أثارت البيئة السياسية العراقية العديد من التساؤلات عن طبيعة التوجهات التي تتحكم في السلوك التصويتي للناخب العراقي في أثناء فترة التصويت، فطبيعة الصبغة الطائفية التي امتازت بها العملية السياسية وما رافقها من محاصصة طائفية في مرحلة ما بعد الانتخابات، أثرت بصورة مباشرة في توجه الناخب العراقي، وتحديدًا الجمهور الانتخابي، الذي ينظر للمرشح على أنه وسيلة مهمة للحصول على فرصة عمل أو وظيفة في مؤسسة عامة.
وبالتالي فإن الحديث عن البرامج الانتخابية الطموح آخر ما يفكر فيه الناخب على ما يبدو، ويبدو أيضًا أن الطبقة السياسية الحاليّة نجحت في توجيه الناخب العراقي بالاتجاه الذي يخدم حظوظها الانتخابية، دون إثارة قضايا وطنية مهمة، عادةً ما تكون حاضرة بقوة في أثناء الانتخابات في البلدان أو الديمقراطيات الأخرى.
ساهمت عملية الهندسة الطائفية التي طالت العملية السياسية في مرحلة ما بعد 2006، في صياغة توجهات الناخب العراقي بطريقة وأخرى، إذ أصبحت الأولويات الطائفية مقدمة على الأولويات الوطنية، وهذا ما ساهم بطريقة وأخرى في استمرار دوامة الفشل السياسي والأزمة الأمنية والتدهور الاقتصادي والتفكك الاجتماعي
وفي هذا الإطار يمكن القول إنه بالرجوع إلى الدورات الانتخابية الأربعة السابقة، لم تختلف سلوكيات الناخب العراقي كثيرًا بين انتخابات وأخرى، وحتى عندما أراد الناخب العراقي تغيير المعادلة الطائفية في انتخابات 2010، فإن الاصطفاف الطائفي ومصادرة فوز القائمة العراقية والانشقاقات التي طالت القائمة ذاتها، أنهت فرصة الناخب العراقي وأعادت البوصلة الوطنية الهشة مرة أخرى باتجاه الحديث عن حقوق المكون الأكبر في العراق.
وبالتالي فإنه من الصعب جدًا الحديث في الانتخابات المقبلة عن تغيير يمكن أن يحدث في سلوكيات الناخب العراقي، فالظروف تبدو أكثر تعقيدًا هذه المرة، خصوصًا في ظل نظام الدوائر الانتخابية المتعددة من جهة، وهيمنة السلاح والمال السياسي والعشيرة من جهة أخرى، وهو ما يؤشر إلى تحدٍ يواجه الاستحقاق الوطني الذي خرجت من أجله تظاهرات تشرين، في ظل حديث أغلب القوى والتحالفات المشاركة في هذه الانتخابات، على أنها استحقاق تشريني مهم!
ويمكن الحديث في هذا الإطار، بأن هناك توجهات مهمة ستكون حاضرة في السلوك التصويتي للناخب العراقي، وبصورة أكثر دقة الجمهور الانتخابي المشارك في الانتخابات المقبلة، وذلك على النحو الآتي:
– الناخب “العربي الشيعي” سيحكمه الولاء المذهبي بالدرجة الأساس، وعلى أساس قاعدة شيعي – سني في عملية التصويت، ولهذا فإن أغلب الأصوات ستكون لصالح مرشحي وتحالفات شيعية.
– الناخب “العربي الشيعي العقائدي” سيحكمه الولاء العقائدي “الفصائلي” بالدرجة الأساس، على أساس شيعي ولائي – شيعي غير ولائي، ولهذا فإن أغلب الأصوات ستكون لصالح مرشحي وتحالفات شيعية فصائلية.
– الناخب “العربي السني” سيحكمه الولاء القومي والمذهبي بالدرجة الأساس، وعلى قاعدة عربي – كردي، وسني – شيعي، ولهذا فإن أغلب الأصوات ستكون لصالح مرشحي وتحالفات إسلامية أو قومية عربية.
