مضت ثلاث سنوات على اغتيال الصحفي السعودي البارز والمعارض السياسي جمال خاشقجي، في جريمة مروعة داخل حرم القنصيلة السعودية بإسطنبول.
أحدثت تلك الجريمة المفزعة زلزالًا مدويًا، وحظيت باهتمام عالمي – إعلامي وسياسي ودبلوماسي – قلّ أن تحظى به أي جريمة اغتيال سياسي، وعاشت السلطات السعودية حالة من الهلع لم تعشه في تاريخها ربما إلا يوم 11 سبتمبر/أيلول، وما زالت سمعة أميرها المتعطش للمُلْك محمد بن سلمان، ملطخة بالدم والعار والعزلة.
رفع الله ذكر القتيل غدرًا وظلمًا، بعد أن سخر لقضيته عوامل كثيرة وأصدقاء ومحبين، فانتشرت وذاعت في كل الأصقاع وباتت أبرز وسائل الإعلام العالمية تتنافس على الفوز بتفصيل حصري أو معلومة خاصة تتعلق بالجريمة، لكن وحدها خطيبته الباحثة خديجة جنكيز، أبقت الوعي حيًا بقضيته طوال الوقت بلا كلل أو ملل، وحملت إرثه ورسالته إلى كل المنابر والشاشات والصفحات والمنظمات، تبحث بدأب عن العدالة له وللمظلومين في منطقتنا المبتلاة بالاستبداد والطغيان والأنظمة المتوحشة.
في الذكرى الثالثة لاغتيال جمال خاشقجي، يجري “نون بوست” هذا الحوار مع خديجة جنكيز، نسألها عن مشاعرها ومعنوياتها، وعن كفاحها ضد التستر والنسيان واللامبالاة.
ندخل اليوم عامنا الرابع لذكرى اغتيال الراحل جمال، وفي حين أن حياتك كانت تمضي في مسار أكثر بهجةً واستقرارًا، انقلب كل شيء رأسًا على عقب فجأة.. كيف قلبت جريمة اغتيال خاشقجي حياتك على الصعيد الشخصي والإنساني وحتى المهني؟
هذا سؤال لا يمكنني الإجابة عنه باختصار، عاطفيًا لم تنته المعاناة بالنسبة لي، فقد كان الأمر صعبًا للغاية وما زال، فأعاني من تقلب المزاج من وقت لآخر، وأدخل أحيانًا في حالات من عدم تصديق للأحداث.
لم ينته الأمر بالنسبة لي عاطفيًا، وأنا أتعلم أشياء كثيرة كل يوم، في الواقع، ما حدث ليس من السهل تقبله إنسانيًا، أما العملية القانونية فتسير بشكل احترافي.
أحدث اغتيال خاشقجي هزة عالمية وتأثيًرا مدويًا لم يحدثه اغتيال رجل من قبل، ربما حتى اغتيال رئيس دولة يشغل منصبه، وأصبح أيقونةً عالميةً للحرية، فيما لم يتعاف قاتلوه من وصمة العار التي تلازمهم، على رأسهم ابن سلمان، فما شعورك تجاه ذلك؟ هل يشعرك ذلك بنوع من المواساة؟
أوافقك الرأي، لا أتذكر أي خبر مماثل كان له مثل ذلك الصدى في وسائل الإعلام حتى الآن، ساعد ذلك على تذكر القضية بشكل دائم وأصبح اسم جمال رمزًا محفورًا في الأذهان، أعتقد أن الأمر يتعلق بروح جمال الطاهرة ونواياه الصادقة، فقد كان جمال شخصًا يحاول حل مشاكله بنفسه دائمًا، ونادرًا ما رأيته يطلب أو يتوقع أي شيء من الآخرين، كان خفيف الروح، ولم يكن يُثقل كاهل أحد حتى عندما يكون مهمومًا، كان يتواصل مع الآخرين حتى لا يشعر بالوحدة، وليس لأنه يتوقع منهم أن يقدموا له شيئًا.
لقد احتفى الناس بجمال بعد موته، وهذا ما يريحني معنويًا، أصبح شقيقًا وصديقًا للجميع بعد وفاته، وحقيقة وجوده معنويًا بشكل أكثر فاعلية من وجوده الحقيقي، يرفع معنوياتي كثيرًا.
