يتجاذب سوق العملات الرقمية بتركيا اتجاهان متنافسان؛ الأول ليبرالي يدفع ديناميكية نمو منصات التداول المحلية والدولية وتعزيز تطوير تكنولوجيا البلوكتشين، خاصة لاستصدار عملة رقمية مرتبطة بقيمة الليرة، والثاني لا يضيّع أي فرصة لتضخيم مخاطر الأصول المشفرة على ادِّخار المواطنين ومنع كل إمكانات الدفع عبرها.
لمن ستكون الغلبة؟ تطوُّر السوق وقرارات البنك المركزي هي الكفيلة بحسم هذا الصراع المرتبط بهذا السوق الناشئ والكثير المخاطر.
أصبحت تركيا من الدول الرائدة عالميًّا على مستوى منصات تداول العملات الرقمية، كالبيتكوين والإيثريوم، وديناميكية السوق التركي ناتجة عن نضج و تمركز العديد من المنصات المحلية والدولية، التي توفر باللغتَين التركية والإنجليزية إمكانية تداول المئات من العملات الرقمية المختلفة بشكل قانوني.
والدليل على ذلك هو العديد من البنوك التركية التي تسمح بتحويل الأموال من الحساب الشخصي لعملائها، إلى مختلف منصات التداول التي تتوفّر على رُخَص من الهيئات المنظِّمة للأنشطة المالية بالبلاد.
العديد من الشركات المحلية استثمرت بقوة في هذا المجال، وأصبحت تتوفر على حصة الأسد من تداولات الأتراك اليومية في مجال العملات الرقمية، كشركة Btc Turk وParibu.
إمكانية التواصل المالي بين البنوك ومختلف المنصات، تفسِّر التطور المطّرد في تزايُد عدد مستعملي هذا السوق الناشئ، وارتفاع مستوى الأصول المالية التي يتم تداولها عبر المنصات، التي أصبحت تتجاوز مليارات الدولارات.
هذه المقاربة الليبرالية للنظام البنكي التركي تفسِّر اختيار العديد من المنصات دولية، كشركات bitpanda.com وbinance.com وhuobi.com، فتح فروع لها في إسطنبول وفقًا للضوابط المالية والقانونية للبنك المركزي التركي.
وبالتوازي مع ديناميكية الاستثمارات الخارجية، هناك العديد من الشركات المحلية التي استثمرت بقوة في هذا المجال وأصبحت تتوفر على حصة الأسد من تداولات الأتراك اليومية في مجال العملات الرقمية، كشركة Btc Turk وParibu، على سبيل الذكر لا الحصر.
تركيا تحضِّر عملتها الرقمية “كوين تورك”
دمقرطة الاستثمار في العملات الرقمية بالسوق المحلي، حققت طفرة قوية كذلك هذه السنة حين أقدمت كبريات الأندية الرياضية التركية، كأندية غلطة سراي وفنربخشة وطرابزون سبور، من إطلاق عمليات اكتتابات لشراء رموزهم الرقمية (Token)، حيث شكّلت عمليات البيع المتعلقة بهذه الرموز الرياضية فرصة لضخّ نَفَس ثقة جديد بسوق العملات الرقمية عند شريحة مستثمرين صغار جدد.
تزايُد استثمارات منصات التداول يرافقه مؤشر آخر لنضج السوق التركي في مجال البلوكتشين والعملات الرقمية، ألا وهو مشروع إصدار عملة رقمية وطنية تحمل اسم “كوين تورك”، تستند إلى الليرة التركية وتمتلك مقابلًا ماديًّا ملموسًا.
فالبنك المركزي يعمل بشكل جدّي لإخراج هذا المشروع إلى حيّز الوجود في أقرب وقت ممكن، لتمكين تركيا من الاستفادة من الإمكانات التقنية والمالية التي يمكن أن تساهم في استراتيجية تيسير الصادرات، ورقمنة التعاملات التجارية بين المواطنين والشركات بشكلٍ آمن وسلس.
رغم هذه المؤشرات الإيجابية لمستقبل سوق العملات الرقمية بتركيا، يبقى الموقف الرسمي والحكومي متذبذب بين التشجيع والتحريم، فالعديد من المسؤولين الحكوميين الأتراك، كلما سنحت الفرصة، يحذِّرون من مخاطر سوق بورصات العملات الرقمية، بسبب غياب مؤسسات تنظيمية مماثلة لمجلس أسواق رأس المال ووكالات التنظيم والرقابة المصرفية، كما هو الحال في البورصات التقليدية، وغياب هذه السلطة المركزية لن يسمح للأشخاص ضحايا معاملات ومضاربات خاطئة، أو عند وقوعهم فريسة لمعاملات احتيالية، من حماية استثماراتهم في العملات الرقمية.
