يهدف هذا المقال إلى أن يصبح نواة لحوار ممتد يحاول المشاركون فيه إعادة تقييم ورؤية الحياة في المدن المعاصرة، وكيف أن التعاطي مع المدينة بشكل يومي يشكل الخبرة والتوقعات بل والمستقبل الاجتماعي والسياسي لسكانها وفقًا لمجموعة من المعطيات المحددة سلفًا والخطط العمرانية والمعمارية؛ وبالتالي يصبح تدخل الأطراف المختلفة من دولة وجيش ورأس مال أمر غاية في الخطورة على الحياة الاجتماعية، ولذلك ندعو قراءنا إلى المشاركة الفعالة في هذا الحوار بالرؤى والمقالات المختلفة آملين الوصول لفهم أفضل وإدراك مسئول.
قامت قوات الشرطة المصرية بعملية إخلاء عنيفة للباعة الجائلين المنتشرين بطول أرصفة شوارع المنطقة المعروفة بـ “وسط البلد” في قلب القاهرة، وفي محاولة لتقديم بديل ما قامت محافظة القاهرة بتوفير أماكن للباعة بمحطة حافلات الترجمان شبه المهجورة، هذه الخطوة تأتي في إطار سعي حثيث للدولة لإعادة التغلغل في نسيج عمراني كان قد تمكن من لفظها وإبعادها تمامًا بحلول الثامن والعشرين من يناير للعام 2011، فعلى مدار ثلاثة أعوام تلت الثورة كانت هذه المنطقة قد اكتسبت خصوصية كبيرة فيما يخص مرتاديها ونوع الأنشطة الحادثة بها، فاكتست جدرانها بمجموعة من الشعارات المتناقضة تمامًا وأسماء لشهداء وأسرى الكثير من الأحداث واللقاءات العنيفة مع الدولة، ومع الوقت اكتسبت هذه الجدران نتيجة لتراكم التناقضات صفة من العبثية والسخرية القاسية من الممكن تعقبها أيضًا إلى عقلية مرتادي المنطقة ومقاهيها المتعددة، وكان التجلي الأمثل لهذه الصفة هو تحول ميدان التحرير الواقع موقع القلب من وسط البلد إلى ميدان احتفل فيه اليساري إلى جوار رجل الأعمال وبائع الشاي المعدم بتنصيب نظام عسكري شمولي جنبًا إلى جنب.
ربما مثّل الهجوم الأخير على الباعة الجائلين لحظة الانتصار الأخيرة للدولة على النسيج العمراني الجديد لهذه المنطقة، فهذا الهجوم كان الأخير من سلسلة من الهجمات المتفاوتة القوة والمدة على المنطقة، إلا أنها كلها انتهت في مرحلة ما نتيجة لهبوب المتعاملين مع هذا النسيج العمراني من المباني والمقاهي والمعاني الرمزية للدفاع عنه ضد العدو الأول لكل ما يمثله، فالهجمات الشديدة القوة لقوات المظلات والشرطة العسكرية في أحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود انتهت بالفشل واضطرت الدولة للاعتراف بعدم قدرتها على السيطرة على هذه المساحة بأن أقامت حولها الجدران العازلة.