– الناخب “الكردي – السني” سيحكمه الولاء القومي بالدرجة الأساس، وعلى قاعدة كردي – عربي، ولهذا فإن أغلب الأصوات ستكون لصالح مرشحي وتحالفات قومية كردية أو علمانية.
– الناخب “الكردي والتركماني والشبكي والفيلي الشيعي” سيحكمه الولاء المذهبي بالدرجة الأساس، وعلى قاعدة سني – شيعي، ولهذا فإن أغلب الأصوات ستكون لصالح مرشحي وتحالفات شيعية.
– الناخب “التركماني السني” سيحكمه الولاء القومي بالدرجة الأساس، وعلى قاعدة تركماني – كردي – عربي، ولهذا فإن أغلب الأصوات ستكون لصالح مرشحي وتحالفات تركمانية قومية.
– الناخب المسيحي “الكلداني والإشوري” سيحكمه الولاء المذهبي بالدرجة الأساس، وعلى قاعدة كلداني – أشوري، ولهذا فإن أغلب الأصوات ستكون موزعة بين الجانبين، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن بعضها يستأثر بالسلاح والنفوذ على حساب الآخر.
– الناخب الصابئي والإيزيدي سيكون محكومًا بالولاء الديني بالدرجة الأساس.
وهنا يمكن الإشارة، إلى أن تفكيك توجهات الناخب العراقي مسألة صعبة جدًا من أجل الوصول إلى صورة واضحة للمشهد الانتخابي المقبل، هذه الصعوبة نابعة بالأساس من تموجات الجمهور الانتخابي بين مرشح وآخر، أو تحالف وآخر، وذلك بسبب غياب البرامج الانتخابية الطموح، إلى جانب غياب قواعد واضحة للعمل السياسي الصحي في العراق، ما دفع بالكثير من الناخبين، وتحديدًا في إطار الاستعداد للانتخابات المقبلة، إلى حضور أكثر من مهرجان انتخابي لأكثر من مرشح، بل إن البعض منهم قدم وعودًا بانتخاب أكثر من مرشح في نفس الدائرة الانتخابية، وهو ما يؤشر إلى عدم توصل الناخبين لقناعة واضحة بشأن مرشح بعينه، مع ضرورة التأكيد هنا، بأن التوجهات التي سبق ذكرها أعلاه، قد تحسم كثيرًا من هذه الحيرة الانتخابية، بل قد تكون عنصرًا حاسمًا عند وقوف الناخب أمام صندوق الانتخاب.
تبدو الانتخابات المقبلة خاضعة لذات القواعد العامة التي سادت في الانتخابات السابقة، ولا يبدو الناخب العراقي “الوطني” قادر على تغيير المعادلة السياسية الحاليّة، وذلك لضعف الإمكانات وتواضع الخطاب
إجمالًا، ساهمت عملية الهندسة الطائفية التي طالت العملية السياسية في مرحلة ما بعد 2006، في صياغة توجهات الناخب العراقي بطريقة وأخرى، بحيث أصبحت الأولويات الطائفية مقدمة على الأولويات الوطنية، وهذا ما ساهم بطريقة وأخرى في استمرار دوامة الفشل السياسي والأزمة الأمنية والتدهور الاقتصادي والتفكك الاجتماعي.
وعلى هذا الأساس تبدو الانتخابات المقبلة خاضعة لذات القواعد العامة التي سادت في الانتخابات السابقة، ولا يبدو الناخب العراقي “الوطني” قادرًا على تغيير المعادلة السياسية الحاليّة، وذلك لضعف الإمكانات وتواضع الخطاب، وهي عناصر حاسمة في رسم المشهد الانتخابي المقبل، وهو ما تظهره المهرجانات الانتخابية التي تقيمها التحالفات الكبرى، ومفردات الخطاب السياسي الذي تتبناه، التي جعلت الناخب العراقي يحسم خياراته “مجبرًا” في سياق القواعد التي رسمتها هذه التحالفات، وعدم السماح لأي خطاب تغييري قادم من خارج هذه القواعد بالتأثير أو الحركة.