تعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية الجديدة توترًا جديدًا سببه هذه المرة ملف الهجرة، وذلك بعد أن استدعت الخارجية الجزائرية سفير باريس لديها للاحتجاج على قرار حكومته المتعلق بتقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين، والمحكوم باتفاقية 1968 للهجرة التي كانت باريس تريد على الدوام تغييرها لكن الجزائر رفضت في كل مرة التنازل عن أي بند من بنودها.
وقبل أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية في فرنسا، تحاول إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون تحريك أحجار الملفات المتعلقة بالجزائر والهجرة كلها بدءًا بملف الذاكرة والمسلمين ونشاط الجمعيات الدينية وصولًا إلى ملف المهاجرين الذين لا يحوزون وثائق إقامة، وذلك في محاولة منها لسحب هذا الملف من منافسته المباشرة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان.
مفاجئ
صبيحة الثلاثاء، وقبل ساعات من كشف زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبان خطتها بخصوص الهجرة، استعدادًا للانتخابات الرئاسية الفرنسية المقررة في 10 من أبريل/نيسان المقبل، استبقت إدارة إيمانويل ماكرون ذلك عبر المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابريال أتال الذي كشف عن اتخاذ قرارات مفاجئة بشأن المهاجرين الجزائريين والمغربيين والتونسيين تتعلق بتشديد شروط منح تأشيرات الدخول إلى بلاده.
وقال أتال لإذاعة “أوروبا1” إن فرنسا اتخذت قرار تشديد منح التأشيرات لمواطني الجزائر وتونس والمغرب، بسبب رفض هذه الدول إصدار تصاريح قنصلية لاستعادة مواطنيها الموجودين في فرنسا بشكل غير قانوني، وبموجب هذا القرار، خفضت فرنسا عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني الجزائر والمغرب إلى النصف، و30% للتونسيين.
ورغم أن القرار تم إعلانه في سبتمبر/أيلول، فإن تطبيقه كان قد انطلق منذ مدة، بالنظر إلى أن منح التأشيرات للجزائريين كان شبه متوقف من القنصلية الفرنسية بالجزائر، بسبب جائحة كورونا، وغلق الجزائر حدودها الجوية لعدة أشهر، وهو عامل يجعل قرار إدارة ماكرون غير مبرر، ولا يخرج عن الخانة السياسية الانتخابية.
وترى الجزائر أن ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إليها يتطلب إجراءات احتياطية ضرورية تتعلق بضرورة إثبات هوية المعني، بالنظر لاحتمال وجود أشخاص ضمن المرحلين يشكلون خطرًا على أمن البلاد على غرار الإرهابيين والمجرمين الذين يملكون احترافية في إخفاء الهويات وتزويرها، بالنظر إلى أن أغلب من يمسهم قرار الترحيل من المهاجرين دون وثائق
وبالنسبة للمتحدث باسم الحكومة الفرنسية، فإن هذا “القرار جذري وغير مسبوق، لكنه كان ضروريًا لأن هذه الدول لا تقبل باستعادة رعايا لا نريدهم ولا يمكننا إبقاءهم في فرنسا”.
وأشار أتال إلى أنه بين يناير/كانون الثاني ويوليو/تموز 2021، أمرت العدالة الفرنسية بترحيل 7731 جزائريًا، لكن 22 فقط منهم غادروا فرنسا أي ما نسبته 0.2%، وهذا ما يفسر أن هذه البلدان ترفض استرجاع مواطنيها، وفرنسا من جهتها لا تستطيع إبقاءهم على ترابها”.
غير أن السلطات الجزائرية شككت في كثير من المرات في الأرقام المقدمة من طرف باريس، بالنظر إلى أن الكثير من المهاجرين لا يملكون وثائق هوية، ويدعي بعضهم أنه جزائري للاستفادة من اتفاقية الهجرة الموقعة بين البلدين.
وترى الجزائر أن ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إليها يتطلب إجراءات احتياطية ضرورية تتعلق بضرورة إثبات هوية المعني، بالنظر لاحتمال وجود أشخاص ضمن المرحلين يشكلون خطرًا على أمن البلاد على غرار الإرهابيين والمجرمين الذين يملكون احترافية في إخفاء الهويات وتزويرها، بالنظر إلى أن أغلب من يمسهم قرار الترحيل من المهاجرين دون وثائق.
استدعاء
على عكس المغرب وتونس، لم ترض الجزائر بالإجراءات المفاجئة التي اتخذتها باريس ضد مواطنيها، فقد أعلنت وزارة الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج الأربعاء استدعاء سفير فرنسا بالجزائر بشأن قرار تشديد إجراءات منح التأشيرات.
