، بعيدًا عن الشعارات التي يبدو أنها رفعت لتخدير الرأي العالم العالمي الذي انتفض وقت وقوع الجريمة لما تضمنته من كواليس وتفاصيل وحشية.
وإن كانت العدالة القضائية المرجوة بعيدة المنال، على الأقل في القريب العاجل، فإن مساعي القصاص لخاشقجي يجب ألا تتوقف وألا يخفت بريقها مهما كان الظلام الذي يخيم على الطريق، فللعدالة وجوه كثيرة لا تنحصر في تلك القاعة الصغيرة المسلسلة باعتبارات عدة قد تُفقدها نزاهتها، ليبقى السؤال: ما السبيل لنصرة القضية الخاشقجية بعيدًا عن أروقة المحاكم ذات الحبال الممتدة لسنوات؟
بداية.. هل تحقق المحاكمات العدالة؟
عامان ونصف تقريبًا منذ بدء فتح التحقيقات للكشف عن ملابسات تلك الجريمة الوحشية، توصلت في النهاية إلى حقيقة واحدة مفادها أن خاشقجي اُستدرج لقنصلية السعودية في إسطنبول ثم قُتل على يد فرقة اغتيال محترفة، بأوامر شبه مباشرة من ولي العهد الذي يسيطر على كل القرارات من هذا النوع داخل المملكة، هذا بخلاف أن معظم المشاركين في الجريمة من المقربين منه.
تلك النتائج أفرزت سجالًا إعلاميًا وسياسيًا بين جهات التحقيق في أنقرة والأمم المتحدة من جانب، والرياض وحلفائها من جانب آخر، وفي تلك الأثناء كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بمثابة حائط الصد أمام أي مساعٍ لإدانة حليفه السعودي بشكل مباشر، نظير مئات المليارات منحها ولي العهد له ثمنًا لهذا الدعم الذي يضمن له بقاءه في السلطة.
وفي ظل هذا السجال كشف البيت الأبيض عن تقرير استخباراتي ربما يكون القول الفصل في حسم تلك القضية، ورفعت إدارة بايدن السرية عنه قبل 6 أشهر، كان البعض يعول على هذه الخطوة في كشف المستور بما يمهد نحو فرض عقوبات رادعة على الضالعين في الجريمة، لا سيما أنها تتماشى وتعهدات بايدن قبل توليه الرئاسة بتقييم علاقات بلاده مع المملكة بسبب سجلها الحقوقي.
ورغم أن التقرير المكون من صفحتين، لم يقدم جديدًا، فقد أكد وبحسب المعلومات الاستخباراتية التي تم الحصول عليها على أن ابن سلمان يسيطر سيطرة مطلقة على المملكة، و”يتبنى الإجراءات العنيفة لإخراس المعارضين في الخارج، بمن فيهم خاشقجي”، الأمر الذي انتظر معه اتخاذ موقف حاسم.. لكن ذلك لم يحدث.
العدالة التي يمكن تحقيقها لقضية خاشقجي لا يمكنها أن تخرج بعيدًا عن تحقيق وصيته، وتنفيذها قدر الإمكان، حيث تعزيز مساحات الحريات وفتح المجال للتعبير عن الآراء دون خوف أو مساءلة أو ملاحقة
المبدأ الميكافيللي المطعم برذاذ البرغماتية التي كان يستند إليه ترامب في تعامله مع هذا الملف، هو ذات المبدأ الذي يستند إليه بايدن، وإن تباينت الأدوات والمبررات، إذ أشارت الإدارة الجديدة أن المصالح المشتركة بين البلدين تدفع نحو المزيد من التقارب لا القطيعة، وأنه لا بد أن يكون التعامل مع تلك القضية من خلال هذا المنظور، بما يتعارض شكلًا ومضمونًا مع الشعارات السابقة.
انهيار كبير شهده سير التحقيقات وما نجم عنها من أحكام، بين التجاهل والجمود الرسمي الدولي، اللهم إلا بعض الكيانات الحقوقية، في مقابل استهزاء واضح من القضاء السعودي الذي تراجع عن أحكام الإعدام بحق عدد من المتورطين إلى أحكام بالسجن ربما يتم الانقلاب عليها بعد هدوء العاصفة مستقبلًا.
الأجواء تشير إلى أن أقصى عقوبة يمكن أن يحصل عليها المتورطون في تلك الجريمة لا تتعدى السجن، أو حتى تعليق صفقات التسليح للمملكة (وإن كان هذا البند مشكوكًا في أمره نظرًا لما تمثله تلك الصفقات من أهمية في إنعاش خزائن أمريكا)، وفي أفضل الأحوال، إذا ما أدين ولي العهد، فهي الإدانة التي ربما تزيد الصورة المشوهة تشويهًا إضافيًا، لكنه ليس بالتأثير الذي قد يطيح به من فوق كرسي السلطة.