لأسباب مفهومة ربما، قد لا تستطيع عائلته السعودية القتال لأجل العدالة والكرامة لفقيدها، ونحن نرى أنك تحملين إرثه وقصته في كل مكان ومنبر، لكن إلى أي مدى ستصمد خديجة في رحلة بحثها عن تلك العدالة وسط هذه اللامبالاة الدولية والنفوذ السعودي الهائل؟
منذ اليوم الأول، لم يكن كفاحي بهدف الحفاظ على إرث جمال، بل للدفاع عن حقوق شخص تعرض للظلم، في الواقع، كان الدفاع عن حقوقي أيضًا جزءًا من هذا الكفاح، وفي نهاية الأمر، حُكم عليّ بنهاية لم أكن أستحقها، تمامًا مثلما حُكم على جمال، لذلك، من الصعب التنبؤ بأي شيء في المستقبل.
لو كان أي شخص قد أخبرني بأن هذه الأمور ستحصل لي قبل ثلاث سنوات ما كنت لأصدقه، ولما استطعت التنبؤ بخطواتي التالية، العدل من أكثر الأشياء التي نحتاجها في هذا العالم، وهو مطلب للجميع، وليس فقط من أجلي أنا وجمال، وأعتقد أن كل إنسان في العالم يجب أن يدافع عن هذا الحق دون تقديم تنازلات، ومن هذا المنطق فإن جمال رمز للإنسانية والحرية والأمل بالنسبة لنا جميعًا.
حققتِ بالفعل بعض الانتصارات بشأن عزل السلطات السعودية، ودعوتك لرئيس الولايات المتحدة جو بايدن، بخلع السرية عن تحقيقات الـFBI نجحت، كذلك الانسحاب الجماعي لقادة الأعمال من “دافوس الصحراء” وإلغاء عشرات المستثمرين مشروعاتهم في المملكة بعد الجريمة منها شركة “فيرجن” البريطانية، هل تعتقدين أن هذه الانتصارات الصغيرة يمكن أن تثمر في النهاية؟
أرى هذه الأمور علامة على احترام الحقيقة، فقد جاءت ردة فعل أصحاب الضمائر الحية على طريقتهم الخاصة، لكن تلك الخطوات لم تكن كافية، ولا تزال العملية مستمرة ولم ينته كل شيء بعد، ومن يدري ربما تكون الأمور قد بدأت للتو.
تحقيقات كالامار للأمم المتحدة وكذلك تقرير وكالة المخابرات المركزية أشارت صراحة إلى أن الأوامر صدرت من “مناصب رفيعة” في المملكة وإلى موافقة ابن سلمان على الجريمة، لكن العالم لم يتخذ أي خطوة جادة تجاه العدالة أو معاقبة الجناة، هل هناك ما يجعلك تتفائلين بحدوث تغير في السبات الدولي حيال هذا؟
بعض الأشياء يصعب التنبؤ بها، فعلى الرغم من أن جميع الأدلة موجودة أمامنا وتُظهر لنا الحقيقة بوضوح، فإن تحقيق العدالة قد يستغرق وقتًا في بعض الأحيان، هذه القضية تقودنا إلى فهم النقطة التي وصل إليها النظام الرأسمالي العالمي الذي نعيشه. العقل الإنساني مبرمج على أن كل من يرتكب جريمة يجب أن يُعاقب عليها، لكن النظام العالمي الذي يقوم على الأموال والفوائد، يؤجل النظر في بعض القضايا من منظور المصالح.
العدالة يجب تُطبق على الجميع من منظور أي شخص لديه قيم إنسانية، والحالة التي نتحدث عنها، وهي اغتيال جمال خاشقجي، جريمة ضد الإنسانية، لا يمكن نسيان هذه الجريمة، وأعتقد أن العدالة ستتحقق عاجلًا أم آجلًا.
أين وصلت القضية في المحاكم التركية؟ ألم تطل أكثر من اللازم؟ هل يفهم من ذهابك إلى القضاء الأمريكي أنك غير واثقة من جدوى المحاكمة في تركيا؟ هل لديك شكوك أن ضغوطًا سياسيةً قد تغير مسار العدالة؟
الدعوى المرفوعة في تركيا هي دعوى قضائية رفعتها تركيا كدولة، تحديدًا قضية رفعها مكتب المدعي العام في إسطنبول، وهو ما ينص عليه القانون لأن عملية الاغتيال وقعت في تركيا. أنا أيضًا طرف في القضية لأنني تضررت من عملية القتل، وهذه القضية هي الأولى من نوعها في بلدها، فهي جريمة تستحق المتابعة بدقة وكشف تفاصيلها.
عند النظر إلى الموضوع مثل أي شخص عادي، يبدو مسار القضية طويلًا، لكن مثل كل جريمة قتل، تحتوي هذه القضية على جوانب عديدة، وما يهم أكثر من الوقت الذي تستغرقه القضية أن تكون النتيجة مرضية للجميع، ويتم في النهاية كشف الحقيقة.