والجزائر هي البلد المغاربي الوحيد الذي يفرض على الفرنسيين تأشيرات لدخول ترابها، تطبيقًا لمبدأ المعاملة بالمثل الذي تعتمده في علاقاتها الدبلوماسية.
وأفاد بيان للخارجية الجزائرية أن “الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية استدعى الأربعاء سفير فرنسا بالجزائر لإبلاغه احتجاجًا رسميًا من الحكومة الجزائرية على خلفية قرار أحادي الجانب من الحكومة الفرنسية يمس بنوعية وسلاسة تنقل الرعايا الجزائريين باتجاه فرنسا”.
وأكد البيان أن “هذا القرار الذي جاء دون تشاور مسبق مع الجانب الجزائري تضمن سلوكًا غير مقبول من خلال الضجة الإعلامية التي صاحبته وأثارت خلطًا وغموضًا بخصوص دوافعه ومجال تطبيقه”.
وبالنسبة للمتابعين في الجزائر، فإن الجملة الإعلامية التي صاحبت هذا القرار الفرنسي وتوقيته تؤكد أنه ليس تقنيًا محضًا، إنما هو قرار سياسي بامتياز تم فيه استعمال مواطنين جزائريين لأغراض سياسية من إدارة الرئيس ماكرون لأهداف انتخابية.
ونبه الأمين العام لوزارة الخارجية رشيد شكيب قايد السفير الفرنسي إلى المكانة المحورية للعنصر البشري في العلاقة الجزائرية الفرنسية، مؤكدًا “ضرورة تسيير متوازن وشفاف طبقًا للأدوات القانونية الثنائية والعالمية لظاهرة تنقل الأشخاص”.
يعرّي قرار تشديد إجراءات منح التأشيرات الإدارة الفرنسية التي ترافع لاحترام حقوق الإنسان والتكفل بالمهاجرين لما يكونون في دولة غيرها، وتتناسى كل هذا كليًا لما يتعلق الأمر بها، فباريس لطالما استعملت مبدأ الازدواجية في التعامل في ملف الهجرة
وأوضح أن “الجزائر تستنكر هذا العمل المؤسف الذي يعرض للهشاشة والارتياب مجالًا حساسًا من مجالات التعاون، مجالًا يتطلب الثقة واحترام كرامة الأشخاص والالتزامات التي تبنتها الحكومتان”.
واستدعاء السفير الفرنسي للاحتجاج هو ثاني رد جزائري، فيوم الثلاثاء أعرب المبعوث الخاص المكلف بالقضية الصحراوية وبلدان المغرب العربي عمار بلاني عن أسفه للقرار الفرنسي، وقال بلاني: “القرار غير مناسب من حيث الشكل، لأنه يأتي عشية تنقل وفد جزائري لفرنسا بهدف تقييم جميع الحالات التي لم يبث فيها بعد، وتحديد الطرق العملية الأكثر ملاءمة من أجل تعزيز التعاون في مجال تسيير الهجرة غير الشرعية”.
ويدحض تصريح بلاني الادعاءات الفرنسية، بأن الجزائر رفضت استقبال مواطنيها ومعالجة ملف مهاجريها غير القانونيين في فرنسا، بما أن وفدًا رسميًا كان سينتقل إلى باريس لمعالجة الملف، بل إن الإعلان عن هذا القرار عشية تنقل الوفد الجزائري يؤكد أن إدارة الرئيس ماكرون سارعت إلى استغلال هذا الملف في حملتها الرئاسية قبل سحبها من بين يديها وإمكانية معالجته كليًا من الجزائر.
ولفت بلاني إلى أن “البعد الإنساني يوجد في قلب تفاصيل العلاقة الجزائرية الفرنسية والشراكة الاستثنائية القائمة بين البلدين”، مضيفًا “تسيير التدفق البشري يستدعي تعاونًا صريحًا ومفتوحًا، ويفرض إدارة مشتركة في ظل روح الشراكة وليس أمرًا واقعًا يخضع لاعتبارات أحادية خاصة بالجانب الفرنسي”.
ويعرّي قرار تشديد إجراءات منح التأشيرات الإدارة الفرنسية التي ترافع لاحترام حقوق الإنسان والتكفل بالمهاجرين عندما يكونون في دولة غيرها، وتتناسى كل هذا كليًا عندما يتعلق الأمر بها، فباريس لطالما استعملت مبدأ الازدواجية في التعامل بملف الهجرة، والجميع يتذكر أنها كانت من الأقل تكفلًا بأزمة تدفق اللاجئين السوريين التي حدثت في السنوات الأخيرة، إضافة إلى افتعالها خلاف مع إيطاليا في كل مرة بشأن موضوع التكفل بالمهاجرين السريين القادمين عبر البحر الأبيض المتوسط.