وهنا يبقى السؤال: هل تعليق صفقات السلاح أو الحكم بالحبس على بعض العناصر المشتركة في الجريمة وترك القيادات تعربد كيفما شاءت يحقق العدالة لخاشقجي ويحصل أبناؤه من خلالها على القصاص لوالدهم؟ بالطبع هذا لا يتناسب مطلقًا مع حجم ووحشية ودلالة الجريمة وملابساتها وما تبعثه من رسائل.. إذًا كيف يمكن تحقيق العدالة في هذه الحالة؟
وصية خاشقجي الأخيرة
في 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 نشرت صحيفة “واشنطن بوست” التي كانت يكتب لها خاشقجي، مقالًا هو الأخير للكاتب السعودي قبل أن يغدر به أبناء وطنه، بتحريض رسمي من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وفق ما توصلت التحقيقات التركية الأمريكية.
المقال الذي نشرته محررة صفحة الرأي في الصحيفة، كارين عطية، بعد انقطاع التواصل مع خاشقجي منذ الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2017 عقب دخوله قنصلية بلاده في إسطنبول، كان يحمل عنوان “أمس ما يحتاجه العالم العربي هو حرية التعبير” ونُشر باللغتين العربية والإنجليزية.
المقال في مضمونه يُعد توثيقًا لحلم خاشقجي في الحياة ووصيته بعد موته، التي تدور – بحسب عنوان المقال – حول “حرية التعبير والدفاع عن أصحاب الرأي”، إذ استهل الكاتب مقاله بالحديث عن مؤشر حرية الصحافة الصادر عن مؤسسة “فريدوم هاوش” لعام 2018 الذي ذكر أن كل الدول العربية بلا استثناء “غير حرة” ما عدا “تونس” الدولة الوحيدة التي خرجت من هذا التصنيف المشين.
خاشقجي اعتبر أن العرب الذين يعيشون داخل هذه البلدان المصنفة بأنها “غير حرة” إما غير مطَّلعين أو مضلَّلين، مضيفًا “يهيمن سرد تديره الدولة على النفسيّة العامة وبينما لا يصدقه الكثيرون، إلّا أن أغلبية كبيرة من السكان تقع ضحية لهذه الرواية الزائفة. للأسف، من غير المحتمل أن يتغير هذا الوضع”.
وتطرق المعارض السعودي إلى أجواء الحرية التي تنسمها العرب خلال ربيع 2011، “كان الصحفيون والأكاديميون وعامة السكان يفيضون بتوقعات لمجتمع عربي مُشرِق وحر في بلدانهم. كانوا يتوقعون التحرر من هيمنة حكوماتهم والتدخلات المستمرة والرقابة على المعلومات”، لكن “سرعان ما أُحبِطت هذه التوقعات وهذه المجتمعات إما عادت إلى أوضاعها السابقة وإما واجهت ظروفًا أكثر قسوة من ذي قبل”.
وبعد سرد مطول لواقع الحريات العربية التي تعاني من إجهاض متعمد ووأد ممنهج من الحكومات العربية وقبوع داخل الستار الحديدي الذي فرضته الأنظمة على شعوبها لضمان عدم تغريدها عن السردية الرسمية التي تخدم مصالح الحاكم وبطانته، اختتم خاشقجي مقاله بوصيته الأخيرة “نحن بحاجة إلى توفير منصة للأصوات العربية، نحن نعاني من الفقر وسوء الإدارة وسوء التعليم، إنّ إنشاء منتدى دولي مستقل ومعزول عن تأثير الحكومات القومية التي تنشر الكراهية من خلال الدعاية سيمكِّن الناس العاديين في العالم العربي من معالجة المشاكل البنيوية التي تواجهها مجتمعاتهم”.
كيف نحقق العدالة لجمال؟
الكاتب والناشط العربي، إياد البغدادي، صديق الصحفي السعودي الراحل، ومؤسس “مؤسسة الكواكبي” في أوسلو، طرح خلال مقال له في “الواشنطن بوست” تساؤلًا تحت عنوان: كيف نحقق العدالة في قضية جمال؟ وأشار إلى أن مطالبة النشطاء بمعاقبة ابن سلمان، سواء بموجب قانون ماجنتسكي، أم الإشارة للعائلة المالكة في السعودية بضرورة التخلص منه، لن ينصف خاشقجي ولا يحقق العدالة المطلوبة.