الجناح المحافظ فيما يخصّ تشجيع سوق العملات الرقمية، يركّز على فضيحة هروب مدير منصة العملات الرقمية التركية Thodex، فاروق فاتح أوزور، خارج البلاد في أبريل/ نيسان 2021 بعد إغلاقها، بحيث بلغت خسارات المستثمرين أكثر من مليارَي دولار.
فضيحة منصة Thodex تزعزع الثقة بمنصات التداول الرقمية
شكّلت هذه القضية صدمة لسوق العملات الرقمية، ودفعت الفاعلين الكبار إلى التأكيد على توفير كل الضمانات القانونية والمالية من أجل تداول آمن طبقًا لضوابط البنك المركزي التركي، خاصة أن السلطات التركية تتوفر على معلومات حول هوية كل المستخدمين لهذه منصات الرقمية.
بغضّ النظر عن فضيحة Thodex، الجناح المشكِّك في سوق العملات الرقمية يصعّد من موقفه الرافض، باعتبارها من الاختيارات التي أصبح يلجأ إليها المواطنون لحماية مدّخراتهم من ارتفاع التضخُّم وهبوط العملة التركية. وهذا التحول للادِّخار والاستثمار بالعملات الرقمية يشكِّل ضغطًا على مستوى الثقة في العملة المحلية، واتجاهًا معاكسًا لمجهودات الدولة المستميتة من أجل الحفاظ على استقرار الليرة أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية.
الجناح المعارض للعملات الرقمية نجحَ خلال عام 2021 من استصدار قرار من البنك المركزي التركي، يُمنع بموجبه استخدام العملات الرقمية وأبرزها البيتكوين وبقية الأصول الرقمية القائمة على تكنولوجيا الدفاتر الموزَّعة، بشكل مباشر أو غير مباشر، كأداة للدفع. هذا القرار جعل كل مقدّمي خدمات الدفع غير قادرين من تطوير نماذج أعمال بطريقة تُستخدَم فيها الأصول الرقمية في توفير خدمات الدفع وإصدار الأموال الإلكترونية.
يراهن سوق العملات الرقمية وتكنولوجيا البلوكتشين على طموح تركيا في تسريع تطوير الاقتصاد الرقمي، بالاعتماد على عملة رقمية تعتمد على الليرة التركية وقابلة للبيع في أسواق المال العادية والمشاركة مع البنوك.
على كل حال مخاض تطور سوق العملات الرقمية بتركيا يبقى رهين التجاذب بين جناح القبول وجناح الرافض، رغم أن موشر تزايد نضج منصات التداول المُعترَف بها ومشروع العملة الرقمية “كوين تورك” المستندة إلى الليرة التركية، يشكّلان حاجزًا قويًّا لأي محاولة على المدى المتوسط لمنع وتجريم التعامل بالعملات الرقمية.
يراهن سوق العملات الرقمية وتكنولوجيا البلوكتشين على طموح تركيا في تسريع تطويرالاقتصاد الرقمي، بالاعتماد على عملة رقمية تعتمد على الليرة التركية وقابلة للبيع في أسواق المال العادية والمشاركة مع البنوك، وذلك بتنسيق مع الهيئات المالية وتحت إشراف البنك المركزي.
رغم ذلك، مستقبل هذا التجاذب بين التقنين والتحريم يبقى مفتوحًا على كل الخيارات، والدليل على ذلك ما وقع مؤخّرًا في الصين، التي كانت تُعتبَر مركزًا لسوق العملات الرقمية، حيث قررت شنَّ حملة قمعية على تعدين العملات الرقمية، إضافة إلى منع شركات التشفير من تقديم خدمات تداول الأصول الرقمية والمقاصة، وإصدار الأصول الرقمية والمشتقات المالية.
حدث مفاجئ حيّر العديد من المحللين، ويؤكد أنه رغم الاتجاه العام المتفائل لتزايُد تجارة بيع وشراء العملات الرقمية عبر العالم، يبقى موقف الغالبية الساحقة من الحكومات والبنوك المركزية ملتزم بالحظر، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكل خدمات التداول والحفظ والإصدار للعملات الرقمية.