يرجع تأسيس هذه المنطقة بالأساس إلى رؤية للخديوي إسماعيل أن محاولة إعادة تخطيط وتنظيم القاهرة القديمة والإسلامية هي محاولة عديمة الجدوى، وكان قد عاد للتو من باريس فطلب من المخطط العمراني (الأشهر في التاريخ على الأغلب) البارون هاوسمان مخطط باريس الحديثة أن يرسم له باريسًا أخرى على ضفاف النيل على حد قوله، كانت المبادئ التي شكلت أساس تنظيم كلتا المدينتين على حد قول البارون هي بالأساس إظهار العقل الرشيد للدولة وتسهيل حركة سلطتها وقوتها في الشوارع بأفضل شكل، فكان مجمع التحرير الحكومي العملاق وميادين التحرير وسليمان باشا حاليًا وقصر النيل هي المحاور الثلاثة، يربط هذه المحاور مجموعة من الشوارع المتسعة التي يتراص على جنباتها بنايات حُددت أبعادها من قبل أن تبنى، كانت القاهرة الإسماعيلية ظاهرة ما بعد استعمارية بامتياز؛ فقد تم تركيز جهاز الدولة المصرية كله بشكل كامل في مبنى مهيب عملاق يقع على الناحية الأخرى منه المتحف المصري العملاق المبني على الطراز النيو كلاسيكي؛ ليمثل المتحف خير مثال على الهوية المصرية بعد الاستعمار، هيكل أوروبي رديء التصميم يحتوي على الكثير من البقايا المتحجرة التي لا تمت إلى الواقع اليومي بصلة.
ترتب على ذلك أن أصبحت تلك المنطقة البعيدة عن المركز التاريخي للقاهرة وجهة مفضلة للبناء والسكن للجاليات الأجنبية المتوافدة على القاهرة ممن أتوا مع الاحتلال، ولحق بهم من الأفندية المصريين من سمحت له مؤهلاته التعليمية أو ثرواته الإقطاعية أن يتحمل الكلفة، بالتدريج تحولت المنطقة إلى مقعد كل من القوة الحكومية والرأسمالية في القاهرة، ونتيجة لتراكم الوظائف الخدماتية الجديدة بها (كعمال النظافة في فندق شيبرد الفاخر أو الحمالين في محلات الخواجة بريموس العملاقة) بدأ سكان القاهرة الأخرى في التوافد عليها كزوار لنصف يوم فقط؛ وبذلك أصبح وسط البلد الموقع الرئيسي لتفاعل السكان الأصليين مع الواقع الاستعماري الجديد لينسحقوا تحت العمائر العملاقة وفي ظلال الخبراء الأجانب الأغبياء.
ولكن ككل شيء بدأت سلطة المنطقة في التحلل التدريجي لتصبح شاهد على وقت مضى، أو مثارًا لمشاعر النوستالجيا والحنين لدى الباكين على أطلال مجد مشكوك في أصله، فنتيجة لتغول الدولة المصرية مع مرور الزمن وبعد نظام 23 يوليو تحديدًا؛ تمكنت الدولة من بسط سيطرتها على القاهرة ككل ولم تعد مرتبطة بالضرورة بمساحة معينة، ومع الوقت وتفريغ الحي من سكانه الأصليين من الأجانب والطبقة الوسطى العليا التي بدأت في فقد سطوتها لصالح التكنوقراط من خريجي الجامعات وقوات الأمن؛ بدأت المباني بالتدريج في التحول إلى خرائب مع توجه النمو العمراني إلى مناطق جديدة كالمهندسين والمعادي، ونظرًا لأن تلك المباني القديمة كانت تمثل مرحلة سابقة قطعتها “ثورة تحالف قوى الشعب العامل”؛ فضل ضباط الجيش وتكنوقراط الحكومة فيلات المعادي عليها، وبحلول نهاية السبعينات ومغادرة نسل آخر السكان الأصليين لعمائر وسط البلد إلى بلاد النفط أصبحت العمائر المملوك أغلبها للدولة من نصيب أسر الخدم الذين عملوا عند سكانها الأصليين وعيادات للأطباء بإيجارات زهيدة للغاية.
إلا أن بقاء هذه الكمية الضخمة من التراث المعماري الجيد لم تكن لتترك لفترة طويلة بدون أعين ترى لها نفعًا أكبر ومصدرًا للكثير من الأموال، في المقال القادم نكمل الحديث عن علاقة الدولة بهؤلاء المنتفعين وموقع ثورة يناير من الأحداث.
يمكنكم التواصل مع الكاتب عبر إرسال تعليقاتكم أو مقالاتكم بخصوص هذا الموضوع على البريد الإلكتروني [email protected]