وأضاف البغدادي أن خاشقجي “قُتِل لأنه تجرأ على رفع صوته والتعبير عن نفسه بحرية”، منوهًا أن التركيز في تلك القضية على المجرمين فقط بدلًا من التركيز على جمال والقيم التي كان ينادي بها طيلة حياته، فيه قصر نظر يجب التخلي عنه رويدًا.
واستعرض الناشط العربي مناخ الحريات في المملكة خلال العقد الأخير تحديدًا، موضحًا أنه قبل صعود ابن سلمان كان الفضاء السعودي “أحد أكثر الفضاءات حيويةً وازدهارًا في العالم العربي، حيث كان المواطنون من طيات المجتمع المختلفة يناقشون الشؤون العامة على تويتر وغيرها من المنصات”، لكن مع قدوم ترامب للحكم أطاح الأمير الشاب بهذا الفضاء بوحشية مجحفة، إذ اعتقل المئات من نخبة الفكر والثقافة والدين، وملاحقة كل من تسول له نفسه أن يغرد خارج السرب، وكان خاشقجي أحد ضحايا تلك الحملة حيث اختار المنفى هربًا بحياته من البطش السلماني.
“لقد ضحى جمال بحياته من أجل حقنا كعرب في حرية التعبير، إجلالًا لذكراه، يجب أن تبقى حرية التعبير على رأس أولوياتنا”
الأشهر الثلاثة عشر التي قضاها خاشقجي في منفاه قبل الغدر به، قضاها في الدفاع عن قضيته الأولى والأخيرة “الحريات” فأسس منظمة (الديمقراطية للعالم العربي الآن، أو DAWN) وهي المنظمة المعنية بالتحول الديمقراطي في المنطقة العربية، هذا بخلاف تحالفه مع الناشط السعودي المعارض عمر عبد العزيز، لتكوين جيش إلكتروني سُمي بـ”النخل” لمواجهات التدليس والإفتراءات والكذب الذي تبثه الحسابات الحكومية السعودية وهو ما وثقه العمل الفني “المنشق” للمخرج براين فوغل.
كان خاشقجي يؤمن بدور منصات التواصل الاجتماعي في تعزيز الحريات، لذا حارب كثيرًا لاسترداد هذا الفضاء من الجيوش الإلكترونية التي دشنها ابن سلمان عن طريق رئيس ديوانه وذراعه الأيمن، سعود القحطاني، أحد الضالعين في جريمة قتل جمال، وعليه كانت دعواته في مقاله الأخير بتدشينة منصة عربية حرة تسمح للجميع بالتعبير عن رأيه بعيدًا عن الخضوع للسرديات النظامية المزيفة.
العدالة التي تُمنح لقضية خاشقجي لا يمكنها أن تخرج بعيدًا عن وصيته، وتنفيذها قدر الإمكان، حيث تعزيز مساحات الحريات وفتح المجال للتعبير عن الآراء دون خوف أو مساءلة أو ملاحقة، وعلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي برمته – إن عجز عن القصاص لدماء جمال قضائيًا – أن ينتصر له من خلال التدخل لدعم مجتمع سعودي حر في مواجهة التغول السلطوي الباطش.
وفي الإطار ذاته لا بد من تحركات حقوقية ودولية عاجلة لتأمين الإفراج عن سجناء الرأي ورفع حظر السفر عنهم وذويهم، وإعادة أملاكهم المصادرة، وعلى العواصم التي ترفع شعار الحريات العالمية أن تستخدم نفوذها الواسع على السعودية لوقف ملاحقة المعارضين ونشطاء الرأي، في الداخل والخارج.
وعليه فإن التركيز على معاقبة المجرمين لن يكون منصفًا للمعارض القتيل، فالحبس قد يقابل بعفو بعد فترة من الزمن، وتعليق الأسلحة قد يدفع الرياض للبحث عن صفقات من أماكن أخرى، وتحجيم نفوذ ولي العهد لن يمنعه من إشعال الفتن هنا وهناك وممارسة انتهاكاته المتواصلة.. ومن ثم فالعمل على تنفيذ وصية خاشقجي بتوفير مناخ ملائم للحرية وتضييق الخناق على المملكة للتخلي عن سياساتها الإقصائية واستهداف المعارضين هو التعويض الأمثل الذي يحقق أحد وجوه العدالة الغائبة في تلك القضية، وفق صديقه البغدادي الذي اختتم مقاله قائلًا: “لقد ضحى جمال بحياته من أجل حقنا كعرب في حرية التعبير، إجلالًا لذكراه، يجب أن تبقى حرية التعبير على رأس أولوياتنا”.