اتفاقية
ظل ملف الهجرة على الدوام مصدر خلاف بين الجزائر وباريس، الذي تحكمه الاتفاقية المتعلقة بالتنقل والتوظيف والإقامة في فرنسا للمواطنين الجزائريين وعائلاتهم التي وقعت في 27 من ديسمبر/كانون الأول 1968، عندما كان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة المتوفى منذ أيام وزيرًا للخارجية، التي تعد حجر الأساس في معالجة ملف تنقل الأشخاص بين البلدين.
وكانت اتفاقية 1968 تسمح للجزائريين بالسفر إلى فرنسا ببطاقة تعريف فقط ودون جواز سفر ودون تأشيرات، إلا أنه تم تعديلها عام 1986، لتفرض حينها التأشيرة على الجزائريين، وذلك بعد التفجيرات التي نفّذتها حركة “مجاهدي خلق” في فرنسا، لتحدث تعديلات أخرى أعوام 1993 و1998 و2001، التي قلصت من الامتيازات التي كانت للجزائريين الموجودين بفرنسا، إلا أنها أبقت لهم الأفضلية في الحقوق مقارنة بباقي الدول خاصة المغاربية والعربية.
وتنص الاتفاقية بموجب تعديل 2001 على تسوية وضعية الجزائريين الذين يتزوجون برعية فرنسية أو أجنبية لها وثائق إقامة في باريس، وفق بند لم شمل الأسرة، الذي يضمن لأفراد العائلة الحق في العلاج الصحي والوظيفة والتعليم، ومنح إقامة لمدة سنة قابلة للتجديد.
وتمكن بنود الاتفاقية الجزائريين مقارنة بباقي الأجانب من الحصول على ما يعرف بإقامة 10 سنوات بعد ثلاث سنوات من الإقامة، مقابل 5 سنوات في القانون العام الفرنسي، كما أنه بعد 10 سنوات من الإقامة بفرنسا – حال استطاع المعني إثباتها – يمكن للجزائري الذي يوجد في وضعية غير قانونية، الحصول آليًا على وثائق الإقامة.
لا أحد ينكر أن الوضعية التي يعيشها المهاجرون الجزائريون في فرنسا تتحمل مسؤولياتها بالدرجة الأولى السلطات الجزائرية، بالنظر إلى أن فشلها في توفير ظروف عيش وعمل محترمة لهم ببلادهم هي أبرز أسباب مغادرتهم البلاد حتى ولو كانت عبر قوارب موت، إلا أن ذلك لا يجب أن يخفي خبث إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون في العزف على وتر كل ما له علاقة بملف الهجرة والجزائر
ورغم هذه التعديلات، فإن باريس ظلت على الدوام تصر على مرجعة جديدة لاتفاقية 1986، خاصة في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي تبنى سياسة متشددة تجاه المهاجرين، كونه يرى أن قانون دخول وإقامة الأجانب في القانون العام لسياسة الهجرة بفرنسا، لا ينطبق على الرعايا الجزائريين، غير أنه لم يستطع تنفيذ تعديلاته التي تم التخلي عنها في عهد سلفه الاشتراكي فرانسوا هولاند.
وبعد موجة العمليات الإرهابية التي عرفتها فرنسا في السنوات الماضية ضمن هجمات الذئاب المنفردة التي نفذها تنظيم داعش في أوروبا، عاودت فرنسا طرح موضوع التعديلات في عهد إيمانويل ماكرون، وهو مطلب لا ترفضه الجزائر شكلًا غير أنها تصر على أن لا يمس بالميزات الممنوحة للجزائريين التي ليست منة، إنما هي نتاج الماضي المرير الذي عاشوه تحت الاستعمار الفرنسي.
لا أحد ينكر أن الوضعية التي يعيشها المهاجرون الجزائريون في فرنسا تتحمل مسؤولياتها بالدرجة الأولى السلطات الجزائرية، بالنظر إلى أن فشلها في توفير ظروف عيش وعمل محترمة لهم ببلادهم هي أبرز أسباب مغادرتهم البلاد حتى ولو كانت عبر قوارب موت، إلا أن ذلك لا يجب أن يخفي خبث إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون في العزف على وتر كل ما له علاقة بملف الهجرة والجزائر.
ولعل تكريم الحركى منذ أيام والإجراءات المتخذة ضد المساجد ببلاده وأئمتهم لا تختلف عن الإجراءات المشددة لمنح التأشيرات، بالنظر إلى أن كل هذا يندرج ضمن حملة رئاسية مسبقة تحاول كسب أصوات من المناصرين لليمين المتطرف.