ما زلت أنتظر وأتابع القضية على أمل أن تتحقق العدالة في نهاية المطاف.
رفعتِ دعوى في الولايات المتحدة ضد ولي العهد السعودي، فما تفاصيل تلك الدعوى، وأين وصلتِ بها؟ هل تثقين بالمحاكم الأمريكية؟ هل تؤخذ الدعوى هناك على محمل الجد؟
لقد رفعت دعوى مدنية في الولايات المتحدة، وهذه القضية التي تنظر فيها محكمة اتحادية تسير ببطء أكبر، فوفقًا للنظام القضائي والقانوني الأمريكي، يجب أولًا إحالة الشكوى وأسباب الدعوى إلى الطرف المدعى عليه، وبعد هذه العملية، يأتي الحكم.
استغرق الأمر بعض الوقت لوصول الشكوى، فقد كان المتهم على الجانب الآخر ولي العهد وعدد من المسؤولين رفيعي المستوى، بمعنى آخر، استغرقت عملية إبلاغ الطرف الآخر وقتًا طويلًا.
بعد هذا الإجراء، قدم الطرف الخصم التماسًا إلى المحكمة الفيدرالية يطالب بإسقاط القضية. حدث هذا الأمر قبل مدة قصيرة، وسيجيب محامونا عن هذا الطلب، وسيُصدرون بيانًا يشرحون فيه سبب عدم إسقاط القضية، ولماذا يجب أن تستمر هذه القضية هناك بموجب قانون الولايات المتحدة. كان جمال مقيمًا بشكل دائم في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان يعمل هناك صحفيًا وكاتبًا في مؤسسة ذات سمعة طيبة.
كل هذه الإجراءات شاقة وتستغرق وقتًا طويلًا، ويعتمد نقل القضية إلى مرحلة استجواب المتهمين على تقييم قاضي المحكمة الفيدرالية الأمريكية للقضية ثم اتخاذ القرار، ووفقًا لهذه المعطيات، تمثل القضية بلا شك تحديًا كبيرًا للنظام القضائي الأمريكي، وسنرى القرار الذي سيتم اتخاذه.
أعتقد أنه يجب أن نجرّب كل الطرق لضمان تحقيق العدالة، وهذه إحداها. أنا متفائلة بشأن مسار القضية، وأعتقد أن على الجميع إدراك أن الأمور ستتغير في الشرق الأوسط.
نعرف الكثير من المعلومات عن ذلك اليوم الفظيع، لكن لم نعرف بعد إلى أين وصلت التحقيقات بشأن جثته، هل لديك تفاصيل بهذا الخصوص؟
أحد أهم أسباب جهودي المتواصلة لتحقيق العدالة أننا ما زلنا لا نعرف ما حدث لجثة جمال، فليس لدي أي معلومات عن هذا الأمر، ولا أريد أن أقدم أي تخمينات، لأن التفكير بالأمر وحده مفجع بالنسبة لي.
ظهرت عدة مبادرات ذات طابع ثقافي لتخليد ذكرى خاشقجي، ما مصير تلك المبادرات اليوم؟ من طرفك وأصدقاء الراحل، هل هناك أي خطط لمبادرات من شأنها تخليد ذكرى جمال ومواجهة نسيانه؟
ما زالت مؤسسة “داون” التي أسسها جمال قبل وفاته تعمل بنشاط، فخلال العام الماضي، أعدت تقارير أحدثت ضجة كبيرة إعلاميًا، فمن المهم أن يستمر إرث جمال، والمؤسسة تقوم بعمل مهم للغاية في هذا المجال. يمكن متابعة التقارير على موقع المؤسسة، وأعتقد أنه سيكون لديهم المزيد في الفترة القادمة.
لدى جمال أصدقاء ومحبون في جميع أنحاء العالم، وكل شخص يحاول أن يفعل الكثير بطريقته الخاصة، وفق ما تسمح به الظروف، رغم مرور ثلاث سنوات على مقتله، فإن اسمه لا يزال حيًا في قلوبنا، وكأنه ما زال بيننا، وكل هذا يدل على أنه كان إنسانًا صادقًا.
هل تخططون لإقامة فعاليات هذه الأيام في الذكرى الثالثة لاغتيال خاشقجي؟
أنا حاليًّا في العاصمة لحضور بعض التظاهرات، ومن المنتظر تنظيم العديد من الأحداث التي تُشرف عليها منظمات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، هناك أيضًا مُلتقى سيعقده أصدقاء جمال في لندن، وأنا أفكر في الانضمام إليه عبر الإنترنت. بالنهاية، يحاول كل الذين يؤمنون بالقيم التي مات من أجلها جمال، بذل قصارى الجهد للحفاظ على اسمه وذكراه.